الشارع المغاربي – تعد بعشرات الآلاف: تفاقم مرعب للجرائم في تونس - بقلم معز زيّود

تعد بعشرات الآلاف: تفاقم مرعب للجرائم في تونس – بقلم معز زيّود

29 مارس، 2019

الشارع المغاربي : “المصائبُ لا تأتي فُرادي”، هكذا أمسى ظلام الجرائم الشنيعة يُخيّم على سماء تونس، فلا يمُرّ يوم إلاّ وتتسارع شتى المواقع والمنابر في نقل معالم فظائع بشريّة جديدة ندر أن شهدت البلاد مثيلا لها منذ زمن. التفاقم المرعب للجريمة في هذه الربوع لا تؤكّده فقط الأرقام والإحصائيّات، وإنّما أيضا تضاؤل الإحساس بالأمان في ظلّ الفوضى المنتشرة. قضيّة تحتاج للتشخيص، بعيدا عن حرب المصالح السياسيّة المستعرة!.

كشفت وزارة الداخليّة منذ أسابيع أنّ الوحدات الأمنيّة المختلفة نجحت في حلّ ما يفوق نسبة 80 بالمائة من قضايا القتل والعنف والسرقة والمخدّرات والتهريب والهجرة غير النظاميّة. ومع ذلك اعترفت الوزارة بأنّ المجموع العام لمعدّل الجريمة في تونس ارتفع سنة 2018 بنسبة 13 بالمائة مقارنة بالعام الذي سبقه. جرائم عددها يتجاوز عشرات الآلاف تُرتكب في هذه البلاد، ومع ذلك تنهمك نُخبها في التكالب والتطاحن السياسي، بدلا من الانكباب على محاولة إيجاد الحلول لما حلّ بها من شرور وأمراض مزمنة…

التطبيع مع الفظائع!
لفتت آخر الإحصائيات الأمنيّة في مجال مكافحة الجريمة إلى أنّ جرائم القتل العمد بلغت 401 جريمة سنة 2018، في حين شهدت البلاد على امتداد عام 2017 ما يناهز 333 جريمة قتل عمد. وهو ما يعني ارتفاع جرائم القتل العمد بنسبة ضخمة ومفجعة جدّا تفوق 20 بالمائة. جرائم العنف ارتفعت نسبتها بدورها بـ9 بالمائة ليتجاوز عددها 46 ألف جريمة، في حين قارب عدد السرقات 50 ألف سرقة خلال عام 2018. وهو عدد مهول جدّا يكشف كمّ التونسيّين الذي تضرّروا من جرّاء تزايد عبث المجرمين الذين لا يرتدعون لأسباب عدّة…
يُضاف إلى ذلك ما حلّ من صبغة منظّمة للجرائم، حتّى باتت بمثابة المهن المعترف بها. فبعض الجرائم لم تعد حكرا على صغار المجرمين، بل تحوّلت إلى اختصاص لسلاسل من العصابات والشبكات الإجراميّة. فهناك من يتربّص ويراقب عن كثب وهناك من يتولّى المداهمة والاقتحام والسرقة أو التعنيف أو التهريب، وهناك أيضا من يقوم بأعمال التغطية. ولا شكّ أنّه يوجد أيضا من يتولّى مهام المؤازرة القانونيّة بهدف تبييض كفوف المجرمين والمهرّبين والإرهابيّين…
وليس غريبا مثلا ما أبلغنا إيّاه مصدر خاص بشأن وجود شبكة مختصّة في تهريب أنواع من الجرارات والشاحنات من ليبيا إلى تونس. وحسب ما ذكره لنا المصدر فإنّ عشرات الشاحنات من نوع “إيفيكو” تُهرّب إلى تونس، بفضل تسهيلات ورشاوى ضخمة. ثمّ يعمل الكثير من الميكانيكيّين بتفكيكها ليلا في أراض على ملك خواصّ في بعض المرابض الصحراوية، قبل التفويت فيها بالبيع في السوق السوداء. وفي المقابل تُبيّض المليارات في اقتناء العقارات في المناطق السياحيّة وخارج البلاد…
هذا هو الحال الكارثي الذي بلغناه، بينما لا يُركّز الرأي العام إلّا على الجرائم التي تسوقها له وسائل الإعلام مثل جرائم التحرّش والاغتصاب التي ارتكبها وحش آدمي بولاية صفاقس على 20 تلميذا، أو اغتصاب أستاذ لتلميذة بالسنة التاسعة أساسي بمدينة الحمّامات، فيُعزلُ من مهامه ولا يُحكم عليه إلا بثلاث سنوات سجن. وفي الأثناء يُصرّح وزير التربية بأنّ الوزارة تُسجّل “حوادث مماثلة” بشكل يومي. وهي للأسف رسالة خطيرة جدّا تكشف التحوّلات السلوكيّة الكارثيّة في المجتمع التونسي، تنهار معها الثقة في رفعة الحرم المدرسي، رغم أنّ تلك الممارسات الإجراميّة ليست حكرا على قطاع مهني أو فئة مجتمعيّة دون غيرها. فهؤلاء المتحرّشون والمغتصبون قد يتدثّرون بعباءة الإمام ولحْية المؤمن المتديّن أو يضعون نظارات التقدّميّة والحداثة، سواء في الأوساط الشعبيّة أو تلك التي توصف بالراقية على حدّ السواء…
المجال لا يسع لتعديد الأمثلة للجرائم المتواترة في البلاد باختلاف أنواعها، لاسيما أنّنا بتنا نشهد تطوّرا غير مسبوق في الطرق والوسائل الإجراميّة. ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى عمليّات الاحتيال الإجراميّة المتعدّدة ذات الصلة بانتحال صفات أطبّاء أو محامين أو أمنيّين أو حتّى نوّاب في البرلمان… كما أنّ هذه التحوّلات السلوكيّة الإجراميّة قد نفذت حتّى إلى قلب العائلة التونسيّة. ومثال ذلك أنّ مظاهر العقوق الإجرامي أصبحت واقعا معيشا غير مفاجئ للتونسيّين الذين دفعتهم بعض وسائل الإعلام المختصّة في الإثارة إلى التطبيع مع الفساد والإجرام الاجتماعيّين. وباتت جريمة فظيعة مثل تعرّض عجوز السبعين لاعتداءات وحشية بالعنف الشديد ومحاولة الاغتصاب على الأيدي الآثمة لابنها خبرا عاديّا يمضي وكأنّه لم يكن، مثلما حدث مؤخرا في عاصمة الأغالبة.

الأسباب والخلفيّات
أوضحت دراسة حول الجريمة في تونس، قدّمها المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية يوم 29 نوفمبر 2018، أنّ ارتفاع معدل الجريمة في تونس تزامن مع تدهور المقدرة الشرائيّة للمواطنين وتراجع نسب الاستثمار ومنسوب التنمية، فضلا عن حالة الإنهاك التي طالت جهود المؤسّسة الأمنيّة نتيجة تسخير إمكانياتها لمواجهة التحرّكات الاجتماعيّة والتصدّي للإرهاب.
قد تكون الاعتبارات التي ساقتها دراسة “المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية” موضوعيّة، لكنّها تبدو قاصرة عن رصد مختلف الأسباب والمسبّبات التي أدّت إلى ارتفاع معدّل الجريمة. فالجوانب التنموية لها أهميّتها الكبرى، لكنّها ليست العامل الأساسي الوحيد في استفحال الظواهر الإجراميّة، بدليل أنّ هناك دولا أخرى تتفوّق تنمويا على تونس بشكل صارخ، غير أنّ نسبة الجريمة فيها مرتفعة جدّا وتفوق ما هي عليه في البلاد التونسيّة، على غرار جنوب إفريقيا والبرازيل وفرنسا والصين والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها دول أخرى كثيرة… وتكفي الإشارة ههنا إلى أنّ مدينة تونس العاصمة مثلا تُعدّ من العواصم الأقل معدّلا للجريمة عربيا وإفريقيا ودوليا. فقد احتلت عام 2017 المرتبة الأولى في مؤشر دولي للسلامة والأمن ضمن 17 مدينة إفريقية، مُتصدّرة طبعا عواصم كامل بلاد شمال إفريقيا من الرباط إلى القاهرة. وهذا يعني أنّ العالم بأسره بات موحشا وأكثر جريمة إلى درجة مهولة، لكن هذه الإحصائيّات الدوليّة لا تُبرّر بأيّ حال من الأحوال تفاقم الظواهر الإجرامية في تونس.
ومع ذلك يبدو من المؤسف أنّنا أصبحنا، في هذا الصدد، نشهد تراجعا كبيرا في منسوب الثقة إزاء “البحوث” أو “الدراسات” المعلنة لعدد من المؤسّسات الرسميّة على غرار المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجيّة بسبب ما يعمد إليه المشرفون على تلك المؤسّسات من تسييس لأشغالها. فالمعهد لم يفعل سوى الإشارة إلى إحصائيّات وزارة الداخليّة ومحاولة تأويلها في الاتّجاه الذي يُريده. فقد أهمل معهد الدراسات الإستراتيجيّة، في استنتاجاته المتسرّعة، التأكيد على أسباب أخرى عديدة ومتفاوتة لارتفاع معدّل الجريمة في البلاد، فهي لا تقف فقط عند الأزمة الاقتصادية والتنموية وإنهاك المؤسّسة الأمنية. والغريب أنّ هذه الصورة القاصرة لم تأخذ حتّى بالتفاصيل المهمّة لإحصائيّات وزارة الداخليّة ذات العلاقة، بل عمدت إلى القفز عليها مُعتمدةً اختزالا تأويليا يهدف إلى تسويق خطاب سياسي لا صلة له بمناهج البحث العلمي.
وفي هذا المضمار كشفت إحصائيّات وزارة الداخلية أنّ الجرائم ذات العلاقة بترويج المخدرات واستهلاكها احتلّت أعلى نسبة من بين مجمل الجرائم المرتكبة والمرصودة. وقد بلغ عددها 5748 خلال عام 2018، وسجّلت ارتفاعا بنسبة 26 بالمائة مقارنة بما كانت عليه عام 2017.
عوامل عديدة أسهمت إذن في تفاقم هذه الظاهرة، وفي مقدّمتها حالة الفوضى العارمة وما يتخلّلها من استضعاف للدولة وعجزها عن تطبيق القانون بمنتهى العدالة والمساواة على الجميع. فكان من الطبيعي أن يؤدّي ذلك إلى درجة عالية من الشعور بالإفلات من العقاب. وهو ما يُنبئ عموما بتفاقم حدّة الأزمة الاجتماعيّة بمختلف مظاهرها وعوارضها مثل التطبيع مع الفساد المستشري في البلاد ورواج آفة المخدّرات والتفكّك الأسري وسوء ظروف الإقامة في المؤسّسات السجنيّة بما يؤدّي إلى ارتفاع نسب العود إلى ارتكاب الجرائم والتشجيع على السلوك المتطرّف وعدم قبول الآخر…
فوضى شاملة ودولة عاجزة على تطبيق القانون وحالة فصام فرديّة وجماعيّة أذهبت العقول والأذهان. كلّ ذلك غذّته حالة مفزعة من الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي انغمست فيها النخب التونسيّة بشكل عام، فحادت عن التركيز على أهمّ أدوارها، وأدّت بالضرورة إلى استفحال حالة الإحباط وتفاقم أسباب انتشار الجرائم المروّعة…

صدر بالعدد الأخير من”الشارع المغاربي”.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING