الشارع المغاربي : في تاريخ تونس متعدّد الطوابق، يبدوُ من العسير جدّا أن نعثرُ على محطات التقاءٍ بين عملاقي المشهدين الاقتصادي والاجتماعي، وحتى السياسي أيضا، أي المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف، ذلك أنّ الذاكرة الجماعيّة تحتفظُ لنا بمحطات تعدّ على أصابع اليد الواحدة، لعلّ أبرزها الدور المحوريّ الذي لعبه الرباعي الراعي للحوار في تجنيب تونس فتنة أهليّة، عبر المساهمة في تشكيل حكومة انتقاليّة خلفت حكومتي الترويكا أو مؤخّرًا في انسجام مواقف المنظّمتين بخصوص حكومة يوسف الشاهد وتضامنهما المعلنِ لإحداث تغيير جذريّ فيها لعلّ انقاذ البلاد يأتي مع مفرزات الاجتماعات الماراطونيّة التي يشهدها قصر قرطاج.
وبالنسبة إلى المطلّعين على كواليس المنظمّتين، فإنّ هذا التحالفُ الواضح بين الشغيلة والأعراف، يبدو تحالفًا “غير طبيعي“، بل لم يكنُ مبرمجًا في شبكة العلاقات التي تشكّل المشهد السياسيّ. إنّ الأسئلة الحقيقية التي بات يطرحها كلّ متابع لتحالف “الضرورة” بين الشريكين، هي ماهية الأسباب الحقيقية التي جعلت الخصمين يلتقيان على قلبٍ واحد؟ ومدى قدرة هذا التحالف على الصمودِ مع انطلاق المفاوضات الإجتماعيّة؟ بل وهنا الأهمّ، مدى استجابة منظومة الحكم الحاليّة لتحالفٍ يجمعُ عملاقين في مواجهة حكومةٍ مترنّحة؟
مأزق الضغوط الداخليّة…وهاجس التنفيس !
لا يختلفُ النبش في الأسباب الحقيقيّة التي أدّت إلى هذا التحالفِ عن الحفر في أولويّات كلا المنظمتين. ذلك أنّه لا يمكن فصل الادعاء بأن فشل حكومة يوسف الشاهد يعتبرُ السبب الرئيسي في اقتراب القطبين من بعضهما، عن الـتأويلات “السطحيّة” التي تدفعُ بقطبي المشهد إلى الفرن السياسي، كما لا يمكنُ فصله أيضًا عن الرغبات الثاوية في رؤية هذا التقارب “المؤقت” يتحوّل إلى سياسة “دائمة“.
فالمنظمة الشغيلة تعاني من الضغوطات الداخليّة التي حتّمت تغيير أولوياتها في اتجاهِ الاستجابة لمطلبيات شقّ داخلها يطالبُ نور الدين الطبوبي، بفكّ الارتباط بوثيقة قرطاج، ورفع يدهِ عن حكومة يوسف الشاهد– التي لولا قبضة الطبوبي لكان السقوط مآلها في الصائفة الماضية– كي لا يكونُ الاتحاد شريكًا في تحمّل فاتورة اقتصاديّة واجتماعيّة خانقة بدأت نتائجها تظهرُ إلى العلن.
وبالتأكيد ثمّة أيضا بعض التوابل الأخرى، التي تعرفها قيادات المركزّية النقابيّة، توابل لها علاقة واضحة بمآلات المؤتمر القادم للاتحاد، وتحديد مواقع النفوذ داخلهِ، وخاصة الحيلولة دون تسلل مشاكل المنظومة الحاكمة في صراعها مع أحزاب المعارضة، إلى داخل البيت النقابيّ.
وإذا كان عامل التنفيس عن الخلافات الداخليّة يعتبرُ أحد عوامل تغيير الأولويات، فإنّ مسارعة حكومة الشاهد إلى التفصيّ من تعهداتها تجاه الأمانة العامة، في عدد من الملفات لعلّ أبرزها ملفي التفويت والصناديق الاجتماعية، وهو ما أتينا عليه في عدد الأسبوع الماضي من “الشارع المغاربي“، شكلت اللحظة المفصليّة التي دفعت بأولويّة إحداث تغيير جذريّ في الحكومة إلى سطح الأحداث وهو ما يشكلّ نقطة التقاء مهمّة مع منظمة الأعراف.
هذه الأخيرة، التي كانت عبّرت عن غضبها من قانون الماليّة لسنة 2018، إلى حدّ التلويح بالإضراب وتعطيل الإنتاج، تعاني بدورها من تنامي الغضب داخلها، إلى درجة خروج صراعات “الصناعيين” و“التجّار” إلى العلن. بل سبق لجامعة النسيج أن جمدت نشاطها صلب منظمة الأعراف مهددة بالانفصال الكلّي نتيجة ما قيل انّه تحيّز مارستهُ الرئيسة السابقة، وداد بوشمّاوي، ضدّ الصناعيين بل واتهامها بتضارب المصالحِ واستغلال نفوذها عبر شركاتها المختصة في التوريد.
وقد شكلت معالجة هذا الغليان الداخليّ، دون مواربة، النقطة الأولى في أجندة سمير ماجول، الذي يعتبرُ رجل الظلّ وابن الماكينة، قبل صعوده إلى دفّة رئاسة منظمة الأعراف، وهو في هذا لا يختلفُ كثيرًا عن نور الدين الطبوبي الذي خبرَ دواليب الاتحاد قبل صعوده إلى الأمانة العامّة. وبدوره وجد سمير ماجول في التنفيس عن حالة الغليان الداخليّ عبر مراجعة أولويات منظمته وتحميل الحكومة مسؤولية التردّي الاقتصادي وانهيار قطاعات الانتاج وهو ما يشكّل حالة من إحداث التوازن صلب منظمة الأعراف.
الاتحاد شريكُ حياتنا
وإذا كان هاجسُ التنفيس يمثلّ أحد علامات التقاربِ فإنّ المنظمتين وجدا نفسيهما أمام مأزق “سياسيّ” و“أخلاقي” بدرجة أولى، باعتبار أنّهما مشاركان في وثيقة قرطاج. هنا التقاربُ أخذ مسحة “ميلودراميّة” في اتجاهين: تصعيد اللهجة في اتجاهِ حكومة يوسف الشاهد ومغازلة المنظمتين بعضهما البعض.
ففي باب الغزل، لم يمرّ تصريح سمير ماجول إثر الاجتماع الذي شهده مقرّ وزارة الشؤون الاجتماعية مؤخّرًا دون أن يثير الاستغراب حينما قال إن “اتحاد الشغل ليس طرفا بل شريك حياة”، معتبرًا الاتحاد شريكًا “منذ مرحلة الاستقلال إلى اليوم” ومؤكدا “اتفاق” المنظمتين “على ضرورة إيجاد حلول مشتركة للإشكاليات والمصاعب التي تشهدها عديد القطاعات والمؤسسات“.
هذا التصريحِ يجدُ له صدى في اللقاءات الثنائيّة التي جمعت نور الدين الطبوبي وسمير ماجول، لقاءات ٌ بدا فيها التناغمُ واضحًا حول ملفّ المفاوضات الإجتماعيّة ناهيك عن تناغمِ مواقفهما من حكومة يوسف الشاهد وعددٍ من وزارئه.
فإذا كان الطبوبي قالها مدوّية حينما وجّه خطابه إلى رئيس الحكومة قائلاً “”كي ماڨديتش روحك لازمك تتبدل، أنت مطالب بتقديم النتائج” أو في اتهام مستشاري يوسف الشاهد بسوء التصرّف أو أيضا في دعوتهِ إلى إحداث تغير راديكالي يشملُ الوزارات “المعطوبة“، فإنّ حليف الضرورة سمير ماجول، لم يشذّ عن هذا المعجم الحربيّ، حين قال في تصريح لهُ إنّ“على كل وزير غير ناجح في منصبه أن يرحل ويأتي غيره، مضيفا “لازمنا أحسن الكفاءات… والحكومة يمكن أن تشهد تحويرا كل يوم“، بل أنّه استهدف سمير الطيب، وزير الفلاحة، رأسًا حين طالبهُ بالاستقالة بعد أنّ وجّه إليه جملته الشهيرة “إن شاء الله تقد فلاحتك“، رافضًا تكليف سمير الطيب بملفّ “لا يفهمه“، هو ملف التفاوض مع منظمة الأعراف حول مساهمة المنظمة في الصناديق الاجتماعيّة.
وهذا الخطاب “العسكري” الذي ينتهجه كلّ من ماجول والطبوبي في اتجاه الشاهد ووزرائه، هذا الخطابٌ الذي ينقلبُ إلى حالة من الغزل الرّفيع إذا ما تعلّق الأمر بالمشاورات بين المنظمتين، يجدُ جذورهُ في طبيعة الرّجلين اللذين مثلما أثبتا قدرتهما على المناورة داخل منظمتيهما، أثبتا أيضا قدرتهما على رفض أنصاف الحلول حدّ التصعيد. ذلك أنّه عرف عن الطبوبي وماجول، أنّها “ماكينات” حقيقية، داخل ماكينتين، توجهان الدفة الاقتصادية للبلاد ناهيك عن الدفّة السياسية. وهذه الطبيعة “المتنمّرة” ذات القدرة الغريبة على المناورة، تمثّل نقطة التقاء أخرى بين الرجلين اللذين يعرفان جيّدًا أنّ البلاد تتأرجحُ فوق جرفٍ هارٍ، وأنّ الإنقاذ يمرُّ حتمًا عبر نزع القفازات الحريريّة وارتداء قفازات الملاكمة.
هل يصمدُ تحالف “الضرورة“؟
إنّ اعتبار هذا التحالف أو الشراكة بين القطبين، تحالفًا “مؤقتا” أو تحالف “ضرورة“، تفسّرهُ في الواقع جملة من المعطيات لعلّ أهمّها، ملفّ المفاوضات الاجتماعية، حيث من المنتظر أن تدخل اللجان التفاوضية الممثلة للقطاعات من جانبي العمال والأعراف في التفاوض بخصوص تعديل الاتفاقيات المشتركة القطاعية والزيادة في الأجور. والمعلوم أنّ أجواء مثل هذه اللجان، وفي ظرف اقتصادي واجتماعي متردّ، عادة ما تكونُ ساخنة إن لم تكن محتدمة وهو ما نعتبره امتحانًا حقيقيّا على قدرة هذا التحالف على الصمود.
أما المسألة الثانية، فتتعلّق باختلاف المواقف والرؤى حول ملفات أخرى كالتفويت في المؤسسات الاقتصادية– التي يساندها الأعراف ويعارضها الشغالون– أو الصناديق الاجتماعيّة أو مسألة الانتدابات في القطاعين العام والخاص. ناهيك أن التوّجه الاقتصادي دائما ما شكّل نقطة اختلاف بين القطبين، خاصة حينما تجدُ ليبراليّة منظمة الأعراف نفسها في مواجهة النزعة الاشتراكية للمنظمة الشغيلة.
أما النقطة الثالثة، فتتعلّق بمدى استجابة منظومة الحكم الحاليّة لطلبات القطبين بخصوص التحوير، سواءً كان تحويرًا يمسّ الوزارات أو تحويرًا جذريّا يرحل بحكومة يوسف الشاهد، إضافة إلى موقف الأحزاب السياسية وتحديدًا نداء تونس والنهضة، اللذين لا ينظران بعين الارتياح لهذا التقارب الذي قد يعصفُ بحقائبهما الوزاريّة. وأمام صمت مؤسسة الرئاسة، التي تبحثُ عن مخرجٍ، وهو ما لا يمكنُ تفسيره بأنّه “كارت بلانش“، بيد الأعراف والشغالين، يبدو كلّ شيءِ قابلا للتفاوض، بما في ذلك صمود التحالفِ بين المنظمتين.
وفي المحصلة لا يمكن لهذه القراءة في أسباب التقاربِ وتداعياته ومدى صمودهِ في وجه تقلبات المشهد السياسي والاقتصادي، الذي يظل بدوره خاضعًا لتقلبّات الوضع الإقليمي والدولي، أن تحجب أهميّة تفعيل مجلس الحوار الاقتصادي والاجتماعي، الذي يعتبرُ صمام الأمان الحقيقي أمام أيّة هزات اجتماعية واقتصادية، على ألا ينحصر دوره في تنظيمِ المفاوضات الاجتماعية وإنّما في تحوّله إلى “عقل إقتصادي“، على شاكلة المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي وقع حلّه بعيد الثورة، قادر على وضع الخطط والاستراتيجيات وتمكين الحكومة، أيّة حكومة، من خارطة طريق اقتصادية واجتماعية توافقيّة. وهنا فقط، يمكننا أن نتحدّث عن ديمومة التحالف بين القطبين، تحالف لا تمليه الضرورة أو التنفيس عن المشاكل الداخليّة بقدر ما يمليه الأمن القومي لتونس.