الشارع المغاربي – العربي الوسلاتي: قبل الثورة كان الحديث عن تولّي الحقائب الرياضية صلب الأندية التونسية أقصر وأيسر السبّل للتموقع في واجهة الأحداث والبقاء تحت الشمس وفي دائرة الضوء وكانت رئاسة الجمعية بمثابة الإمساك بحقيبة وزارية تؤمّن لصاحبها حصانة معنوية وقاعدة جماهيرية تجعله نبيّ قومه خاصة أنّه في ذلك الوقت كانت التعيينات تصدر بأوامر فوقية فتكون التوصية أشبه بتزكية شعبية …
غير أنّه ومنذ ذلك التاريخ تغيّرت كلّ المفاهيم وتبدّلت العقليات وبات الحديث عن المسؤوليات بمختلف التصنيفات حديث تكليف لا تشريف وتساوى “العرف” بـ”الصانع” وأصبح المسؤول الرياضي وخاصة رئيس النادي في مرمى الانتقادات وأمسى سور الجمعية القصير الذي يقفز فوقه كل صوت سواء كان صرخة حقّ أو رسالة تنبير…
مفاهيم جديدة…
ككلّ القبّعات الثمينة التي كانت تزيّن الرؤوس الواقفة في الصفوف الأمامية كان رؤساء الجمعيات الرياضية بالأمس القريب أصحاب جاه ونفوذ وحصانة سياسية وحتى جماهيرية… وكان رئيس أيّة جمعية وبصفة خاصة كبار القوم في مأمن من أيّة هزّات وتقلّبات خاصة أبناء النظام الذين يتحرّكون في مربّع الوصاية وتحت الحماية وكان أغلبهم محميّين بأوامر فوقية وحتى نسمات المعارضة التي كانت تهبّ عليهم بين الفينة والأخرى لم تكن تتعدّى مجرّد أصوات عابرة يزول صداها بمجرّد فوز أو تتويج باهت مع نهاية كلّ موسم… وقد كان الوصول الى كرسي الرئيس شاقا وعسيرا ويتطلّب صفات معيّنة قد لا تتوفّر حتى في وزراء أو مدراء عامين لأنّ النظام كان حريصا على التجمّل والتخفّي وراء أسماء لها وقار وثقافة ومن المحبّذ أن تكون من داخل الدار…
هذه الصورة النمطية لرئيس الجمعية كانت تضعه فوق النقد وفوق الشبهات ولا أحد يجرؤ على الخوض في سيرته أو في مصدر ثروته ولكن بما أننا دخلنا جميعا عهدا جديدا هو عهد الثورة كان لزاما القطع مع كلّ المكاسب والعقد السابقة والخوض مع الأمور بمفاهيم جديدة يمتزج فيها مناخ الحريّات بغبار الانفلات فيصبح من العسير جدّا الفصل بين النقد البريء وبين صراخ الحناجر مدفوعة الأجر حتى أنه أصبح من العادي جدّا طرد “الرئيس” من الجمعيّة بتعلّة أنّه لا يصلح ليكون رجل المرحلة بعد أن جاء الى الواجهة مرفوعا على الأعناق وهذا الأمر مفهوم جدّا فحتى الخوض في سيرة ومدارك رئيس الجمهورية في تونس العهد الجديد لم يعد من المحرّمات فما بالك برئيس جمعية رياضية يتحكّم في مصيرها بعض المنخرطين وبعض الصحفيين وعدد لا بأس به من المطبّلين… فيكون قرار العزل أو التمديد غير متربط بواقع وحاضر الجمعية بل بطبيعة المرحلة وخاصة بعناوينها السياسية التي جعلت من الجمعيات الرياضية وقودا حارقا لمعاركها الانتخابية بدليل ما حصل مع النادي الافريقي إبان فترة سليم الرياحي وما حصل حينها من مزايدات ومهاترات وألاعيب دفع فيها النادي ومازال فاتورة باهضة جدّا لعملية تسييس رياضي كان غطاؤها فزّاعة التبييض…
أقزام عملاقة…
تقلّب الحال وتحطّم جدار الحصانة الذي كان يحمي رجال الدولة فسح المجال لتنامي جبهات الرفض لكلّ الأسماء الغريبة عن الدار وكلّ من ارتبط اسمه حتى ولو بسطر واحد من تاريخ الجمعية أيّام الزمن الجميل لم يعد له موضع قدم في حاضرها فالقطع مع النظام القديم بكلّ عناوينه لم يستثن حتى ملاعب كرة القدم بمدارجها الخالية… ولو أن البعض استعصى على سياسة الاقصاء التي طردت الجميع من جنّة المغضوب عليهم ونجح في التموقع مجدّدا في المشهد الرياضي مستعينا في ذلك بـ”فيستة جديدة” وبعض أدوات الثورة التي يتسلّح بها الفارون من الملاحقة القضائية والشعبية…
في المقابل هذا الواقع الجديد أفرز جيلا جديدا من المسؤولين غالبيتهم لا يصلحون حتى لتعمير المدارج الخالية أو قصاصات البرومسبور… ومن ضريبة التواجد في هذا المناخ الرياضي المنفلت أنّ بعض الأسماء التي لا تجيد سوى جمع المال حراما كان ذلك أو بالحلال أصبحت اليوم وبقدرة قادر تقود القاطرة الرياضية وفي واجهة الأحداث وتتصدّر العناوين الفرعية والرئيسية على حدّ السواء… والفضل في ذلك يعود الى بيئة خصبة تلاقحت فيها العقليات الجديدة ببقايا الحرس القديم لتشكّل لنا منظومة جديدة يتقدّم ركبها أشرّ الناس فيها وأكثرهم سلاطة لسان وبذاءة كلام… وهذا الكلام ليس قذفا في المجهول أو لعبة ميول بل حقيقة يعلمها القاصي والداني ولعلّ في تصريحات بعض رؤساء الأندية في السنوات الأخيرة ما يكفي مؤونة التعليق حتى أن بعضهم بات ممنوعا من دخول بلاتوهات التلفزة خشية الوقوع في المحظور…
هذه المعادلة الجديدة جعلت بعض الأقزام يصعدون الى القمّة مستغلين في ذلك حالة الفراغ التي تسبّب فيها عزوف العقلاء والحكماء وهروبهم من تحمّل المسؤولية الرياضية خشية أن تطالهم المحاسبة أوّلا أو الوقوع في فخّ الملاحقة ثانيا… لذلك لم يعد غريبا عن هذا المشهد الرياضي المتعفّن أن يؤمّ القوم الغافلين جاهل بأصول اللعبة عتاده بعض المال وقليل من المنخرطين…
نعمة أم نقمة…
ما جرّنا للخوض في هذه الجزئيات والتفاصيل المغيّبة هو ما تعيشه اليوم بعض الجمعيات الرياضية من حالة تخبّط إداري ورياضي باتت تستفحل يوما بعد يوم وتهدّد ديمومتها واستمرارها واستقراراها… اليوم أندية بحجم النادي الافريقي والنجم الساحلي والنادي الصفاقسي أصبحت مهدّدة بالعودة سنوات عديدة الى الوراء والسبب في ذلك حالة العزلة التي يعيشها رؤساء الهيئات المديرة… ورغم اختلاف الألوان يكاد العنوان يكون هو نفسه فالنجم أًصبح رهين مزاجية رئيسه رضا شرف الدين الذي استقال أكثر من مرّة وله الحقّ في ذلك بسبب حالة النكران التي وجدها من عدد لا بأس به من جماهير النجم… في المقابل يختفي رئيس النادي الافريقي عبد السلام اليونسي عن الأنظار خشية الصدام مع الأنصار بما أن وجوده على رأس النادي أًصبح غير مرغوب فيه الأمر الذي جعله بعيدا جدّا عن مستجدات النادي… مثله تماما يصارع رئيس النادي الصفاقسي المنصف خماخم لوأد ثورة هادئة تبحث عن الاطاحة به…
وجميعهم رغم اختلاف النوايا والاخفاقات يلتقون في نقطة واحدة هي أنهم يدفعون من مالهم الخاص لكنهم لا يلقون في آخر الطريق سوى “ديقاج” في الانتظار… وإذا كانت بعض المطالب مشروعة لأنّ واقع هذه الجمعيات لا يسرّ العدوّ قبل الحبيب مع ابتعادها عن البوديوم وعن عناوين التألّق فإن بعض المطالب تبدو غير مشروعة بل تكاد تكون مدفوعة الأجر لأنها لا تعكس بالمرّة حقيقة المجهودات التي يبذلها رؤساء الأندية أو لنقل غالبيتهم وربّما ما حصل لرئيس النادي البنزرتي عبد السلام السعيداني الذي استقبل العام الجديد وهو في السجن يكشف في جانب منه الحجم الحقيقي الذي بات يشكّله كرسي الرئاسة في جمعية رياضية لها قاعدة جماهيرية عريضة…
حالة المخاض التي يعيشها ثلاثي المقدّمة في الفترة الحالية لم تعد تستثني أحدا فرئيس الترجي الرياضي حمدي المدّب الذي يعتبر الاستثناء في تونس بحكم دعمه القياسي للترجي لوّح هو الآخر أكثر من مرّة بالاستقالة من منصبه بسبب بعض التحركات الجانبية التي بحثت عن دفعه خارج أسوار النادي ولولا تدخّل رئيس الجمهورية آنذاك الباجي قائد السبسي رحمه الله لكان حال الترجي اليوم أشبه بمن سبقه لأنّ كلّ رجال الأعمال تقريبا أًصبحوا يتحاشون دخول ميدان أشبه بحقل مليء بالألغام يمتصّ مالهم وجهدهم وعرقهم ثمّ يدخلهم مربّع الوصاية من جديد فإمّا الإذعان أو تحريك ملفّات الشيطان…
الجمعيات الرياضية اليوم لم تعد جواز سفر “ديبلوماسي” يحمل الى عالم الشهرة والأمان مثلما كان عليه الحال في السابق وهذه النعمة تحوّلت الى نقمة فهناك من دخل السجن بسبب شيكات بلا رصيد وهناك من أفلست تجارته لأنّه رصد كلّ أمواله لإنقاذ الجمعية وهناك من فرّ الى خارج الديار وأيضا من انتكست صحّته بسبب كرة على “البار”… لذلك ليس غريبا أن يأتي يوم قد لا نعثر فيه على “نصف رئيس” لجمعية تفقد رويدا رويدا كلّ أبعادها الرياضية…
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 21 جانفي 2020.