الشارع المغاربي – بدعة‭ ‬عالمية‭ ‬من‭ ‬بودربالة‭:‬ برلمان‭ ‬بلا‭ ‬معارضة‭!‬ / بقلم: معز زيود

بدعة‭ ‬عالمية‭ ‬من‭ ‬بودربالة‭:‬ برلمان‭ ‬بلا‭ ‬معارضة‭!‬ / بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

17 مايو، 2023

الشارع المغاربي: بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يطغى‭ ‬على‭ ‬البرلمان‭ ‬السابق‭ ‬من‭ ‬هرجٍ‭ ‬ومرجٍ‭ ‬ألهاه‭ ‬عن‭ ‬القيام‭ ‬بمهامه‭ ‬الأساسيّة،‭ ‬فإنّ‭ ‬نسبة‭ ‬المشاركة‭ ‬الضعيفة‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬التشريعيّة‭ ‬الأخيرة‭ ‬أنبأت‭ ‬بأنّها‭ ‬ستُنتج‭ ‬برلمانًا‭ ‬هشًّا‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوّة‭ ‬له،‭ ‬غير‭ ‬أنّه‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬أنّ‭ ‬القائمين‭ ‬عليه‭ ‬سيسلبونه‭ ‬مجرّد‭ ‬رائحة‭ ‬المؤسّسات‭ ‬التشريعيّة‭ ‬الحقيقيّة‭. ‬هذه‭ ‬حال‭ ‬مجلس‭ ‬نوّاب‭ ‬الشعب‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬القبول‭ ‬حتّى‭ ‬بمبدأ‭ ‬وجود‭ ‬معارضة‭…‬

قُبيل‭ ‬المصادقة‭ ‬النهائيّة‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬قانون‭ ‬النظام‭ ‬الداخلي‭ ‬لمجلس‭ ‬نوّاب‭ ‬الشعب،‭ ‬أواخر‭ ‬الشهر‭ ‬الماضي،‭ ‬أسقطت‭ ‬الجلسة‭ ‬العامّة‭ ‬للبرلمان‭ ‬الفصل‭ ‬22‭ ‬المتعلّق‭ ‬بإدراج‭ ‬مفهوم‭ ‬المعارضة‭. ‬مرّ‭ ‬ذلك‭ ‬الحدث‭ ‬البرلماني‭ ‬الأهمّ‭ ‬يومها‭ ‬مرور‭ ‬المنسيّين،‭ ‬فقِيل‭ ‬إنّ‭ ‬تلك‭ ‬السقطة‭ ‬قد‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬التوازنات‭ ‬الغامضة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬البرلمان‭ ‬الجديد،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬نوّاب‭ ‬الشعب‭ ‬إبراهيم‭ ‬بودربالة‭ ‬لم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬أزاح‭ ‬وشاح‭ ‬الغموض‭ ‬عن‭ ‬مكوّنات‭ ‬مجلسه‭ ‬التشريعي‭ ‬الموقّر‭…‬

في‭ ‬أوّل‭ ‬حوار‭ ‬صحفي‭ ‬أجراه‭ ‬بعد‭ ‬المصادقة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الداخلي،‭ ‬لم‭ ‬ينف‭ ‬بودربالة‭ ‬رفضه‭ ‬للفصل‭ ‬المذكور‭ ‬المتعلّق‭ ‬بالتنصيص‭ ‬على‭ ‬المعارضة‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬نوّاب‭ ‬الشعب‭. ‬وبرّر‭ “‬معارضته‭ ‬للمعارضة‭” ‬في‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬إذاعة‭ “‬موزاييك‭” ‬بالقول‭ ‬حرفيّا‭ ‬إنّ‭ “‬هناك‭ ‬فلسفة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الدستور،‭ ‬وهي‭ ‬أنّ‭ ‬النائب‭ ‬له‭ ‬الحريّة‭ ‬المطلقة‭ ‬في‭ ‬مساندة‭ ‬مبادرات‭ ‬أو‭ ‬مشاريع‭ ‬قوانين‭ ‬تُقدّمها‭ ‬الجهة‭ ‬المعنيّة،‭ ‬الحكومة‭ ‬أو‭ ‬النوّاب،‭ ‬وكذلك‭ ‬له‭ ‬الحقّ‭ ‬في‭ ‬الاعتراض‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المشاريع‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬يُصنّف‭ ‬معارضًا‭ ‬أو‭ ‬مساندًا،‭ ‬لذلك‭ ‬فإنّ‭ ‬التصنيف‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬الحزبي‭ ‬أي‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬معارضة‭ ‬وهناك‭ ‬مؤيّدة‭ (‬موالاة‭)‬‭ ‬لا‭ ‬تنسجم‭ ‬مع‭ ‬فلسفة‭ ‬الدستور‭ ‬ومع‭ ‬الرؤيا‭ ‬التي‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬أغلب‭ ‬الزملاء‭ ‬ترشّحوا‭ ‬ونالوا‭ ‬ثقة‭ ‬الشعب‭”… ‬

مكابرة‭ ‬بلا‭ ‬مضمون‭..‬

لن‭ ‬نخوض‭ ‬هنا‭ ‬كثيرًا‭ ‬فيما‭ ‬رواه‭ ‬بودربالة‭ ‬عن‭ ‬مسألة‭ “‬ثقة‭ ‬الشعب‭” ‬أو‭ “‬إرادة‭ ‬الشعب‭” ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المصطلحات‭ ‬وسائر‭ ‬العبارات‭ ‬التي‭ ‬أفرغها‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬المتهافت‭ ‬من‭ ‬جلّ‭ ‬مضامينها‭ ‬البرّاقة،‭ ‬إذ‭ ‬يُدرك‭ ‬القاصي‭ ‬والداني‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬الإرادة‭ ‬الشعبيّة‭ ‬غابت‭ ‬تمامًا‭ ‬يوم‭ ‬الانتخابات‭ ‬حين‭ ‬ولّى‭ ‬التونسيّون‭ ‬وجوههم‭ ‬وأصابعهم‭ ‬وهاماتهم‭ ‬عن‭ ‬صناديق‭ ‬الاقتراع،‭ ‬لا‭ ‬بسبب‭ ‬احتجاجات‭ ‬الأحزاب‭ ‬المعارضة‭ ‬التي‭ ‬غمرها‭ ‬الضعف‭ ‬والتجاهل،‭ ‬وإنّما‭ ‬جرّاء‭ ‬ضمور‭ ‬أحلام‭ ‬جموع‭ ‬التونسيّين‭ ‬وانحصار‭ ‬انشغالاتهم‭ ‬في‭ ‬الفوز‭ ‬برغيف‭ ‬الخبز‭ ‬والملبس‭ ‬والمسكن‭ ‬والنقل‭ ‬وتدريس‭ ‬أبنائهم‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬ظرف‭ ‬اجتماعي‭ ‬تكتنفه‭ ‬القسوة‭ ‬والتفقير‭ ‬والغلاء‭ ‬المشِطّ‭ ‬للأسعار‭…‬

ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإنّه‭ ‬بغياب‭ ‬هذا‭ ‬الحدّ‭ ‬من‭ ‬مشروعيّة‭ ‬الحديث‭ ‬باسم‭ ‬الشعب،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأولى‭ ‬والأجدى‭ ‬أن‭ ‬يتجنّب‭ ‬القائمون‭ ‬على‭ ‬البرلمان‭ ‬الهُمام،‭ ‬وفي‭ ‬مقدّمتهم‭ ‬رئيس‭ ‬المجلس‭ ‬ابتداع‭ ‬مفاهيم‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬مطلقا‭ ‬بالأنظمة‭ ‬السياسيّة‭ ‬الديمقراطيّة‭ ‬في‭ ‬مشارق‭ ‬الأرض‭ ‬ومغاربها‭. ‬سمّاها‭ ‬بودربالة‭ ‬إذن‭ ‬بـ‭”‬فلسفة‭ ‬جديدة‭” ‬تقطع‭ ‬مع‭ ‬التصنيف‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬الحزبي‭ ‬المتكوّن‭ ‬من‭ ‬معارضة‭ ‬وموالاة‭. ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬لم‭ ‬يُحدّث‭ ‬بودربالة‭ ‬التونسيّين‭ ‬عن‭ ‬كُنه‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬المبتدعة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُدرَّسُ‭ ‬مناهجها‭ ‬في‭ ‬المعاهد‭ ‬والجامعات،‭ ‬بل‭ ‬ويجهل‭ ‬معالمها‭ ‬وعوالمها‭ ‬أساتذة‭ ‬الفلسفة‭ ‬وعلماء‭ ‬السياسة‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭… ‬والحقيقة‭ ‬أنّ‭ ‬بودربالة‭ ‬قد‭ ‬أجاز‭ ‬القول‭ ‬بأنّ‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬ترفض‭ ‬التنصيص‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬المعارضة‭ ‬في‭ ‬البرلمان‭ ‬تعتبر‭ ‬أنّ‭ “‬التصنيف‭ ‬الكلاسيكي‭.. ‬لا‭ ‬ينسجم‭ ‬مع‭ ‬الرؤيا‭ ‬التي‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬ترشّح‭ ‬الزملاء‭ ‬ونالوا‭ ‬ثقة‭ ‬الشعب‭”. ‬وكأنّ‭ ‬لسان‭ ‬حاله‭ ‬يقول‭ ‬إنّ‭ ‬نوّاب‭ ‬البرلمان‭ ‬الجديد‭ ‬كانوا‭ ‬يُدركون،‭ ‬تمام‭ ‬الإدراك،‭ ‬عند‭ ‬خوض‭ ‬غمار‭ ‬الانتخابات‭ ‬التشريعيّة‭ ‬أنّهم‭ ‬لن‭ ‬ينضمّوا‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬تشريعي‭ ‬مكتمل‭ ‬الصفات‭ ‬والشروط‭ ‬والمكوّنات‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها‭ ‬دوليّا‭ ‬وقانونيا‭ ‬وأخلاقيّا‭ ‬وإنّما‭ ‬سيُنتدبون‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬هيكل‭ ‬مطواع‭ ‬أحاديّ‭ ‬الفكر‭ ‬والتوجّهات‭ ‬والمواقف‭…! ‬منتهى‭ ‬الإحراج‭ ‬لكلّ‭ ‬من‭ ‬توهّم‭ ‬أنّه‭ ‬سيكون‭ ‬صوتا‭ ‬لهذا‭ ‬الشعب‭ ‬المسكين‭…!‬

في‭ ‬الحوار‭ ‬الصحفي‭ ‬ذاته،‭ ‬كرّر‭ ‬بودربالة‭ ‬متيقّنّا‭ ‬أنّ‭ “‬المفهوم‭ ‬الجديد‭ ‬هو‭ ‬أنّنا‭ ‬مع‭ ‬الوظيفة‭ ‬التنفيذيّة‭ ‬التي‭ ‬لنا‭ ‬معها‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬عندما‭ ‬تُقدّم‭ ‬عملا‭ ‬ونعتقد‭ ‬أنّه‭ ‬عمل‭ ‬إيجابي‭ ‬لا‭ ‬نستحي‭ ‬من‭ ‬مساندته،‭ ‬أمّا‭ ‬إذا‭ ‬قدّمت‭ ‬عملا‭ ‬رأينا‭ ‬أنّه‭ ‬غير‭ ‬إيجابي‭ ‬لا‭ ‬نستحي‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬معارضة‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭”… ‬كلام‭ ‬واضح،‭ ‬لكن‭ ‬أين‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ “‬المفهوم‭”‬،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬دوره‭ ‬الرقابي‭ ‬المفترض‭ ‬لعمل‭ ‬السلطة‭ ‬التنفيذيّة،‭ ‬لماذا‭ ‬إذن‭ ‬هذا‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬تغييب‭ ‬المعارضة‭ ‬بصفتها‭ ‬تلك‭ ‬في‭ ‬البرلمان؟‭! ‬

لم‭ ‬نكن‭ ‬نتصوّر‭ ‬إذن‭ ‬أنّ‭ ‬الأمر‭ ‬سيصل‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬نكران‭ ‬مفهوم‭ ‬المعارضة‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬عليه‭ ‬الأنظمة‭ ‬الديمقراطيّة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بأسره‭. ‬فالمعارضة‭ ‬في‭ ‬تعريفها‭ ‬المعلوم‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مكان‭ ‬هو‭ ‬أنّها‭ ‬تضمّ‭ ‬مجموع‭ ‬الحركات‭ ‬والأحزاب‭ ‬التي‭ ‬تعارض‭ ‬القوى‭ ‬السياسيّة‭ ‬الماسكة‭ ‬بالحكم‭ ‬والتي‭ ‬تدير‭ ‬أجهزة‭ ‬الدولة‭ ‬ومؤسّساتها‭. ‬أمّا‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬التمثيليّة‭ ‬الديمقراطيّة‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬برلمان‭ ‬منتخب‭ ‬شعبيًّا،‭ ‬فإنّ‭ ‬المعارضة‭ ‬تضمّ‭ ‬تحديدا‭ ‬الأحزاب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتمي‭ ‬عادة‭ ‬للأغلبيّة‭ ‬البرلمانيّة‭ ‬وللتحالف‭ ‬الحاكم،‭ ‬ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬تقابل‭ ‬الحزب‭ ‬الديمقراطي‭ ‬والحزب‭ ‬الجمهوري‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وحزب‭ ‬المحافظين‭ ‬وحزب‭ ‬العمّال‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬وغيرها‭ ‬كثير‭… ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬الأنظمة‭ ‬الديمقراطيّة‭ ‬قد‭ ‬مرّت‭ ‬بفترات‭ “‬تعايش‭” ‬بين‭ ‬أغلبيّة‭ ‬برلمانيّة‭ ‬معارضة‭ ‬لسلطة‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬مثلما‭ ‬حصل‭ ‬سابقا‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬فإنّ‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يُغيّر‭ ‬مكانة‭ ‬المعارضة‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬بل‭ ‬يُعزّزها‭. ‬هذا‭ ‬المنوال‭ ‬التشريعي‭ ‬والسياسي‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إذن‭ ‬إلى‭ ‬فلسفة‭ ‬قديمة‭ ‬أو‭ ‬جديدة،‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأنّ‭ ‬البرلمان‭ ‬التونسي‭ ‬الجديد‭ ‬سيُحدث‭ ‬ثورة‭ ‬مفاهيميّة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المؤسّسات‭ ‬التشريعيّة‭ ‬في‭ ‬العالم‭…!‬

إعادة‭ ‬إنتاج‭..‬

بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الشعارات‭ ‬والتمويهات‭ ‬الخطابيّة‭ ‬يبدو‭ ‬واضحًا‭ ‬أنّ‭ ‬بودربالة،‭ ‬الذي‭ ‬يفتخر‭ ‬بأنّه‭ ‬أمضى‭ ‬ستّا‭ ‬وأربعين‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬المحاماة‭ ‬توّجها‭ ‬برئاسة‭ ‬العمادة،‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬بفعل‭ ‬خارق‭ ‬أو‭ ‬جديد،‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬التنكّر‭ ‬لثوابتٍ‭ ‬معلومة‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬نظام‭ ‬يعتمد‭ ‬الديمقراطيّة‭ ‬التمثيليّة‭. ‬فحتّى‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الدولة‭ ‬البوليسيّة‭ ‬الحقيقيّة،‭ ‬لا‭ ‬السلطويّة‭ ‬الرخوة،‭ ‬لم‭ ‬تُسلب‭ ‬المعارضة‭ ‬تسميتها‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تُنعت‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬بـ‭”‬المعارضة‭ ‬الكرتونيّة‭” ‬لأنّها‭ ‬كانت‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬خوض‭ ‬ما‭ ‬يتطلّبه‭ ‬موقعها‭ ‬من‭ ‬نضال‭ ‬وصراع‭ ‬ميداني‭ ‬سلمي،‭ ‬فكان‭ ‬نشاطها‭ ‬آنذاك‭ ‬مناسباتيا‭ ‬ويقتصر‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬بعض‭ ‬الندوات‭ ‬أو‭ ‬إصدار‭ ‬البيانات،‭ ‬باعتبار‭ ‬أنّها‭ ‬اكتفت‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬يسمح‭ ‬لها‭ ‬به‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬السابق‭ ‬من‭ ‬هوامش‭ ‬تحرّك‭ ‬محدودة‭ ‬أبقتها‭ ‬دائما‭ ‬منعزلة‭ ‬عن‭ ‬القواعد‭ ‬الشعبيّة‭. ‬لا‭ ‬نتحدّث‭ ‬هنا‭ ‬طبعا‭ ‬عن‭ ‬جماعة‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬لأنّها‭ ‬كانت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تُمعن‭ ‬بدورها‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬المعجم‭ ‬الديمقراطي‭ ‬للسطو‭ ‬على‭ ‬الديمقراطيّة‭ ‬وتفريغها‭ ‬من‭ ‬أهمّ‭ ‬مضامينها‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬المواطنة،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الطاعة‭ ‬والغنيمة‭ ‬والمظلوميّة‭ ‬ورفض‭ ‬مراجعة‭ ‬أخطائها‭ ‬وتجاوزاتها‭ ‬التي‭ ‬مهّدت‭ ‬لوصول‭ ‬البلاد‭ ‬إلى‭ ‬الحال‭ ‬التي‭ ‬عليها‭ ‬اليوم‭…‬

وكما‭ ‬عمد‭ ‬نظام‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬سابقا‭ ‬إلى‭ ‬سحب‭ ‬البساط‭ ‬من‭ ‬المعارضة‭ ‬عبر‭ ‬السطو‭ ‬على‭ ‬المعجم‭ ‬السياسي‭ ‬للأحزاب‭ ‬السياسيّة‭ ‬وانتحال‭ ‬شعاراتها‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بالممارسة‭ ‬الديمقراطيّة،‭ ‬فإنّ‭ ‬البرلمان‭ ‬الحالي‭ ‬قد‭ ‬أقرّ‭ ‬بدوره‭ ‬بأنّ‭ ‬نظامه‭ ‬الداخلي‭ ‬يكفل‭ “‬حريّة‭ ‬الرأي‭ ‬والفكر‭ ‬والتعبير‭ ‬لجميع‭ ‬أعضائه‭” ‬ويضمن‭ “‬حريّة‭ ‬المعارضة‭”‬،‭ ‬لكنّه‭ ‬حصرها‭ ‬في‭ ‬منظور‭ ‬لا‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬فلسفته‭ ‬الجديدة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬اتّجاه‭ ‬واحد‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬رأس‭ ‬السلطة‭. ‬وكأنّ‭ ‬مشاهد‭ ‬التاريخ‭ ‬تتكرّر،‭ ‬لتُذكّرنا‭ ‬مثلا‭ ‬بمفهوم‭ “‬المعارضة‭ ‬المساندة‭” ‬الذي‭ ‬ابتدعه‭ ‬محمد‭ ‬حرمل‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬الراحل‭ ‬للحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬التونسي‭ ‬وحركة‭ ‬التجديد‭ ‬سابقا‭ ‬حين‭ ‬أعلن‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬أكتوبر‭ ‬1999‭ ‬قائلا‭ “‬موقفنا‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬وخارج‭ ‬الانتخابات‭ ‬هو‭ ‬مساندة‭ ‬الرئيس‭.. ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬المعارضة‭ ‬تؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬القطيعة‭ ‬مع‭ ‬السلطة‭ ‬فهي‭ ‬تفقد‭ ‬وظيفتها،‭ ‬نحن‭ ‬نساند‭ ‬السلطة‭ ‬وهذا‭ ‬محلّنا‭ ‬في‭ ‬الإعراب‭ ‬السياسي‭”…‬

على‭ ‬هذا‭ ‬المنوال‭ ‬التهم‭ ‬بودربالة‭ ‬إذن‭ ‬المفهوم‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه‭ ‬للمعارضة،‭ ‬مُختلِقًا‭ ‬بدعةً‭ ‬برلمانيّة‭ ‬لا‭ ‬تستوعب‭ ‬اشتراطات‭ ‬أيّ‭ ‬نظام‭ ‬ديمقراطي‭ ‬حقيقي‭. ‬والحال‭ ‬تلك،‭ ‬فإنّ‭ ‬البرلمان‭ ‬الجديد‭ ‬يصعب‭ ‬أن‭ ‬يُتيح‭ ‬إمكانيّة‭ ‬تشكيل‭ ‬قوى‭ ‬برلمانيّة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬كبح‭ ‬جماح‭ ‬السلطة‭ ‬وتعديل‭ ‬مشاريعها‭ ‬وخاصّة‭ ‬تيسير‭ ‬التداول‭ ‬السلمي‭ ‬على‭ ‬السلطة‭. ‬فلا‭ ‬معنى‭ ‬إطلاقا‭ ‬لوجود‭ ‬برلمان‭ ‬تساند‭ ‬كلّ‭ ‬كتله‭ ‬سياسات‭ ‬السلطة‭ ‬التنفيذيّة،‭ ‬باستثناء‭ ‬ما‭ ‬ندر،‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬السلطويّة‭ ‬التي‭ ‬تدّعي‭ ‬الديمقراطيّة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تقبل‭ ‬الحدّ‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬شروطها‭…‬

*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 ماي 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING