الشارع المغاربي – تساؤلات حول ضبابيّة وارتباك وتذبذب سياسة اتّحاد الشغل!/ بقلم: معز زيّود

تساؤلات حول ضبابيّة وارتباك وتذبذب سياسة اتّحاد الشغل!/ بقلم: معز زيّود

قسم الأخبار

27 مايو، 2021

الشارع المغاربي: رغم ما يوجّهه إليه خصومه من انتقادات شديدة، فإنّ اتّحاد الشغل يبقى رقما صعبًا في المشهد العام التونسي. ورغم جسامة الانتظارات المتعلّقة بدوره المفترض في حلحلة الأزمة السياسيّة العاصفة، فإنّ بعض مواقف الاتّحاد واختيارته باتت تطرح تساؤلات عمّا تّسم به أحيانا وعلى غير العادة من ضبابيّة وتناقض وارتباك…

أصبح هناك شبه إجماع لدى التونسيّين بأنّ نخبهم السياسيّة، سواء الحاكمة منها أو المعارضة، هي المتسبّب الأوّل والأساسي في ما آلت إليه أوضاع تونس من تردّ متصاعد على كافّة الأصعدة. وبذلك بات فقدان الثقة في السياسيّين العنوان الأبرز، حتّى أمسى الأمل شبه منعدم في اصطلاح أمر البرلمان الغارق في الصراعات الشعبويّة وحماية مؤسّسات الدولة من سياسات الغنيمة وتصويب العلاقة بين الحكومة ورئاسة الجمهوريّة والتركيز على إنقاذ اقتصاد البلاد من الانهيار الوشيك والتصدّي لمافيات الفساد المتضخّمة… في ضوء كلّ ذلك، كان من الطبيعي الالتجاء إلى كبرى المنظمات الوطنيّة المتمثّلة في الاتّحاد العام التونسي للشغل، علّه يسهم في تكثيف الضغوط على الجهات المتصارعة من أجل تحريك المياه الراكدة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وبالفعل، فقد أعلنت قيادات المركزيّة النقابيّة في أكثر من مناسبة أنّ الحوار الوطني هو خيار الاتّحاد من أجل إنقاذ البلاد من السقوط الشامل، وفي حال انسدّت السبل أمامه فإنّ لدى الاتّحاد بدائل ومسارات أخرى، أسوةً بسيناريوهات 2011 و2013. ومع ذلك امتدّت الأشهر طويلةً وتفاقمت الأوضاع الاقتصاديّة والصحيّة والاجتماعيّة، وتسّاقط البرلمان في بئر لا قاع له، ولم تُبد رئاسة الجمهوريّة أدنى مرونة لإطلاق الحوار الوطني المنشود في ظلّ فرض شروط مسبقة لا تعكس التوازنات السياسيّة القائمة. وفي المقابل، بدا الاتّحاد مرتبكا ومتناقضا نسبيّا في بعض خياراته وتحرّكاته بين الاصطفاف وراء خيارات الحكومة أو رئاسة الدولة، وبين انتقاد الائتلاف الحاكم بشدّة أو مسالمته. وفي المحصّلة دون أن يتحمّل مسؤوليّته التاريخيّة المتعاظمة في خفت لهيب الأزمة وطرح مبادراته البديلة المجهولة المتحدّث عنها…

إكراهات التوازنات!

من أكثر سمات النخب السياسيّة التونسيّة، على مرّ سنوات ما بعد الثورة، الخطاب المزدوج والانقلاب سريعا على المواقف السابقة. ويبدو أنّ المركزيّة النقابيّة لم تنج بدورها من هذا الأداء المخاتل. ورغم أنّ اتّحاد الشغل يتعامل بحساسيّة مفرطة مع كلّ من ينتقد أداءه، وإنْ كان نقدا بنّاءً، رغم أنّه ليس فوق النقد كسائر مؤسّسات البلاد ومسؤوليها، فإنّ من باب النزاهة تجنّب السقوط في بوتقة ما يستهدف المنظمة النقابيّة العريقة من طروحات متشنّجة ومتسرّعة أو تلك التي تحرّكها أجندات أيديولوجيّة أو سياسيّة أو حتّى قطاعيّة من داخل الجسم النقابي نفسه. لا يعفينا ذلك إذن من طرح تساؤلات بشأن حالة التذبذب التي شابت أداء الاتّحاد وتحرّكاته من أجل تفكيك الأزمة الراهنة.

من العلوم أنّ اتّحاد الشغل يحتكم في نشاطه إلى جملة من التوازنات القائمة في الساحتين النقابيّة والوطنيّة. ومن الطبيعي كذلك أن تكون الحكومة هي المتحدّث الرئيسي للاتّحاد الملزم بالتفاوض معها لخدمة مصالح منظوريه، بصرف النظر عن مكوّنات التحالف أو الائتلاف الحكومي. ولا ريب أنّ المنظمة الشغيلة تُدرك أنّه من الصعب الاستجابة إلى مطالبها إذا ما غاب الاستقرار السياسي وتدهورت الأوضاع الاقتصاديّة وتصاعدت وتيرة الاحتجاجات الاجتماعيّة واختلّت التوازنات الماليّة للدولة، كما هو حال البلاد اليوم. ومع أنّ الاتّحاد لا ينبغي أن يكون طرفا سياسيّا فإنّه ملزم، بحكم طبيعة دوره النقابي والوطني على امتداد تاريخه الطويل، بالتعاطي مع مختلف قضايا الشأن العام والإسهام في إيجاد مخارج سلميّة مناسبة للأزمات العصيبة التي تمرّ بها البلاد كما حدث أيّام الثورة وكذلك عام 2013. ومن ثمّة، ليس غريبًا مثلا أن يلتقي رئيس المركزيّة النقابيّة نور الدين الطبّوبي، ولو مرارًا، مع رئيس مجلس النوّاب راشد الغنوشي ويتبادل معه الابتسامات والتطمينات، حتّى في حال كان على بيّنةٍ ويقينٍ من أنّ الهجمات الدعائيّة التي تشنّها بعض الكيانات السياسيّة والبرلمانيّة مثل كتلة «ائتلاف الكرامة» على الاتّحاد لتشويهه وشيطنته لا تعارضها قيادة حركة النهضة، بل قد يُعدّ ذلك قاسمًا مشتركا بين فئة واسعة من أنصارها وأتباعها ممّن يُصنّفون اتّحاد الشغل في خانة الأعداء إنْ جهرا أو سرّا.

تناقضات الكرّ والفرّ

لا يُبيح مجرّد الوعي بهذه المؤشرات والإكراهات أن ينزع الاتّحاد إلى مهادنة الأطراف السياسيّة التي وجد نفسه ملزمًا بالتعامل معها أو مع بعض مكوّناتها. وفي هذا المضمار لم نر مثلا مبادرات عمليّة ومواقف رسميّة واضحة للاتّحاد إزاء الانحدار الشديد الذي بلغته مؤسّسة البرلمان، ممّا أمعن في تعكير الوضع السياسي في البلاد المترهّل أصلا. وتزداد الاستفهامات عمقا بالنظر إلى تكرار تصريحات قيادات حركة النهضة حول ضرورة أن يكون مجلس نوّاب الشعب هو المكان الطبيعي للحوار الوطني، ممّا يعني محاولة دقّ أسافين لإفشال المبادرة برمّتها. فالمسعى لا يرمي فقط إلى جعل الحوار الوطني تحت إمرة رئيس البرلمان وأعوانه، وإنّما يمنح ألدّ خصوم الاتّحاد معاول حادّة لنسف أيّة مبادرة يكون الاتّحاد طرفا فيها. وهذا على الرغم من إعلان رئيس البرلمان راشد الغنوشي دعم مبادرة الاتّحاد…

في المقابل صرّح نور الدين الطبّوبي، غير مرّة وهو على حقّ، أنّ مبادرة الاتّحاد «ليس لها أيّة قيمة في حال عدم تطرّقها إلى المحور المتعلّق بالتغيير السياسي وحلّ الأزمة السياسيّة»، وأنّ المنظمة الشغيلة «لن تقبل بحوار مجزأ، كما يطالب به البعض، أي حوار اقتصادي واجتماعي فقط، في حين أنّ المشكلة سياسيّة بامتياز». كما لمّح أمين عام الاتّحاد، في إحدى المناسبات، لرفض المنظمة النقابيّة الحوار الوطني «المشروط» الذي تريده رئاسة الجمهوريّة عبر محاولة ربطه باستقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي.

وإذا كان التحرّك الأساسي لاتّحاد الشغل لإنقاذ البلاد من حالة التأزّم المزمنة التي تردّت إليها ووقف النزيف العميق الذي يتدفّق من كافّة أوصالها، يتمثّل في إطلاق الحوار الوطني وضمان ظروف نجاحه، فإنّ الاتّحاد اقتصر رغم ذلك على مناسبات عابرة وغير رسميّة مثل التصريحات الصحفيّة والأنشطة النقابيّة لإبداء مواقف المنظمة من العراقيل التي ما انفكّت تضعها هذه الجهة أو تلك لإجهاض مبادرتها. والمقصود بذلك أنّ المركزيّة النقابيّة رغم احتكامها لكفاءات لا تقبل التشكيك وامتلاكها كلّ الإمكانات اللوجستيّة ذات الصلة، فإنّها لم تصدر مثلا بيانا رسميّا واضح المعالم لتبيان العراقيل المتواترة وتحميل المسؤوليّات لأصحابها من الرئاسات الثلاث للجمهوريّة والبرلمان والحكومة.

هذا التذبذب وحتّى التناقض ينسحب كذلك على مواقف اتّحاد الشغل من معالجة الملفّات الكبرى مع حكومة هشام المشيشي. فقد بدا أنّ الاتّحاد قد حقّق نصرا كبيرا، في فيفري 2021، حين وقّع مع الحكومة اتفاقا لتفعيل نحو 47 اتفاقية عالقة تشمل 28 قطاعا في الوظيفة العموميّة. أمين عام الاتّحاد أكّد حينها على أنّ الاتّفاق الجديد يفتح الباب للانطلاق في الإصلاحات الضروريّة التي تنتظرها البلاد، مبديا انفتاح المنظمة النقابيّة على «إعادة هيكلة المؤسّسات العموميّة اقتصاديّا واجتماعيّا وتشريعيّا وعلى عمليّة الإصلاح للمحافظة على ديمومة المؤسّسة العموميّة».

وبعد مرور نحو ثلاثة أشهر فقط، تفاجأ الرأي العام الوطني بأنّ قيادة الاتحاد لا علم لها أبدا بما دبّرته الحكومة في ليلٍ، تمهيدا لمفاوضاتها مع مسؤولي صندوق النقد الدولي بواشنطن قصد الحصول على اتفاقيّة قرض جديد بـ4 مليار دولار. والآكثر من ذلك الأمين العام المساعد للاتحاد حفيظ حفيظ تصارخ، في بداية شهر ماي الجاري، مندّدا بمضمون الوثيقة التي قدّمتها الحكومة إلى المؤسّسة الماليّة العالميّة الكبرى، واصفا إيّاها بـ»المؤامرة والجريمة» التي ارتكبتها الحكومة في حقّ الشعب وأنّها «لن تمرّ ما دام في الوطن منظمة اسمها الاتحاد العام التونسي للشغل». وكأنّ المركزيّة النقابيّة قد تمّ «استغفالها» خلال مفاوضات 5 زائد 5 الملتئمة قبل نحو ثلاثة أشهر، رغم أنّ الجانبين قد امتدحا آنذاك العلاقة الإستراتيجيّة القائمة بينهما. فبصرف النظر عن التفاصيل والخلفيّات وحتّى المناورات والمغالطات، فإنّ العلاقات الإستراتيجيّة بين طرفين لا تسمح بتجريم أحدهما للآخر…

غياب المرجعات!

على ضوء هذه المواقف المتباينة أو التي تشكو، على الأقلّ، ما تستوجبه من وضوح في الرؤية وما تحتاجه من تحرّكات عمليّة، من الأهميّة أن تقوم المنظمة النقابيّة العتيدة في هذا الظرف العسير بالمراجعات الضروريّة لإعادة ترتيب بيتها الداخلي، حتّى تحول دون تراجع قدرتها على التأثير في المشهد العام. وهو ما يعود كما أشرنا إلى إكراهات سياسيّة متزايدة، فضلا عن عوامل داخليّة تخصّ أداء قيادتها وسائر هياكلها.

ولئن كانت المركزيّة النقابيّة تدرك فحوى تلك الضغوط الكبرى، فيبدو أنّها لا تبدي الوعي اللازم بأسباب خارجيّة أخرى تتجاوز حدود ساحة محمد علي الحامّي. تجدر الإشارة هنا إلى ما شهدته البلاد من توالد الكثير من التنسيقيّات في العديد من الجهات للمطالبة بالتنمية والتشغيل عبر تصعيد تحرّكاتها وبنائها على الاحتجاجات العنيفة لانتزاع المكاسب. وبعيدا عن خلطها مع التنسيقيات المحسوبة على رئيس الجمهورية، فقد بدا أنّ تلك الكيانات الشبابيّة المتناهية الحماسة أخذت تسحب البساط تدريجيّا من المنظمة النقابيّة. فهي كيانات مستجدّة لا تتّسم بكثير من التعقيدات الهيكليّة ولا تتبع معظمها أحزابًا أو جماعات أيديولوجيّة وإن كان قياداتها يقاسونها أحيانا بعض معتقداتها وتصوّراتها. ومن سماتها، أنّ تلك التنظيمات الطوعيّة لها قدرة عجيبة على استقطاب الشباب، لكنّها ترفض عموما الخضوع لأيّة علاقات تبعيّة للمنظمة النقابيّة وإن كانت الاتّحادات الجهويّة للشغل تساند مطالبها وتُضفي عليها المشروعيّة، دون القدرة على استيعابها.

يُشكّل ذلك طبعا أحد التحدّيات التي تواجه مستقبلا الاتّحاد العام التونسي للشغل برمّته. وهو ما يضاف إلى عوامل داخليّة تتّصل بما يواجهه الاتّحاد من تململ داخل بعض مكوّناته، ولاسيما في ظلّ الخشية من تصاعد محاولات اختراق صفوفه وإغراق هياكله القاعديّة بمن لا غاية لهم إلّا خدمة أجندات سياسيّة وأيديولوجيّة.

فمن الثابت إذن أنّ الاتّحاد لا يستطيع أن ينغلق على نفسه. كما أنّ ممارسات قيادته قبل الثورة الساعية آنذاك إلى تمديد ولايتها وهيمنتها بمجرّد تعديل القانون الأساسي لم يعد من الممكن اجترارها، وإلّا قد يكون ثمنها باهظا في ضرب المنظمة بأيدي أبنائها وإضعافها في زمن لم يعد أمامها بدّ من التحوّل إلى مثال لممارسة الديمقراطيّة. وهو ما لا يتناقض مع ثوابت المنظمة العريقة، غير أنّه يحتاج إلى بذل جهد أكبر لتوضيح تصوّراتها والقطع مع منوال التذبذب والارتباك…

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 25 ماي 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING