الشارع المغاربي – بورتري "الرئيس" : قيس سعيّد ...صوت مختلف وخطاب مُوارب!

بورتري “الرئيس” : قيس سعيّد …صوت مختلف وخطاب مُوارب!

7 سبتمبر، 2019

الشارع المغاربي – بقلم معز زيود: قيس سعيّد المرشّح للانتخابات الرئاسيّة شخصيّة إشكاليّة بامتياز. فعلى الرغم من افتقاد صاحب الصوت الجهوري والخطاب الفصيح لهيكل حزبي يسنده، فإنّه حقّق صعودا في “نوايا التصويت” لم يتوقّعه سابقا سواه!. راهن على أن يكون مختلفا عن سائر المرشحين، وهكذا أفلح إلى حين…

ليس من اليسير رسم ملامح شخصيّة سياسيّة مثل قيس سعيّد، رغم ظواهر الأمور. فقد قدم إلى المعترك السياسي من مدرج الجامعة حيث كان يُدرّس القانون الدستوري، غير أنّ مواقفه المعلنة تكشف برنامجا سياسيّا يضرب في مقتل كلّ مقوّمات القانون الوضعي الذي بذل حياته لـ”تلقينه” للطلبة على امتداد عقود. فالأمر لا يقف عند موقفه الرافض للمساواة، بل يتجاوزه إلى اعتزامه إلغاء الانتخابات التشريعيّة إذا وصل إلى قصر الرئاسة. والحال أنّه يُدرك تماما دائرة الصلاحيّات المحدودة التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهوريّة، لاسيما أنّه يفتقد حزامًا حزبيًا أو كتلة برلمانيّة بما يكفل القدرة على المناورة وشبك تحالفات لتفعيل الحدّ الأدنى ممّا يُبشّر به…

أهميّة التفاصيل
بصرف النظر عن الترتيب الذي حدّدته استطلاعات الرأي هنا وهناك، فإنّ سعيّد يأتي في كلّ الأحوال ضمن كوكبة المرشّحين الستّة أو السبعة الذين يمتلكون حظوظا جديّة للمنافسة على منصب رئيس الجمهوريّة المقبل. ومن دون شكّ فإنّ سعيّد عرف كيف يخطّ نهجا ميّزه عن سائر منافسيه، إنْ سلبًا أو إيجابًا. فهو ليس ممّن يُمكن أن تُنسى ملامحه، ولاسيما صوته الجهوري الذي من أجله أحبّه الكثيرون واختاروا أن يكونوا من أنصاره. يُذكّرنا هذا بإعلان البعض مناصرة نبيل القروي من أجل استمرار بثّ قناته المسلسلات التركيّة “المدبلجة” باللهجة التونسيّة !. قد تكون هذه السمة تفصيلا جزئيّا، لكن يبدو أنّه كان محدّدا إلى حدّ ما في اختيارات البعض.
هكذا أضحى الصوت القيسي، في ظرف سنوات، مألوفا لدى التونسيّين. فقد بدا ذا أوتارٍ عالية وحروفٍ فخمة وكلامٍ جزل فصيح… يستشعر من يُتابع معظم تصريحاته وحواراته أنّه بصدد اقتحام واقعي لعالم المسلسلات التلفزيونيّة التاريخيّة المعروضة عادةً خلال شهر رمضان، والمنسوجة بلغة عربيّة هادرة على غرار “الكواسر” و”الجوارح” و”البواسل” وغيرها…
ومع ذلك فإنّ ميزة هذا الصوت المفعم بعبق التاريخ أنّه كان ينسج خطابا على علاقة مباشرة بالواقع السياسي للتونسيّين. والأكثر من ذلك أنّه ما فتئ يُركّز على “خطاب الهويّة” وخطّ الثورة المنسيّة.

خطاب الهويّة والثوريّة
استخدم سعيّد خطابًا وجدانيًا مواربًا، حاول من خلاله دغدغة المشاعر الدينيّة للتونسيّين، ولاسيما في الأوساط الشعبيّة المحافظة. كما سعى إلى استقطاب أصحاب “الطروحات الثوريّة”، وهو ما يُحيلنا إلى ما يبدو من تلازم بين أعمدة ثلاثة على أهميّة قصوى بالنسبة إلى المجتمع التونسي الراهن وتتمثّل في الهويّة والدين والثورة.
ومن أهمّ مواقفه في هذا المضمار تأكيده الصريح على رفض المساواة التّامة بين النساء والرجال، صادحًا مرارًا بجملته الشهيرة: “أنا ضدّ المساواة في الميراث والنصّ القرآني واضح وغير قابل للتأويل”. وردّا على منتقديه بأنّ في موقفه انقلابا صريحا على الدستور والدولة المدنيّة، رغم أنّه أستاذ في القانون الدستوري، هرع سعيّد في مناسبات عدّة إلى اعتماد خطاب ديماغوجي صرف، معتبرًا أنّ الدولة ذات معنويّة. ومن ثمّة لا يمكن أن تكون مدنيّة أو دينيّة، على خلاف ما يمكن أن يكون عليه مثلا تيّار سياسي أو كيان حزبي مّا. وهو موقف ينطوي على تناقض بائن، ففي حال كان الأمر كما يُردّد، لماذا أعاد سعيّد مسألة المساواة في الميراث إلى تأويل ديني محض؟!، بدلا من تنزيل مقتضيات الدستور في فصله الـ21 القائلة: “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز”؟!. وهو يدرك من دون شكّ أنّه في حال فوزه سيُؤدي قسم احترام الدستور واضعًا يده على المصحف، لكنّه يُضمر سلفا أنّه سيكون أوّل من ينتهكه.

شعبويّة فائقة
إن لم تغب “الشعبويّة” عن عدد من المرشحين البارزين، فإنّ سعيّد لم ينفكّ يتحدث باسم الشعب، وجعل نفسه بديلا عن النخب السياسيّة التي لم تحصد سوى الفشل. فقد بدا على قناعة تامّة بأنّه يُمثّل رجل الإنقاذ “المختار” شعبيّا قبل إجراء الاقتراع العام. يقول إنّه سيعمل إن فاز في الانتخابات على “تطبيق المشروع الحقيقي الذي يُطالب به الشعب التونسي”، وعلى حدّ تعبيره فإنّ “الدستور الحقيقي هو الذي خطّه شباب الثورة على الجدران.. أنا أمشي في الطريق التي عبّدها الشباب التونسي، وليست خرائط الطريق التي عبّدها رجال السياسة”… وهذا ما يوضّحه أيضا الشعار الذي اختاره سعيّد لحملته الانتخابيّة وهو “قيس سعيّد: الشعب يريد”، فبمجرّد عمليّة تقديم وتأخير بسيطة يتبيّن لنا أنّ المقصود هو: “الشعب يريد قيس سعيّد”.
والأكثر من ذلك أنّ تضخّم الأنا قد دفع صاحبه إلى المغالطة بشأن نوازعه والإيهام بأنّه “مكره لا بطل” في الترشح للانتخابات الرئاسيّة، حتّى أنّه لم يتردّد في القول إنّه مكره على ذلك، مستشهدا بالآية القرآنيّة: “كُتِب عليكم القتال وهو كره لكم”… وبصريح العبارة قال من لم يسبق له -وفق تأكيده- دخول خلوة الاقتراع العام إنّ “السلطة بالنسبة إليّ بلاء وابتلاء وامتحان وهَمّ… ومن يضطلع بهذه المسؤوليّة لا ينبغي أن يتلقّى برقيّات التهاني، وإنّما برقيّات التعازي”…

تنظير غريب
آراء قيس سعيّد لا يمكن وصفها إلّا بـ”الغريبة”. فالأمر لا يقف عند موقفه التبريري بشأن مسألة المساواة، وإنّما يتعدّاه إلى إعادة هيكلة النظام السياسي برمّته أو ما سمّاه بـ”رؤية مغايرة للحكم والتنمية”. في هذا الصدد أوضح سعيّد، في حوار أدلى به لصحيفة “الشارع المغاربي”، أنّه سيُلغي الانتخابات التشريعيّة في حال فوزه. يتيسّر ذلك، وفق ما ذهب إليه، عبر إرساء مجالس محليّة منتخبة على صعيد المعتمديّات تكون منطلقا لتشكيل المجالس البلدية، ثمّ يُجرى تشكيل البرلمان من رحمها. لا ينبغي طبعا النظر إلى هذه المبادرة غير المسبوقة من باب السخرية، باعتبار أنّ صاحبها يرنو إلى تعميق نظام التمثيل المباشر. ومع ذلك يبدو من الواضح أنّه أفرط في إعطاء نفسه صلاحيّات لا يمتلك منها رئيس الجمهوريّة قيد أنملة.
في السياق ذاته يرى سعيّد أنّ “عهد الأحزاب انتهى”، ذلك أنّ “الأحزاب مثّلت مرحلة في التاريخ وأنّ دورها سينتهي بعد سنوات قليلة، لتفسح المجال إلى الانتقال الثوري الجديد”، باعتبار أنّ “الشعب صار ينتظم بطريقة جديدة”. إنّها عمليّة اختزال نظريّة تقفز بكليّتها على الواقع الراهن. ويبدو أنّ عبارة واحدة لم يتلفّظ بها قيس سعيّد وإلّا لأحالنا مباشرة إلى مضامين “الكتاب الأخضر” وإلى أنّ “كلّ من تحزّب خان” وتحديدا إلى “النظريّة العالميّة الثالثة” وما تستتبعه من “نظام جماهيري” أرساه الزعيم الليبي الراحل العقيد معمّر القذافي في ليبيا، ثمّ تسّاقط كالعهن المنفوش ورمى بالبلاد في بؤرة الاحتراب الداخلي منذ عام 2011!.
تلك إذن ملامح ومواقف سرت على أعتاب أنصار قيس سعيّد كسريان الماء في الجداول العطشى. رأسماله الرمزي صوت جهوري وخطاب شعبوي موارب وتنصّل من لوبيّات، ربّما لم تراوده إلى حدّ اليوم…


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING