الشارع المغاربي: نشرت رئاسة الحكومة بلاغا على صفحتها يتعلّق بالكاريكاتوريست توفيق عمران الذي أوقفته الشرطة في العشيّة وأطلقت سراحه النيابة ليلا . وقد لفت البلاغ انتباهي لأنّنا لم نتعوّد تدخّل رئاسة الحكومة في مثل هذه القضايا التي يتكفّل بها عادة المسؤولون عن الإعلام في وزارة الداخليّة أو المحكمة بالتوضيح والتصويب، ولي على هذا البلاغ جملة من الملاحظات كالتالي:
-1الخطاب في هذا البلاغ شخصيّ موجّه من رئيس الحكومة الذي ينفي… إلى الكافة، فهو من هذه الناحية الرسالة الخطأ إلى العنوان الخطأ لأنّها لا تلزم الحكومة صاحبة الصفحة في شيء ولا تعبّر عن رأيها ولا تقدّم التزاما أو اقتراحا بل تحمل نفيا والنفي عدم.
2 – ينفي رئيس الحكومة معرفته بتوفيق عمران شخصيّا حيث يقول “ولا يعرف حتى من هو صاحبها )يقصد الصورة) “. فمن حيث أراد رئيس الحكومة نفي اتهامه بالتدخل في القضية وضع نفسه في موقع لا يرضاه أيّ سياسي لنفسه وهو نقيصة في التكوين المعرفي والسياسي للمهتمّ بالشأن العام. فرسام الكاريكاتور والصحفي المحترم والفنّان والكاتب وكلّ من يهتمّ بصناعة المعنى أيّا يكون اسمه أو توجّهه السياسي هو أحد صنّاع الرأي العام ممّن يحسب له السّاسة ألف حساب. وبيان ذلك أن الكاريكاتور أوسع انتشارا من الكتابة ومن المسموع لأنّه يكثّف الحدث من مقال إلى صورة تُرسم بشكل يفهمه كلّ من رآه خصوصا في بلد أخذت الأمية في الانتشار فيه بعد أحداث 2011، إذ من شروط نجاح السياسي لأداء مهامه على أكمل الوجوه أن يكون على صلة ومعرفة دقيقة بالنّخب التي تؤثّر في الفضاء الثقافي والفني والسياسي لأنّ قيادة الدول تحتاج إلى من يحسن الإصغاء وتلمّس الحسّ الشعبي في كلّ مظاهره. فالفنون ليست إلا ترجمة لِما يعتمل داخل المجتمع.
– 3 الربط بين صكّ بلا رصيد ورسم كاريكاتوري غير مستساغ لأنّ الملاحظ لا يحتاج إلى إعمال نظر حتى يتفطّن منذ البداية إلى أنّ المقصود بالعمليّة كلّها الرسم، وإلا ما الدّاعي للإسراع بإلقاء القبض على الرجل وانتظاره أمام بيته. هل هناك مبرّر واحد لِما وقع إن لم يكن للسياسة دور في المسألة برمّتها؟ ثم هل تُرسل الدوريات الى أصحاب الصكوك بلا رصيد لإلقاء القبض عليهم؟ رجاء لا تستخفّوا بعقولنا.
4 – التذكير بالفصل 49 من دستور 2022 المتعلّق بحرية الإبداع ليس من مشمولات رئيس الحكومة ولا هو مُطالب بالتذكير به إنّما المطلوب منه أن يُفَعّل الفصل ويطبّقه ويعاقب منظوريه ممّن خالفوه وتجاوزوا حدود المسموح به قانونيّا. كنت أنتظر أن يأذن رئيس الحكومة بفتح بحث حول الأمر بإيقاف الرسّام خصوصا اذا اخذنا بعين الاعتبار أنّ النيابة العموميّة أفرجت عنه بعد ساعات قليلة من إيقافه.
-5 القول بأنّ تقدير رئاسة الحكومة بخصوص الرسم يخالف التقدير القانوني للنيابة العمومية يكشف أنّ العلاقة بين السلطتين التنفيذيّة والقضائيّة ملتبسة. فبأيّ حقّ تسمح السلطة التنفيذيّة لنفسها بإبداء رأي في قضية قانونية هي من اختصاصات وأنظار القضاء؟.
-6 ختمت رئاسة الحكومة بيانها بالحديث عن الأراجيف والأكاذيب وهي بذلك تردّ على خصوم حكم 25 جويلية، والحال أنّ الحكومة مطالبة بالفعل والصدق فيه وليست مطالبة بالردّ على الأقاويل أو الدخول في مساجلات ونقاشات لا طائل من ورائها.
غير أنّ الأهم في الموضوع كلّه أنّه يكشف عن أزمة يعيشها حكم 25 جويلية الذي لم يستطع الى حدّ الآن أن يكوّن حزاما سياسيّا وثقافيّا من أسماء وشخصيّات ذات وزن ومصداقيّة داخل البلاد لخلل في التصوّر لديه. وبيان ذلك أنّ المعركة داخل البلاد منذ سنة 2011 دائرة وإلى حدّ الساعة بين قوى مدنيّة وجمهوريّة متنوّعة من جهة وقوى أخرى إسلامية بمختلف تلويناتها من جهة أخرى. ولم تحسم هذه المعركة لصالح أيّ من الطرفين، إلى أن وصلنا إلى اليوم الموعود الذي أُغلق فيه البرلمان والتفّت فيه القوى المدنيّة جميعها حول قرار رئيس الجمهورية إلا أنّ أملها سرعان ما خاب بعد أن عاد الرئيس إلى ممارسة السياسات السابقة. وقد ظهر ذلك خصوصا في الفصل الخامس من الدستور المتعلّق بمقاصد الشريعة وفي غيرها. هذه الخيبة أدّت إلى انفضاض التجمّع الذي تكوّن حول حكم 25 جويلية فانتقل المساندون يومها إلى صفوف المعارضة، والأسماء كثيرة تندّ عن الحصر الأمر الذي جعل ساحة الحكم قفراء خالية من الرموز والأشخاص التي تمثّل خميرة الذكاء التونسي من فنانين ورسامين وكتاب وممثلين وغيرهم من صنّاع المعرفة والبهجة. اليوم يعيش الحكم حالة من الاغتراب والغربة والتوهان اذ ان الشعارات التي يرفعها لا تترجم على أرض الواقع لأنّه مصرّ على الإبقاء على خيارات المنظومة التي أدّت بالبلاد إلى ما هي عليه من هوان فلا هو اتخذ من القرارات ما يؤكّد أنّ مواجهته للإسلام السياسي جدية ولا هو أعلن صراحة أنّه يتبع خطوات أسلافه في عشريّة الخراب فبقي في منزلة بين المنزلتين. ولأنّ المثقّف الوطني لا يقبل أنصاف الحلول فقد خلت الساحة منهم حول حكم 25 جويلية وهو ما يلحظه المرء في هوان الذين يدّعون مساندته والدفاع عنه ممّن تحوّل خطابهم إلى هزء وسخرية بهم وبالحكم لدى العامة. فهل يعقل ألا يجد الحكم من يدافع عنه ويروّج لخياراته غير مأجوري وكالة الاتصال الخارجي ومن شابههم أو من صغار العقول والأحلام؟ لكلّ حاكم أدواته لصياغة الرأي العام والتأثير فيه أيا كانت خياراته السياسية. فقد كان لهتلر مثقّفوه ولديغول كذلك ولعبد الناصر رموزه وأصواته ولبورقيبة مثقّفوه وشعراؤه وفنانوه الذين دافعوا عنه وعن سياساته وصنعوا لنا زمنا جميلا ما زلنا لحد الآن ننهل منه لتهذيب الأذواق وإغناء المواهب. أمّا حكم 25 جويلية فقد سعى جاهدا إلى طرد كلّ من أراد المساهمة معه في الدفاع عن النظام الجمهوري ومؤسّساته من خلال محافظته ودفاعه المستميت عن خصوم الدولة المدنيّة من نوع حزب التحرير وبؤرة القرضاوي ورابطة تونس للتعدّد والثقافة وغيرها ولم يجد من يمكنه أن يملأ الفراغ ويسدّ ما انخرم في خطابه من التردّد وعدم القدرة على الحسم سوى الكراكير )جمع على غير قياس للفظ الأعجمي كرونيكور( الذين ملؤوا الساحة بالساقط من القول وبالهذر وبالأكاذيب التي لا يصدّقها حتى صغار الأحلام. وما هذا البلاغ إلا الترجمة الحرفية والصادقة لغربة حكم 25 جويلية واغترابه عن النخب التونسيّة التي قلب لها ظهر المجن ذات يوم. قال طرفة ابن العبد في وصف حاله الذي يشبه حال الحكم لدينا:
إِلى أَنْ تَحامَتْني الْعَشيرَةُ كُلّهَا.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 26 سبتمبر 2023