الشارع المغاربي – بعد صفعة الانتخابات البلدية: نداء تونس.. نهاية مشروع 

بعد صفعة الانتخابات البلدية: نداء تونس.. نهاية مشروع 

11 مايو، 2018

الشارع المغاربي – وليد أحمد الفرشيشي : لئن كشفت النتائج الأوليّة للانتخابات البلدية التي جرت أوّل أمس في تونس عن جملة من المفاجآت، لعلّ أهمّها ما اصطلح على تسميته بـ«الصفعة» التي وجهها ثلثا من يحقّ لهم التصويت من التونسيين إلى الأحزاب السياسيّة، وتحديدا أحزاب السلطة من خلال مقاطعة الموعد الانتخابي والعزوف عن التصويت، فإنّ الحصاد النهائيّ للحزب الحاكم أي حركة نداء تونس كان أقلّ بكثير مما يمكنُ أن تنتجهُ أرض بور وقد توفّرت لهذا الحزب، الذي يمسكُ عمليا وواقعيا بالرئاسات الثلاث، كلّ العوامل المادية واللوجيستية والإعلامية وحتى توظيف أجهزة الدولة لتحقيق «نزهة» انتخابية نظريًّا.

ذلك أنّ هذا الحزب نجح في تدمير ما أنجزه في سنة 2014 بخسارتهِ أمام غريمه المباشر حركة النهضة حين حلّ ثانيا وراءها متحصّلاً على 22.5 بالمائة من الأصوات مقابل 27.5 بالمائة لحركة النهضة، حسب نتائج أوليّة واستطلاع رأي أجري عند خروج الناخبين، ليفقد الحزب بهذه الطريقة حوالي «مليون» صوت من أصوات ناخبيه بعد أقلّ من أربع سنوات على صعوده إلى الحكم وقبل سنة ونصف تقريبًا عن الاستحقاقين الرئيسيّين أي الانتخابات الرئاسية والتشريعية المبرمجة لسنة 2019.

رحلة الصعود إلى الهاوية !

هنا قد تبدو الأرقام منصفة أيضا في توزيع خسارة أصوات الناخبين على بقية الأحزاب المشاركة وخاصة حركة النهضة، التي فقدت بدورها حوالي 500 ألف صوت من أصوات ناخبيها، ولكنّ خسارة النهضة في ميزان الدفوعات السياسي لم تمسّ نواتها الصلبة التي ظلّت محافظة على استقرارها وإن كشفت في نفس الوقت عن الحجم الحقيقي لهذا الحزب الذي تصوّره أدبيات الأحزاب المنافسة على أنّه «البعبع» الذي يهدّد بابتلاع مشروع الجمهورية الثانية، بالمقابل شكلت خسارة نداء تونس لحوالي تسع مائة الف  من أصوات ناخبيه، تتويجًا لمرحلة كاملة من التشققات والصراعات الداخليّة والفضائح السياسية، حوّلت هذا الحزب الذي قدّم غداة تأسيسه كضمانة لاستمرارية المشروع الإصلاحي التونسي، التي تعتبرُ البورقيبية نواته الصلبة بل وقلبه النابض، إلى مجموعة من الكيانات السياسية المتنافرة المتعايشة تحت سقف واحد، هو سقف المدير التنفيذي للحزب، حافظ قائد السبسي، سقف تتعايشُ فيه أيضا كلّ أنواع  العاهات السياسية كالمحسوبيّة والزبونية السياسية والانتدابات العشوائيّة.

لقد نجح حافظ قائد السبسي لوحده، مدفوعا بغريزة البقاء في الموقعأملاً ربّما في تمديد نفوذه إلى ما أبعدفي تحقيق ما فشل فيه بقية خصومه السياسيين، وهو تحويل المشروع الندائيّ، الجامع للتونسيين تحت شعار الإصلاح والتحديث في نسخته التأسيسية، إلى مسخٍ أنكره الآباء المؤسسون لهذا المشروعباستثناء الأب الرئيسوانفضّ من حوله أغلب من صوّت له حماية للمشروع المجتمعي التونسيّ، ليقع تتويجُ مرحلته بخسارة مذلّة في الانتخابات البلدية الأخيرة.

وهنا بالتأكيد، قد لا يكونُ حافظ قائد السبسي المسؤول الأوّل عن رحلة الصعود إلى الهاوية، وإنّما العامل الرئيسي في تسريع انهيار الحزب، إذ حجز لنفسه موقعًا ثابتًا في كلّ المواجهات التي انتهت بتفريغ الحزب وتمزيقه في ما بعد، سواءً في صراعه مع محسن مرزوق أو رضا بلحاج، أو مناوراته في الفناء الخلفيّ لقصر قرطاج أو القصبة،  وهو ما كشفته فضيحة التسجيلات المسرّبة في إبانها، أو ارتمائه في حضن «الشيخ» راشد الغنوشي، رئيس الحزب الحليف/الغريم، أو في تفكيكه لما اصطلح بتسميته بـ«حكومة الوحدة الوطنية»، أو أخيرًا بفتح الباب أمام الانتدابات التي ألحقت عددا من العاطلين السياسيين، بمشروع  لم يشاركوا في بلورتهِ، الذين سرعانَ ما أصبحوا بدورهم كورال صوتّي يكررون وراءه ذات النغمة الناشزة.

نهاية مشروع؟

إنّ التركيز على شخص المدير التنفيذي لا يقصدُ من ورائه، مرّة أخرى، تحميل هذا الأخير مسؤولية سقوط مشروعٍ بأكمله جمع في لحظة تاريخية فارقة أغلب الحساسيات السياسية والاجتماعية، دساترة ويساريين ونقابيين ومثقفين، على جملة سحريّة هي «حماية النمط المجتمع التونسيّ»، هذا المشروع الذي استلهمت دعاماته الرئيسية من المسار الإصلاحي للزعيم الحبيب بورقيبة، بل إنّ المسار نفسه سرعان ما انحرف إلى رؤية أخرى وبهدفٍ واضح وهو استعادة الدولة من الإخوان ومواليهم، وهو ما تمكن نداء تونس من تحقيقه في تشريعيات ورئاسيات 2014

ولكنّ ما الذي حدث بعدها؟ لقد فشل الحزب في أغلب المحطات التي تلت «مأسسة المشروع» والتي نجملها في النقاط التالية: أوّلاً، فشل الحزب في الحفاظ على «تمايزه الخطّي» ليجد نفسه مجبرًا، نتيجة ما أفرزه صندوق الاقتراع، إلى الدخول في مرحلة التوافق مع خصمه السياسي والمجتمعي، أي حركة النهضة، وهو ما أدّى في النهاية إلى موجة الهجرة الأولى لأهم القيادات المؤسّسة التي رأت في هذا التحالفِ طعنة من الخلف. ثانيًا، فشل الحزب في الخروج من مأزق تأسيسه، ذلك أنّ نداء تونس ظلّ محافظا على طبيعة الجبهة الانتخابية دون أن يتحوّل واقعًا إلى حزبٍ له مؤسسات وهياكل منتخبة، وحتى المؤتمر التأسيسي الشكلي الذي احتضنته مدينة سوسة، لم يؤدّ إلاّ لمزيد تمزيق أوصال الحزب وتحقيق موجات هجرة جديدة نحو مشاريع سياسية أخرى رديفة. وفي الوقت الذي عقدت فيه بقية الأحزاب الكبرى مؤتمراتها وجددت هياكلها، فضّل المدير التنفيذي أو من دفع به إلى ذلك الموقع، أن يحافظ على جثة باردة بلا روح. ثالثًا، فشل الحزب في الخروجِ أيضا من مأزق «الشخصنة»، ففي غياب المؤسسات والهياكل المنتخبة، وفي غياب الديمقراطية الداخليّة التي تعتبر دون شكّ صمام أمان وعامل تنفيس داخليّ لكل المشارب والرؤى المختلفة، بقي نداء تونس يعتاشُ على منجز الأب المؤسس، الباجي قائد السبسي، قبل أن ينحرف إلى ما يشبه الطائفة التي تعبدُ ابنه حافظ قائد السبسي، ومن هنا تسللت كلّ الشرور السياسية على غرار المال الفاسد الذي فاحت رائحته في أروقة الحزب أو في البرلمان، علاوة على المحسوبيّة في التعيينات في الحقائب الوزارية مرورًا بحركات الولاة والمعتمدين وانتهاءً بفتح الباب أمام جنود الصفيح الذين رأوا في قائد السبسي الابن ما يشبه «الإلدورادو» أو جنة الذهب الضائعة لتحقيق مكاسبهم. رابعًا وأخيرًا، فشل الحزب في استباق حركات حليفه/خصمه حركة النهضة، وهي تدفعُ به إلى تحمّل مسؤولية الحكم طيلة هذه السنوات مع ما تحملهُ من نوائب اقتصادية واجتماعية، مسارعة في كلّ مرة إلى مباركة أية عملية جراحية يدعو لها رئيس الجمهورية، سواء تعلّق الأمر بوثيقة قرطاج الأولى أو الثانية، أو المصادقة على كلّ عملية تحوير وزاري، جزئية أو جذرية، أو حتى المصادقة على كلّ ما يطلبُ منها أن تصادق عليه، في الوقت الذي كان تشتغلُ فيه على «قاعدة الهرم» لا «قمته»، أي على ترسيخ وجودها في الهامش المجتمعي، متسلّلة إليه في ثوبٍ عصريّ حداثيّ يقطعُ مع صورتها السابقة، لتحصد ثمار إستراتيجيتها بتصدرها نتائج الانتخابات البلدية الممهدة بدورها لاستحقاقات سنة 2019 في شقيها الرئاسي والتشريعي.

كلّ هذا يدفعُ بنا إلى القول أنّ مشروع نداء تونس الأصليّ انتهى بالفعل وكلّ الفلسفة التي ارتكز عليها الآباء المؤسسون، تحوّلت إلى شعارات مموهة يرفعها جنود الصفيح في بلاتوهات الإذاعات والتليفزيونات، بشكل استعراضيّ، دون أن يقع تجسيمها على الأرض تماما كباقي الوعود الانتخابية التي ألقيت في سلّة المهملات بعد الصعود إلى الحكم.

ثنائية الشكّ والغفلة !

وهذا ما يدفعنا في النهاية إلى التساؤل عن مستقبل هذا الحزب، على الأقل في المنظور القريب، بعد عثرتيه المدوّيتين في الانتخابات الجزئية عن دائرة ألمانيا أو في الانتخابات البلدية، ذلك أنّ واقع الحال لا يفيدُ أنّ من يشرف اليوم على نداء تونس قد استخلص الدرسَ بعدُ من كلّ هذه المحطات، بل إنّ الأسوأ من ذلك كلّه، هو خروج قيادات الحزب مشككة في نتائج الانتخابات، حتى قبل الاعلان الرسمي عن نتائجها، على الرغم من استنفار الحزب لأجهزة الدولة لإنجاح مغامرته الانتخابية. ورغم الهدوء الحذر الذي طغى على خطاب حركة النهضة بعد تحقق فوزها على حليفها، فإنّ التشنّج الذي بدا عليه حافظ قائد السبسي (الذي خرق الصمت الانتخابي بالمناسبة) وهو يغرف بيديه من وعاء الشعارات القديم وتحديدًا من مفردات النسخة الأصلية لمشروع تونس، أو ما بدا عليه رئيس الحكومة نفسهِ، الذي تخلّى عن واجب التحفّظ في كلمته، ليشكك بطريقته الخاصة في النتائج، أو تصريحات وتدوينات القيادات الندائيّة المهرولة بدورها نحو سياسة التشكيك، قلنا أنّ هذا التشنّج لا يمكن بأيّة حال سوى أن يرفع من منسوب «الغفلة» لدى قيادات هذا الحزب وكوادره ومنتدبيه. ذلك أن الانتخابات، سواء كانت بلدية أو تشريعية أو رئاسية، لا يمكن أن تكسبً بثنائية «الشك والغفلة» وإنّما بالعمل الحزبي الميداني المبني على مؤسسات وهياكل ديمقراطية منتخبة، تلك الديمقراطيّة الداخليّة التي تصعّدُ الأصلح أو «المادة الشخمة» القادرة على حلّ مشاكل المواطن وعلى رأسها الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام للبلاد.

وفي غياب هذا التمشيّ الاستراتيجي، لا يبدو أن المستقبل يحتفي بنداء تونس ولا بإطلالات مديره التنفيذي ولا حتى بالدعم المعنوي الذي يوفره له الرئيس المؤسس ورئيس حكومته، مثلما لا يحفلُ بالغفلة المتمكنّة من عقول قياداته ،مثلما تواصلُ أحزاب حديثة في تأسيسها تقدمها في المشهد كالتيار الديمقراطي وغيره، ومثلما يواصلُ المستقلون وحساسيات أخرى توفير البدائل المغرية للشباب العازف عن العمل الحزبيّ وللتونسيين العازفين بدورهم عن الأحزاب السياسية.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING