الشارع المغاربي: حكم بن علي البلاد لأكثر من عقدين وفق منطق “الفتوّة” أو “الباندي” الذي أقفل كلّ إمكان للحريّة وسدّ منافذ الاختلاف. تصرّف كحامي “حومة” شعبية، ساهر على أمنها، حافظ لاستقرارها القائم على إرعاب النّاس الذين حوّلهم مع الوقت إلى رعايا يستبطن جزء منهم “أخلاق” هذا “الباندي” وقيمه التي أشيعت في البلاد. “دبّر راسك“، “أخطى راسي واضرب“، “شاشية هذا على راس لاخر“…وغيرها من “الحكم” التي تفيض بكلّ أشكال الوصولية والانتهازية واللّصوصية والجشع والأنانية والمحسوبية والرشوة بالتوازي مع ازدراء ممنهج للعلم والتربية والثقافة والمعرفة هي قاعدة اشتغال النظام دون استثناء يذكر.
بن علي كان “الرئيس الباندي” الذي يعلم العارفين تقاطع سيرته في الحياة مع رؤوس الجريمة و“الباندية” وعالم “الفصايل” و“الخلايق” في نهاية الستينات والسبعينات خاصّة، حتى أطلق عليه لقب “بوخشم” جريا على عرف “الباندية” في التنابز أو التفاخر بالألقاب، ك“ولد السبنيورية” و“كلايا” و“شورّب” وغيرهم. شاء مكر التاريخ أو لنقل عبث الأقدار أن يحكم بن علي أو “الباندي بوخشم“ البلاد والعباد زمن الاستبداد فسجن ونفى ونكّل وحوّل تونس فعليا إلى سجن كبير، كما يفعل بالضبط “الباندية” في مناطق نفوذهم: تصرّف حينا كقاطع طريق مع معارضيه الأشدّاء فأشبعهم ضربا وركلا ورفسا، أو كسجّان رمى المئات في الأقبية فنكّل وعذّب وقتل، كما تصرّف أيضا كرؤوف أحيانا بالمسكين وبالفقير وبالمحتاج درءا من مخاطر اشتداد الجوع والحاجة وتحسّبا من تمرّد ممكن. لقد سار بن علي سيرة “الباندي” ولم تكن تونس سوى رجع صدى في مخياله البسيط لحومة “المركاض” التي سكنها أو لبقية “الحوم“، لا يمكن أن تحكم إلّا بعصا غليظة وبزمرة تابعة خاضعة للتعليمات والأوامر، أمّا “الأصوات النشاز” من معارضين و“ثقفوت” وديمقراطيين وما لفّ لفّهم ليسوا سوى “خونة” وّ“مناوئين” لسلطان “الباندي” الأكبر على “حومته” الكبيرة.
اليوم وبعد أفول سلطان “بوخشم” الظاهر، يبدو أنّ الباطن بدأ في إفراز ما اعتمل داخل الوعي الجمعي من قيم سالبة زمن الاستبداد مفرزا أو لنقل معيدا إلى الذاكرة “باندي” آخر هو “شورّب“. وهو لعمري اختزال مكثّف لهذا “الانتقال الديمقراطي” الذي طفا على سطحه كلّ أنواع الفساد والإفساد والعربدة والانحطاط.
“شورّب” ليس صنفا من التأريخ الاجتماعي كما يسوّق بعض الواهمين، بل هو تفكيك بطيء و“ناعم” للقاعدة القيمية التي تقوم عليها كلّ أمّة راغبة في الانطلاق والتقدّم، كالإيمان بالعمل وإجلال العلماء والحثّ على المعرفة بعيدا عن ترذيل المدرسة كما شاهدنا في مشهد مخز من مسلسل “شورّب” عندما مجّد صعلوك تافه جهالته وأمّيته أمام طفل بريء.
من “بوخشم” إلى “شورّب” لم يتغيّر المشهد كثيرا سوى في بعض تفاصيله. لقد صبغ “الباندي” الأوّل “قيمه” وسلوكياته جزءا غالبا للأسف من مخيال مجتمعنا وتمثّلاته ، فجعل “الخليقة” أو“الفصالة” أو “الباندي” هو عنوان النجاح الاجتماعي وهو النموذج المحتذى. أمّا مع “شورّب” فإنّنا أمام ما يشبه النتيجة المنطقية، أي “بضاعة” “بوخشم” التي روّجها لأكثر من عقدين قد عادت إلى أسواق التداول على شاشات “الانتقال الديمقراطي“..