الشارع المغاربي-كوثر زنطور: ايطاليا في حالة ذهول من حجم تدفقات مهاجرين غير نظاميين على سواحلها قادمين من تونس الذين تضاعف عددهم اكثر من 3 مرات مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. ذهول سرعان ما تحوّل الى غضب شعبي وتوعد رسمي باعتماد سياسة تصعيد غير مسبوقة في ادارة ملف الهجرة غير النظامية . في النقاشات الرسمية الايطالية يُطرح اطلاق مهمة صوفيا بعد ان استفحلت الازمة.
تجاوز عدد المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى “لمبيدوزا ” بحر الاسبوع المنقضي عدد سكان هذه الجزيرة التي تحرك اهاليها احتجاجا على تجهيز مخيم جديد لايواء الوافدين( 8500 شخص وصلوا خلال 3 ايام بينما يقدر عدد السكان المحليين بـ 7 الاف نسمة) . الارقام الرسمية التي اعلنت عنها وزارة الداخلية الايطالية تشير الى وصول 6700 مهاجر غير نظامي في يوم واحد) الاربعاء المنقضي ( واجمالا ارتفع عدد الوافدين على السواحل الايطالية انطلاقا من تونس لاكثر من 30 الفا من شهر اوت حتى يوم 14 سبتمبر الجاري .
طالبت ايطاليا الامم المتحدة بالتدخل لمواجهة هذه الازمة. وردت تونس على الانتقادات الموجهة اليها بتنظيم حملة امنية واسعة النطاق وصفتها وزارة الداخلية بـ”الهادفة” والتي جاءت بعد انطلاق ايطاليا في الحشد بهدف الدفع نحو تقاسم دول الاتحاد الاوروبي اعباء الازمة وفق مبدأ “التضامن الاوروبي” وايضا لتغيير السياسات المعتمدة عبر تصعيد اكدته رئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني التي اعلنت انها ستقدم اقتراحا لمجلس اوروبا يقضي باستخدام السفن الاوروبية ضد تجار البشر.
ميلوني اوضحت انها تقترح الاتفاق على مهمة بحرية اوروبية تمكن من ايقاف محاولات “المغادرة غير الشرعية للمهاجرين” مبرزة ان ذلك يعني تفعيل الجزئين الثاني والثالث من مهمة صوفيا اللذين لم يتم تفعيلهما مطلقا ” مفسّرة ذلك بانها” تتحدث عن استخدام السفن الاوروبية لوقف المهرّبين ومنع المغادرة باتفاق مع سلطات شمال افريقيا ” واصفة المعركة الحالية بانها “معركة بين الشرعية والمتاجرين بالبشر”.
وصوفيا هي “مهمة انقاذ تابعة للاتحاد الاوروبي في البحر المتوسط” تأسست سنة 2015. هذه العملية العسكرية البحرية الاوروبية تهدف اساسا الى الحد من الهجرة غير النظامية الى اوروبا علاوة على المساهمة في مراقبة تنفيذ قرار حظر توريد الاسلحة الى ليبيا وتوقفت هذه المهمة رسميا سنة 2020 . ومنتصف شهر جويلية المنقضي دعا وزير الهجرة اليوناني الاتحاد الاوروبي الى استئناف عملية صوفيا معتبرا ان ذلك يمثل احد الحلول لتجنب المآسي الناتجة عن الهجرة غير الشرعية.
من لمبيدوزا إلى صفاقس
انطلقت العملية الامنية في صفاقس في خضم الجدل الدائر باوروبا حول ازدياد مهول لعدد المهاجرين الوافدين على السواحل الايطالية انطلاقا من تونس من جهة وعن مدى جدوى مذكرة التفاهم الموقعة خلال شهر جويلية المنقضي من جهة اخرى. جاءت العملية وكأنها رد من تونس على اتهامها بالتواطؤ الذي سهل عمليات عبور القوارب بشكل متزايد خلال الاسابيع الاخيرة .
العملية الامنية بصفاقس وصفها الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالاستعراضية قال انها تساهم في وصم منطقتي صفاقس وقرقنة بالرقعة الجغرافية الخارجة عن القانون والتي يتطلب ضبطها انزالا جويا ووحدات مكافحة الارهاب واعتبر ان ذلك “يعزز الدعاية اليمينية المتطرفة في ايطاليا حول صفاقس ودورها في عمليات الوصول الى لمبيدوزا”.
شهدت المنطقة تنفيذ حملة واسعة بـ” تعليمات من رئيس الجمهورية” حسب بلاغ وزارة الداخلية وبحضور ميداني لمدير عام الامن الوطني وآمر الحرس الوطني وكبار القيادات الامنية وبمشاركة فرقة مقاومة الارهاب. الحملة كانت مدعومة بطائرات وحملت عنوان “مواجهة تدفق غير مقبول للمهاجريين غير النظامين” وتمت خلالها مداهمة مئات المنازل واحتجاز قوارب واعتراض محاولات “حرقة” منذ بداية انطلاقها في شاحنات تنقل المهاجرين علاوة على ايقاف اكثر من 50 منظم عمليات “حرقة” او المتاجرين بالبشر حسب التكييف الجديد الذي اصبح القضاء يعتمده بعد ان كانت توجه اليهم تهم تكوين وفاق اجرامي.
انتهت العملية باخلاء ساحات مدينة صفاقس واساسا “رباط المدينة” وباب الجبلي ونقل مجموعة من المهاجرين الافارقة الذين كانوا متواجدين بالمكان منذ اكثر من شهرين في حافلات الى منطقة العامرة. عدد الافارقة لا يتجاوز حسب ناشطين في المجتمع المدني من الجهة الـ500 وهم من دول جنوب الصحراء ينضاف اليهم مهاجرون من السودان تم نقلهم في حافلات الى مدينة العامرة التي شهدت بدورها احتجاجات وتحرّكا من الاهالي وتهديدا بتنفيذ اضراب عام.
نقل المهاجرين الى منطقة العامرة مثّل لغزا حقيقيا اذ انه قد لا يكون حسب شهادات من سكانها الا تسهيلا رسميا للمهاجرين للعبور نحو السواحل الايطالية باعتبار ان هذه المنطقة تعد احدى المناطق السوداء في خريطة “الحرقة” وآخر مراحل “ركوب البحر”. وقد يعزّز ذلك بالنسبة للبعض فرضية التوطؤ او التهمة الموجهة للسلطات التونسية من قبل بعض القوى الاوروبية وممن يعتبرون ان ما حدث خلال الايام الاخيرة بمثابة محاولة تملص تونسية من مذكّرة الاتفاق الموقعة منذ شهرين التي مثلت اهم النقاشات في لقاء وزير الخارجية نبيل عمار بسفراء دول الاتحاد الاوروبي الملتئم نهاية الاسبوع المنقضي )يوم السبت).
انفلات
فرضية التواطؤ ينفيها الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر الذي يذكّر في هذا السياق بالعدد الكبير للمهاجرين الذي منعتهم السلطات التونسية من الوصول الى اوروبا والذي بلغ قرابة الـ40 الف شخص )39500 تحديدا منذ بداية العام) وهذا الرقم يفوق الارقام المسجّلة خلال نفس الفترة من العام الماضي بـ116 في المئة.
اكثر من ذلك تعتبر هذه السنة الاكثر تشددا من قبل السلطات في التعاطي مع ملف الهجرة غير النظامية الذي يمثل، وفق قراءة معارضين لرئيس الجمهورية ، ورقة استعملها الرئيس للحصول على مقبولية من قبل الاتحاد الاوروبي وصفقة لـ ” تسهيل تعبئة موارد للميزانية” ينظر اليها كثيرون على أنها كانت بعيدة عن الاتفاق الذي توصلت اليه تركيا عند تدفق اللاجئين السوريين وان ما وُعدت به تونس فتات لن يحل مشاكلها .
لذلك تطرح بقوة حالة الانفلات التي تعيشها الدول المتدخلة في ملف الهجرة غير النظامية من جهة وعدم اتخاذ الجهات التونسية خطوات حاسمة بفتح هذا الملف مع الجارتين ليبيا وخاصة الجزائر الغائب الابرز في النقاشات الدائرة حول هذا الملف رغم اهمية دورها وفق ما تكشف تقارير حول مسالك الهجرة .
السلطات الايطالية التي عبّرت عند بداية المحادثات حول مذكّرة التفاهم معها عن مخاوفها من ارتفاع كبير في عدد المهاجرين غير النظاميين في صورة انفجار الوضع بتونس تبحث اليوم عن تصوّر اكثر شمولية وتشدّدا ولا يستثني اطلاق عملية “صوفيا جديدة” . انطونيو تاياني اكد في هذا الصدد ان الوضع في افريقيا “ليس قابلا للانفجار بل انفجر بالفعل ” داعيا الى ان تكون هذه الازمة ضمن نقاشات الجمعية العامة للامم المتحدة التي لن يشارك فيها مجددا رئيس الجمهورية قيس سعيد وكلف وزير الخارجية نبيل عمار بترؤس الوفد التونسي.
تاياني قال ايضا انه “من غير المجدي القيام بتدخلات مؤقتة” مبرزا ان ” افريقيا تعيش انقلابات وحروب وكوارث طبيعية” وانه “اصبح من غير الممكن السيطرة على الوضع”. واعتبر ان الحل الوحيد دبلوماسي وان ذلك يستدعي عقد اتفاقيات مع الدول الافريقية” وانه يمكن بعد ذلك أن تكون للمهمة البحرية وظيفة ردع وانه يمكن القيام بعملية صوفيا اخرى مجددا التأكيد على ان الحل يكمن في الاتفاقيات والاستثمارات .
ورغم خطورة ما يُقرأ بين سطور تصريحات المسؤولين الاوربيين من تصعيد ممكن في ادارة ازمة الهجرة غير النظامية، فإن الجهات الرسمية التونسية غائبة تماما عن المشهد ولم ترد حتى الان الا بمقاربة أمنية بحتة ولم تنجح رغم محاولات تمرير تطمينات في البلاغات والتأكيد فيها على المعاملة الانسانية من محو وصم العنصرية التي اصبحت حجة “الفارين” من تونس إلى اوروبا تعكس شهاداتهم صورة اكثر من سيئة عن البلاد وسلطاتها.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 سبتمبر 2023