الشارع المغاربي: اثر زيارته الأخيرة إلى بروكسل صرح رئيس الحكومة يوسف الشاهد أن تونس ستُوقّع على اتفاق منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق في غضون سنة 2019 والحال أن حكومته مثلها مثل سابقاتها لا تملك أي تفويض من مجلس نواب الشعب يخول لها مُجرّد الدخول في مفاوضات حول هذا المشروع. هذا التصريح الخطير يحمل في طياته عديد القرارات المصيرية التي ترمي إلى بسط حماية جديدة على البلاد التي خطط لها الاتحاد الأوروبي خارج الإرادة الوطنية والشعبية في تونس والتي دخلت حيز التنفيذ منذ أكثر من أربعة عقود بطريقة مدققة ومدروسة بحكمة. اعتمد هذا التخطيط سياسة مراحل ترمي إلى تغيير ثقافي وتربوي وتشريعي عميق للمجتمع التونسي يستحيل معه الرجوع إلى الأصل ليجعل من تونس بلدا تابعا للاتحاد الأوروبي وجزءا لا يتجزأ منه مثله مثل العديد من بلدان المغرب العربي والبلدان الإفريقية في إطار المحافظة على المصالح الاقتصادية التي تعتمد على التصدي للنفوذ القادم من القوى العالمية والإقليمية الصاعدة مثل الصين و تركيا.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بكل قوة وبكل خطورة والذي يجب علينا جميعا الوقوف عليه بكل جدية: كيف وصل الحال إلى هذه الدرجة من السطو على القرار الوطني وما هي الأُطر النظرية التي تم اعتمادها لتحقيق هذه الهيمنة و كيف يمكن المحافظة على ثوابت تونس ومصالح الشعب التونسي في هذا الخضم الذي تدور رحاياه في عقر دارنا؟
للجواب عن هذه الأسئلة المحورية يجب علينا التذكير ولو بصفة موجزة بأهم المراحل والمضامين الأساسية الاقتصادية و السياسية والاجتماعية التي مرت بها بلادنا منذ انتصاب الحماية الاستعمارية الفرنسية إلى اليوم حيث تتجدد أوجه التشابه بلا منازع رغم اختلاف الملابسات والمخرجات.
تاريخيا في القرن التاسع عشر كان لتفشي ظاهرة الفساد والإثراء الفاحش لطبقة ضئيلة على حساب غالبية الشعب واللجوء المتزايد إلى التداين الخارجي الذي دفع نحو الضغط الجبائي الفاحش والمتواتر (المجبى) الدور الأساسي للتدخل الأجنبي في بلادنا. لقد لعب رموز الفساد والخيانة أمثال مصطفى خزندار ومحمود بن عياد ونسيم شمامة والسماسرة من الداخل والخارج من أمثال البارون رودولف برلنجر الدور المحوري في جر البلاد إلى الإفلاس الذي أدى إلى اندلاع انتفاضات شعبية بقيادة علي بن غذاهم سنة 1864 فسحت المجال لتدخل القوى الأجنبية ومثلت المدخل الرئيسي لانتصاب الحماية الفرنسية على البلاد بعد تقديم تقرير اللجنة المالية الدولية ((La Commission Financière Internationale التي أثبتت تورط مصطفى خزندار ومجموعته في الفساد الموغل بقدر ما بينت التواطؤ المباشر للقنصليات الفرنسية والإيطالية والبريطانية في هذه المكيدة الكبرى.
بالرجوع لما يجري اليوم في تونس يجب أيضا التأكيد على أن الاستعمار الفرنسي قام في سنة 1883 أي سنتان فقط بعد انتصاب الحماية بتفكيك المعاليم الديوانية على كل المنتوجات الموردة من فرنسا وذلك نزولا عند الرغبة الملحة لمنظمة الأعراف الفرنسية التي سعت للاستفراد بالسوق التونسية أمام احتجاج كبير لإيطاليا و بريطانيا. هذا القرار الذي أدى إلى ركود القطاعات المنتجة الوطنية خاصة على المستوى الصناعي نظرا للمنافسة التي ضربتها الشركات الفرنسية بقي نافذ المفعول إلى سنة 1959 حيث اتخذت حكومة الاستقلال قرارا بتعميم توظيف المعاليم الديوانية على كل المنتوجات المستوردة من الخارج بما فيها الفرنسية مما فسح المجال للاستثمار الداخلي في كل الميادين وخاصة في الميدان الصناعي الذي عرف فترة انتعاش كبيرة طيلة الستينات.
مراحل التجربة الاقتصادية التونسية بعد الاستقلال
منذ بداية الاستقلال مرت البلاد عبر سياسة تونسة الإدارة والاقتصاد بين 1956 و1959 ثم عبر مرحلة مخطط الآفاق العشرية التي امتدت بين سنة 1961 وسنة 1969 والتي رفعت شعارات واضحة تعتمد القضاء على مخلفات الاستعمار الاقتصادي أسس لها قرار الخروج من منظومة الفرنك الفرنسي وسنّ الدينار بالقانون رقم 58–109 لسنة 1958 وتأسيس البنك المركزي التونسي كما تم تأميم عديد القطاعات الإستراتيجية مثل النقل والكهرباء والغاز والمناجم وغيرها. كما تم التأكيد على ضرورة تحسين مستوى العيش للمواطن التونسي وتحديد دور رؤوس الأموال الخارجية وتشجيع الإنتاج الداخلي لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتطوير السوق المحلية.
تم وضع حد لهذا التوجه في علاقة بدور الدولة المحوري في هذه التجربة حيث تزامن إيقافها في نفس السنة التي تم فيها التوقيع على أول اتفاقية بين تونس و المجموعة الأوروبية و التي تتمحور حول اعتراف الطرف الأوروبي بعدم التكافؤ بين الطرفين و ان الطرف الأوروبي يسمح بدخول المنتوجات التونسية إلى السوق الأوروبية بدون معاليم ديوانية بينما تستمر تونس في فرض معاليم ديوانية على المنتوجات المستوردة من بلدان المجموعة الأوروبية. غير أن الإنتاج الصناعي التونسي آنذاك كان محدودا جدا أو شبه معدوم. من ذلك تبين في حقيقة الأمر أن هذه الاتفاقية كانت تمهد لرجوع المنتوجات الأوروبية التي تأسست تحت نظام الشركات الغير مقيمة والمصدرة كليا التي انطلقت بمقتضى قانون أفريل 1972 في كنف قانوني يسمح لها بالرجوع للسوق الأوروبية بدون معاليم ديوانية حتى تعزز القدرة التنافسية للشركات الأوروبية التي تعتمد المناولة في تونس.
منذ سنة 1970 انطلقت تونس في مرحلة تحرير الاقتصاد في إطار سياسة عامة أطلق عليها اسم “سياسة الانفتاح” والتي تم اعتمادها في بلدان العالم الثالث من بينها مصر وعديد البلدان الإفريقية والآسيوية وبلدان أمريكا اللاتينية التي شهدت مرحلة انقلابات عسكرية تدور في إطار الحرب الباردة و الصراع القائم بين المعسكر الأطلسي الذي تقوده الولايات الأمريكية والمجموعة الأوروبية والمعسكر الشيوعي الذي يقوده الاتحاد السوفياتي. هذه السياسة اعتمدت تشجيع المناولة الصناعية لفائدة الشركات الأوروبية عبر حوافز تشجيعية تعتمد الإعفاء الضريبي والأجور المتدنية والتي لم تمكن من تحقيق تنمية وطنية مبنية على منظومة إنتاجية محلية ذات قيمة مضافة عالية نتيجة استيعاب التحويلات التكنولوجية الهامة. لقد تم التوجه محليا نحو بعث نسيج صناعي تحويلي يعتمد على اليد العاملة في أواخر مراحل التصنيع.
هذه السياسة لم تتمكن من توفير مواطن شغل مستدامة وذات قيمة علمية عالمية قادرة على استيعاب أفواج الكفاءات الجامعية التي ارتفع عددها نظرا لتطور التعليم في البلاد. كما أن الضغط المستمر على الأجور لتمكين الشركات الأوروبية للجوء إلى الإنتاج في تونس أدى إلى عديد الأزمات الاجتماعية نذكر من أهمها أزمة 26 جانفي 1978 التي أدت إلى وفاة عديد المواطنين اثر قرار المنظمة الشغيلة بإعلان الإضراب العام في البلاد نظرا لانسداد الحوار مع حكومة الهادي نويرة آنذاك. كذلك الشأن بالنسبة لاندلاع ما اصطلح على تسميته بانتفاضة الخبر في جانفي 1984 وذلك على خلفية الأزمة الاقتصادية التي عرفتها البلاد بعد انهيار سعر البترول الذي كان يمثل قرابة 70 بالمائة من مصادر العملة الأجنبية للبلاد تزامن مع ثلاث سنوات جفاف أثرت على المردود الفلاحي.
في خضم هذه الأزمات كانت المجموعة الأوروبية تخطط لبرنامجها المتواصل في جنوب البحر الأبيض المتوسط حيث قامت في سنة 1977 بالتوقيع على الاتفاقية الثانية مع تونس اعتمدت بموجبها مبدأ الحصص في التوريد بين الطرفين. حيث اعتبرت بلدان المجموعة الأوروبية آنذاك أنها قدمت تنازلا في سنة 1969 لبيع المنتوجات التونسية بدون معاليم ديوانية مقابل توظيف المعاليم على المنتوجات القادمة من البلدان الأوروبية وأن هذا الاتفاق حدد حصصا لكل منتوج من باب الاحتياط كي لا يتم تعويم السوق الأوروبية وقد اتضح أنه كان تخوفا لا مبرر له لأن الإنتاج التونسي كان في حدود نسب ضعيفة جدا.
على اثر الأزمة المالية والاجتماعية التي اندلعت في سنة 1984 تم اللجوء إلى صندوق النقد الدولي الذي كان يشهد تغيرا عميقا في توجهاته نتيجة للتغيرات التي بدأت تظهر على مستوى الصراع بين القطبين الغربي والشرقي والذي بدأ ينبئ بانهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار المعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. هذا الوضع الجديد جعل المؤسسات المالية العالمية تفرض وصفات أحادية تُطبق على كل بلد عرف أزمات مالية و طلب التدخل من طرفها سميت بالإصلاحات الهيكلية و تعتمد بالأساس على تكريس مبدأ التفويت في القطاعات العمومية و تخلي الدولة عن كل القطاعات المنتجة وعلى مبدأ حرية التجارة عند التوريد و الضغط على الأجور و الانتداب في القطاع العمومي.
في إطار هذا التوجه الجديد تم الاتفاق على إنشاء المنظمة العالمية للتجارة ( (OMCالتي عوضت الاتفاق العام للتعريفات الديوانية و التجارية ((GATT الذي صادقت عليه تونس في سنة 1990 و انخرطت في المنظمة الجديدة بصفتها عضوا رسميا اثر تكوينها في سنة 1995. لقد كان هذا التمشي مبررا للاتحاد الأوروبي لفرض اتفاق شراكة بينه و بين تونس معللا ذلك بأن المنظمة العالمية للتجارة تمنع منح معاملات تفاضلية بين الدول المنخرطة فيها و انه يتحتم على تونس أن تنخرط في هذه الشراكة.
غير ان الغريب أن الحكومة التونسية لم تقم بأية دراسة استشرافية لمعرفة مدى تداعيات هذا الاتفاق الغير متكافئ بين الطرفين في جميع المجالات خاصة منها العلمية والتكنولوجية والتنظيمية والمالية وغيرها. بمعنى تمت شراكة بين قطب يعد آنذاك ثلاثة عشر دولة من أكبر الدول تقدما في العالم مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وغيرها وبين تونس ذات النسيج الصناعي الهش والذي يعتمد تكنولوجيا ضعيفة وما زالت في طور التبلور البسيط.
في حين أن البنك الدولي قدم دراسة في سنة 1994 نبه فيها الدولة التونسية أنها ستفقد بمقتضى هذا الاتفاق ما لا يقل عن 48 بالمائة من نسيجها الصناعي الوطني وأنه سينتج عن ذلك ارتفاع كبير لنسبة البطالة في البلاد مع إمكانية نشوب أزمات اجتماعية خطيرة. غير أن الحكومة آنذاك لم تولِ هذه الدراسة أي اهتمام حيث كان نظام بن علي يفكر في الخوصصة وفي كيفية الانقضاض على القطاعات العمومية وتوزيعها على عائلته وعلى المقربين منه. كما أنه لم يستشر أي طرف اجتماعي في الموضوع واستفرد بقراره بينما كان من الضروري القيام باستفتاء في الموضوع نظرا لأهميته المصيرية على مستقبل البلاد. كما قام بتطبيق هذا الاتفاق منذ بداية سنة 1996 أي قبل المصادقة عليه من طرف مجلس الأمة حتى وإن كان الأمر صوريا نظرا لطبيعة العلاقة بين المجلس و بين النظام المستبد وذلك في تناقض كامل مع الفصل الثاني من هذا الاتفاق الذي ينص على” ضرورة احترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان داخليا و خارجيا من الاطراف الموقعة على اتفاق الشراكة“. والحال أن بلدان الاتحاد الأوروبي لم تقم بتطبيق هذا الاتفاق إلا بداية من سنة 1989 أي بعد مصادقة كل برلمانات البلدان الأوروبية الموقعة عليه؟
من المؤسف اليوم أن نشاهد حكومات ما بعد الثورة تطبق نفس الأساليب الأحادية المستبدة و المستهترة بمستقبل البلاد وبمستقبل أجياله سواء على مستوى حكومة الترويكا على يد رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي وعلى من خلفه علي العريض ومهدي جمعة وكذلك حكومات ما بعد انتخابات سنة 2014 برئاسة الحبيب الصيد ويوسف الشاهد، والذين دخلوا في مفاوضات بدون أي تفويض سواء من المجلس التأسيسي سابقا أو من مجلس نواب الشعب الحالي.
من ذلك يمكن التأكيد بدون منازع أن كل ما تعانيه تونس من أزمات اقتصادية و اجتماعية منذ التسعينات إلى اليوم هي نتاج لهذا الاتفاق الغير متكافئ والذي قضى على النسيج الصناعي الوطني بنسبة تفوق 55 بالمائة حسب دراسة صدرت في سنة 2012 عن البنك الدولي بتعاون مع المعهد الوطني للإحصاء. مما أدى إلى فقدان 440 ألف موطن شغل مستديم و له قدرة علمية عالية كان بالإمكان أن يوفر قطب لاستيعاب العديد من أصحاب الشهادات العليا في البلاد. كما أدى هذا الاتفاق إلى فقدان أكثر من 40 مليار دينار للخزينة الوطنية التي كانت متأتية من المعاليم الديوانية التي كانت توظف على المنتوجات المستوردة من بلدان الاتحاد الأوروبي التي تمثل 80 بالمائة من قيمة وارداتنا هذا علاوة عن الأداء على القيمة المضافة التي كانت توظف عليها مباشرة. وقد استفادت الشركات الأوروبية مباشرة بهذا التفكيك حيث رفعت في هامشها الربحي نتيجة استفرادها بالسوق التونسية ونتيجة الحماية التي أصبحت تتمتع بها داخل السوق المحلية وذلك على حساب رصيدنا من العملة الأجنبية حيث ان رفع هامش الربح يتم تسديده مباشرة بالعملة الأجنبية.
كما أن هذا الاتفاق أدى إلى تعميم وتعميق تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج حيث أثبتت دراسة جدية قام بها معهد الدراسات الاقتصادية و السياسية التابع لجامعة مساسوستشس الأمريكية أن رؤوس الأموال المهربة من تونس في المدة بين 1987 و2010 تقدر بـ 33,9 مليار دولار أمريكي وقد ذكر التقرير أن وتيرة التهريب ارتفعت بعد التوقيع على اتفاق الشراكة بين تونس و الاتحاد الأوروبي أي بداية من أواخر التسعينات وبداية الألفينيات.
وقد نتج عن ذلك مثلما نبه إليه البنك الدولي ارتفاع كبير في نسبة البطالة نتيجة التصحر الصناعي وفي تفشي ظاهرة الهجرة السرية التي لم يكن يُعرف لها مثيل من قبل علاوة على ارتفاع ظاهرة الإجرام والتهرب الجبائي والتهريب وتفشي ظاهرة الاقتصاد الموازي الذي زعزع اقتصاد البلاد إلى اليوم.
كما يجب أيضا التذكير بأن اتفاق الشراكة الموقع في سنة 1995 كان يحمل في طياته فصولا عديدة تمهد لتعميق هذا الاتفاق ليشمل كل القطاعات الأخرى سواء منها الاقتصادية كقطاع الفلاحة المنصوص عليه بالعنوان الثاني من الفصل 15 إلى الفصل 18 والخدمات وحرية الانتصاب في العنوان الثالث بالفصلين عدد 31 و32. كما ينص كذلك بالفصل 46 على ضرورة إدماج قطاع التربية والتكوين وهذا ما يفسر حسب عديد التسريبات وجود فريق فرنسي مشبوه داخل وزارة التربية يعمل في إطار إصلاح التعليم الوطني في تونس في بادرة يندى منها الجبين وأمام صمت كامل لكل الاطراف المعنية.
كما شمل هذا الاتفاق أيضا مسائل خاصة بمجلة الأحوال الشخصية مثل المساواة في الميراث وزواج التونسية المسلمة بغير المسلم و قانون المثلية الذي صدرت فيه قرارات من برلمان الاتحاد الأوروبي في أواخر سنة 2016 ضمت 66 قرارا تطالب الحكومة التونسية بضرورة تطبيقها في آجال قريبة أي قبل التوقيع على مشروع منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق. وهو ما قام بتسويقه رئيس الجمهورية في 13 أوت 2017 بمناسبة عيد المرأة ليقدمه كإنجاز وطني
و يتم استعماله في المناسبات الانتخابية. و قد كنا نتمنى أن يكون هذا في إطار قرارات سيادية يطالب بها الشعب التونسي و تنطلق من مشمولاته الذاتية فقط.
صعود إستراتيجية رأسمالية الكوارث أو كيف تم التنظير إلى سياسة تفكيك القطاع العام و إهدائه للقطاع الخاص
في سنة 2009 أصدرت المؤلفة الكندية ناعومي كلاين كتابها الموسوعي تحت عنوان “عقيدة الصدمة” أو إستراتيجية الصدمة” الذي تمت ترجمته إلى اللغة العربية من طرف نادين خوري الصادر ببيروت. يعالج هذا الكتاب صعود ما سمي برأسمالية الكوارث التي أسس لها المفكر الاقتصادي لليبرالية المتطرفة ميلتون فريدمان الذي ينفي أي دور للدولة. يمكن اعتبار هذا الكتاب الموسوعي الضخم أهم ما صدر عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة من قبل المؤسسات والدول الكبرى في العالم منذ ثلاثين عاما، وخاصة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وإلى الآن وفي هذا الكتاب، تشرح ناعومي كلاين أسطورة انتصار اقتصاد السوق الحرة عالميًا بطريقة ديمقراطية، وتكشف أفكار ومسارات المال، وخيوط تحريك الدمى وراء أزمات وحروب غيّرت العالم في العقود الأربعة الأخيرة وتسمي الكاتبة هذه السياسات بسياسة ” المعالجة بالصدمة “. وتشرح ما جرى في البلدان التي تعرضت للعلاج بعقيدة الصدمة، كما تشرح تأثير سياسات صبيان مدرسة شيكاغو” Chicago boys ” (وهو كنية أطلقت على مجموعة من الاقتصاديين الشيليين في السبعينات التي تكونت في جامعة شيكاغو تحت تأثير ميلتون فريدمان و الذين اشتغلوا لصالح النظام الدكتاتوري العسكري للجنرال بينوشي الذي أطاح بالرئيس سلفاتور ألندي المنتخب ديمقراطيا) في المدرسة الفكرية للاقتصاد الكلاسيكي الحديث في المجتمع الأكاديمي للاقتصاديين الذي يعارض أي تدخل الذين بنى بعضهم وعمـَّر مبادئها), على الدول التي طبقتها، سياسياً واجتماعياً، من إندونيسيا سوهارتو إلى تشيلي والأرجنتين والبرازيل ثم روسيا وشرق آسيا وصولاً إلى العراق حيث يقوم مذهب رأسمالية الكوارث على استغلال كارثة، سواء كانت انقلاباً ، أم هجوماً إرهابيا، أم انهياراً للسوق، أم حرباً، أم تسونامي، أم إعصارا، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها المواطنون في الحالات الطبيعية.
إن المتأمل في الوضع الاقتصادي والاجتماعي منذ انطلاق الثورة إلى اليوم يلاحظ أنه لا يوجد أي تغيير نحو الأفضل كما كانت تتمنى الأغلبية العظمى للشعب التونسي خاصة على مستوى الفئات المتوسطة والمعوزة وعلى مستوى الشباب العاطل عن العمل والذي أصبح يلتجئ للهجرة السرية ولعمليات الانتحار غرقا أو حرقا. كما نلاحظ هجمة ليبرالية تسوق إلى مزيد من التفويت فيما تبقى من مؤسساتنا الوطنية الإستراتيجية مثل وكالة التبغ والوقيد و تونس الجوية شركة الكهرباء والغاز وتوزيع المياه وميناء رادس وغيرها من القطاعات السيادية الهامة التي يمنع دخول رؤوس الأموال الأجنبية فيها في الولايات المتحدة الأمريكية و كذلك في فرنسا وفي ألمانيا وغيرها بعنوان المصالح الأمنية لتلك البلدان غير أنها أصبحت مستباحة في بلادنا بدون قيد أو شرط.
ذلك لأن كل الحكومات التي جاءت بعد الثورة انخرطت في تسويق إستراتيجية الصدمة حيث انتشرت ظاهرة التخويف بالإرهاب كلما انطلقت الاحتجاجات للمطالبة بالشغل وبالتحكم في التوريد والتحكم في الأسعار للمحافظة على ما تبقى من القدرة الشرائية فيجيبهم رئيس الحكومة بأنه سوف يتم وقف صرف منح التقاعد وأنه سوف يتم وقف كل الانتدابات في سنة 2019 وربما لعدة سنوات كما أن البلاد مازالت مهددة بالإرهاب الذي سيأتي من القطر الليبي شرقا ومن الجهة الغربية أيضا.
إن إعلان رئيس الحكومة يوسف الشاهد بنية التوقيع على اتفاق منطقة التبادل الحر الشامل و المعمق الذي سيفتح الباب على مصراعيه في قطاعات حساسة مثل القطاع الفلاحي و قطاع الخدمات في كل المجالات أمام بلدان تعتبر من أكبر البلدان في العالم الداعمة لقطاعها الفلاحي و التي ستخول لمواطني ومؤسسات هذه البلدان الانتصاب الحر و بدون تأشيرة في بلادنا مع حق تحويل كل المرابيح إلى بلدانهم يعتبر انتحارا لا شك فيه و ضربا للسيادة الوطنية خاصة وأن التونسيين لا يحق لهم لانتصاب في البلدان الأوروبية إلا بتأشيرة دخول. هذا علاوة على الظروف الاقتصادية الكارثية التي تشهدها البلاد خاصة على مستوى الانهيار الممنهج لقيمة الدينار التونسي و في ظل العجز التجاري المعمق الذي فاق 25 مليار دينار في سنة 2017 و الذي ازداد تعمقا في هذه السنة و في ظل تزوير هذا المؤشر الخطير بتواطؤ مع الاتحاد الأوروبي و خاصة مع فرنسا و في ظل تعاظم المديونية للبلاد و فقدان للقرار السيادي للمطالبة بحق تطبيق القانون عدد 12 للمنظمة العالمية للتجارة و الفصل 35 من اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي يعد تسليما لإعادة انتصاب الحماية الأجنبية على وطننا.
إن هذا التسويف يرتقي إلى مستوى التخاذل نحو البلاد ونحو الشعب وإن الزيارات التي تحركها أيادي فرنسية وأوروبية مثل زيارة وزير الخارجية السابق لتونس إيبار فدرين بمعية سفير بلاده الذي عاث في البلاد تجاوزات لا حدود لها و الذي تم استقباله من طرف رئاسة الجمهورية ومن طرف راشد الغنوشي بصفتهما الأغلبية في مجلس نواب الشعب هو حث وضغط مباشر لكي يوقعوا على مشروع منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق.كما أن استقبال راشد الغنوشي مع صهره رفيق عبد السلام واثنين من ممثلي الحزب في بروكسل من طرف فديريكا موقيريني ممثلة الدبلوماسية الأوروبية و الشؤون الأمنية مؤخرا كان بمثابة إعلان الولاء التام والانصياع. إن سكوت رئيس الجمهورية حول هذا الموضوع هو أيضا انصياع للهيمنة الأوروبية المباشرة و التي أصبحت واضحة وغير مقنعة. إن التضليل والتعتيم الذي تفرضه بعض وسائل الاعلام والذي يسوق لفائدة المصالح الأوروبية على حساب السيادة الوطنية والحقوق المشروعة للشعب التونسي في العيش بكرامة وعزة وأمن في بلاده تونس يرتقي إلى مستوى خطير جدا شبيه بالذي ساد في تونس أيام مصطفى خزندار ومحمود بن عياد ونسيم شمامة الذين قاموا بتهريب ما يمثل خزينة الدولة لعدة سنوات والذين استقبلتهم فرنسا ( وتركيا أيضا بالمناسبة لمحمود بن عياد الذي لجأ لاسطنبول بعد فرنسا) ليتم استثمارها واقتسامها معهم حيث رفضت السلطة الفرنسية تسليم السارق والمسروق مثلما تفعل اليوم في مسألة الأموال المنهوبة و المهربة إلى الخارج. إن التاريخ يعيد نفسه وعلى الشعب التونسي أن يعي خطورة هذا الوضع وان يستعد سلميا للدفاع عن حقوقه المشروعة لمنع التوقيع عن هذا الاتفاق الجائر ولمنع التفويت في مؤسساته العمومية الإستراتيجية وذلك من منطلق بديل وطني ديمقراطي متوفر يرتكز على تطبيق بنود المواثيق الموقع عليها لرد الاعتبار للعملة الوطنية التي تمثل المحور الأساسي للخروج من هذه الأزمة المفتعلة تحت شعار “عقيدة الصدمة” التي لا ينبغي أن تنطلي على الشعوب كما بدأ يتبين من خلال نضالات عديد البلدان في أمريكا اللاتينية وغيرها مثل الأكوادور البلد المثالي الذي نجح في الخروج من هذه الأزمات بطريقة وطنية صادقة وسلمية جديرة بالدراسة وبالاحتذاء بها.