الشارع المعاربي : كان يفترض أن يطمئنّ صاحب التّكليف الثّاني لمصادقة البرلمان على حكومته، لكن كان لرئيس الجمهوريّة اعتماد مفهوما آخر لكلمة “الشخصيّة الأقدر”. لقد خصّ الدّستور الشّخصيّة الأقدر بهذا التكليف لتكوين حكومة في أجل شهر، ووضع شرطين لمنحها تلك الصّفة : اولهما أن تكون جامعة بمعنى تتمتّع بسند برلمانيّ وثانيهما امكانيّة اقتراح حكومة في وقت وجيز لا يزيد عن الشّهر .
إنّ اعتماد الشّرطين المذكورين يفرز أنّ التّكليف الثّاني موجّه للشّخصيّة ذات السّند البرلماني الأقوى، ولا يتعلق السّند بالجهات التي رشحت هذه الشخصية وانما هو مرتبط بتمثيليتها العدديّة في البرلمان. وبذلك تكون العمليّة على غاية من البساطة وتنأى برئاسة الجمهوريّة عن التّجاذبات السّياسيّة وفيها، أيضا، تطبيق موضوعيّ لأحكام الدّستور والتحام به وفرصة للسيد رئيس الجمهوريّة للتأكيد على أنه الضامن لاحترامه.
كان التّمشّي مخالفا للانتظارات، إذ لم يكتف رئيس الجمهوريّة بالاستماع إلى الشّخصيّات الأقرب للفوز بالتّكليف ولم يستمع إلى كلّ المرشّحين ولو رمزيّا لم يستقبل ولو واحدة من النّساء المرشّحات الثلاثة، واختار مجموعة بدوافع لا يمكن أن تكون إلاّ ذاتيّة ثمّ انتهى بتكليف إلياس الفخفاخ.
ليس استنقاصا من صلاحيات رئيس الجمهوريّة، لكن الدّستور لم يمكّنه من الاختيار وجعل منه، فقط، الجهة التي تكلّف الشّخصيّة المقترحة من الحزب أو من الائتلاف الاتتخابي الأوّل في البرلمان، بمناسبة التّكليف الأوّل، ثمّ في التّكليف الثّاني، له تكليف الشّخصيّة التي يقترحها أكبر عدد من النّواب عبر أحزابهم أو كتلهم. لقد انطلق التّمشّي بطلب الاقتراحات الكتابيّة وفي ذلك بادرة مقبولة تجنّب ضياع الوقت وتحترم روح الدّستور ليكون التّكليف الثّاني ناتجا عن عمليّة حسابيّة خاصّة ان خطاب التّكليف استأنس بنتيجة الانتخابات التشريعيّة .
لقد أثّر مسار التّكليف الثّاني على مسار تكوين الحكومة بمعنى أنّ السيّد إلياس الفخفاخ اضطرّ إلى البحث عن حزام سياسيّ كان من المفترض أن يكون جاهزا مسبّقا، وهو الوضع الذي قلب الأدوار وأحدث خلطا أدّى إلى التّعطيل وحتّى المسّ من روح النّظام السّياسيّ وهو برلمانيّ معدّل.
النّيل من مؤسّسة رئاسة الحكومة :
تتميّز مؤسّسة رئاسة الحكومة باستقلاليّتها التّامة عن رئاسة الجمهوريّة فلكلّ واحدة منهما صلاحيّات خاصّة وأخرى مشتركة في علاقة منظّمة تجنّب البلاد ما سبق أن عاشت على وقعه وتحدث توازنا نافعا. والاكتفاء بتكليف الشّخصيّة المرشّحة من اجل تكوين حكومة، دون الاختيار، يهدف إلى المحافظة على خاصّيّة هذا النّظام الذي أسّس له الدّستور.
إنّ الشّعور بأنّ التّكليف الثاني قد تأسّس على اختيار ذاتيّ جعل الشّخصيّة المكلّفة مُمتننة لرئيس الجمهوريّة وأدّى، ذلك، مباشرة إلى خلط تسبب في انحراف بالمسار، فلاحظنا شكرا وامتنانا في كلّ المناسبات وأكثر من ذلك، نرى السيد إلياس الفخفاخ يتردّد بصفة شبه يوميّة على قصر قرطاج ويصرّح باطلاع الرئيس بشكل مستمرّ على تقدّم المشاورات .
ومن منطلق “الولاء” لمن اختاره كان التّمشّي مبنيا على السّعي لردّ الجميل بعد اختلاط الأمور وتداخلها، من ذلك الاستئناس بنتائج الانتخابات الرّئاسيّة في دورها الثّاني بدل نتائج التّشريعيّة اي انعاش فترة الحملة الانتخابية واعادة احيائها رغم انتهائها بتنصيب رئيسا لكلّ التونسيين لذلك يمكن القول ان في احيائها ، نزعة لاعادة البلاد إلى زمن ما قبل نتائج الاقتراع. وهنا اصطفّ السّيد إلياس الفخفاخ مع من أيّدوا وساندوا صعود الرئيس الحاليّ رغم أنّه كان هو نفسه من بين من ترشّحوا ضدّه، ثمّ انطلق في تكوين حكومته فقط على ذلك الأساس .
وكشف الفخفاخ مع انطلاقه في المشاورات عن موقفه من حزب المرشّح الثّاني في الرّئاسيّة ،موقف استند له لاقصائه من مسار هامّ ، أما السبب فيتمثل في ان مرشح قلب تونس كان منافسا للرّئيس الحاليّ واعتبر إلياس الفخفاخ ذلك خطيئة في حق الرّئيس الذي اختار تكليفه ومكّنه من الرّجوع إلى السّاحة السّياسيّة. نعم انحصر ذلك الاقصاء في حزب قلب تونس خاصّة وأنّه سبق للحزب الدّستوري الحر أن صرّح بأنّه غير معنيّ بهذا المسار واستثنى نفسه مثلما كان الأمر في حكومة التّكليف الأوّل.
إنّ التّنافس الانتخابيّ محمود ولا يمسّ بالأشخاص فهو أداة تمكّن الشّعب من الاختيار والتّعبير عن إرادته، وينتهي الأمر بالاعتراف بالخسارة وقبولها وتهنئة الفائز، فبعد قبول الرّئيس المنتخب تهاني منافسه لم يبق ما يبرّر هذا النّهج، ألم يصرّح السّيّد الرّئيس بأنّه رئيس كلّ التّونسيّين ؟
أعتقد أنّه كان من الأجدر ردّ الجميل بانجاح هذا المسار وليس بالتّصرّف بثوب وزير أوّل والإيحاء بتنفيذ تعليمات رئاسيّة خلا منها خطاب التّكليف.
فبدل العمل على التّجميع للبرهنة على اقتداره على تشكيل حكومة في الآجال المحدّدة، انطلق السيد إلياس الفخفاخ بتصريح عبّر عن عكس ذلك وتسبّب في اضطراب سياسيّ تجسّمه التّصريحات المتتالية والمعبّرة عن رفض هذا الاقصاء. والاقصاء هنا ليس من الحكم بل من التّشاور الضّروري، ينبع من احترام البرلمان ومكوّناته وخاصّة تطبيق خطاب التّكليف الذي كان واضحا في هذه النّقطة لاعتماده على نتيجة الانتخابات التشريعيّة وتأكيده على أنّ الحكومة المرتقبة رهينة موافقة مجلس نوّاب الشّعب.
إنّ المؤسّسات هي الدّائمة ولا يمكن لمن يتحمّل المسؤوليّة أن ينحرف بها وبأهدافها بما يمسّ من الدّستور ومن النّظام السّياسي القائم فكان من واجب السيد إلياس الفخفاخ الانتباه إلى ثقل مسؤوليّته في المحافظة على مؤسّسة رئاسة الحكومة وعدم الرّجوع بنا إلى فترة ما قبل الدّستور الحاليّ فهي من أهمّ مكاسب الثّورة.
إزاحة مجلس نوّاب الشّعب :
إنّ احترام الأحزاب ومكوّنات المجتمع يفرض تعاملا طبيعيّا، وعلى حدّ السّواء، مع ابقاء حرية الاختيار كاملة لإلياس الفخفاخ لاختيار من يراه الاصلح لتكوين حزامه السّياسيّ، فكان عليه التّشاور مع الجميع ثمّ التّعبير عن خياراته لكي لا يكون اقصائيّا.
وهنا أيضا، ظهرت كلمة جديدة فيها من العنف والتّسلّط الكثير بما مسّ بجزء كبير من التّونسيّين وبجهات بأكملها وأثار حفيظة الأحزاب المدعوّة إلى التّفاوض، وهي كلمة “تسييج” الحزام السّياسي.
فالتّسييج يعني عدم ترك امكانيّة حتّى للتّخاطب والاستماع وهو ما يفرّق ويضع حواجز بين مكوّنات المجتمع، فاقصاء حزب قانونيّ وضع فيه جزء من التّونسيّون ثقتهم خطير ويمسّ حتّى من استمراريّة الدّولة، أليست الحكومة هي التي صادقت على احداث هذا الحزب طبقا للقوانين المعمول بها؟
بدأ السّيّد إلياس الفخفاخ بتسييج حزام حكومته السّياسي حتّى قبل التّشاور مع من اختارهم وهنا أيضا قلب للمواقع تمثل في جعل نفسه هو من يعطي ثقته في الأحزاب الممثّلة في مجلس نوّاب الشّعب بدل أن يكون هو السّاعي لنيل ثقتها.
قد يكون الدّافع أنّ إلياس الفخفاخ يعتبر نفسه الملاذ الأخير قبل “خطر” حل البرلمان، وانه الرّجل القويّ الذي يستمدّ شرعيّته من شرعيّة الرّئيس الجمهوريّة زخفي عنه أنّه مسؤول أمام مجلس نوّاب الشّعب فقط الذي يعد المصدر الأصلي والحقيقي لشرعيّته.
بتقدّم المشاورات نشر إلياس الفخفاخ وثيقة سمّاها ” مذكّرة تعاقديّة من أجل ائتلاف حكومي” وعنوانها “حكومة الوضوح وإعادة الثّقة”، تؤكّد مواصلة نفس المنهج وخاصّة النّيل من مؤسّسة مجلس نوّاب الشّعب، المصدر الأصليّ للسّلطة.
إنّ الاطّلاع على تلك الوثيقة ودراستها يبين توجّهه إلى عرضها على الأحزاب والجهات التي اختارها للمصادقة عليها وإمضائها، إنّه نفس التّمشّي فهو الذي يضع الشّروط الواجب احترامها لنيل ثقته ورضاه من طرف من اختارهم كحزام سياسيّ.
لقد تضمّنت الفقرات الثلاثة الأخيرة من الوثيقة طلب إلتزام الأحزاب، أوّلا بوضع آليّة قارّة لتنسيق مواقفها ودعم الحكومة واسنادها سياسيّا وبرلمانيّا وإعلاميّا، وثانيا التّعهّد بمساندة الحكومة وإصدار قانون يفوّض لرئيس الحكومة الحكم بمقتضى مراسيم تتمّ المصادقة عليها لاحقا، وثالثا التّعهّد بالتسريع بتعديل النّظام الدّاخلي لمجلس نوّاب الشّعب في مجال مساءلة الحكومة لتعزيز الدور الرقابي واضفاء مزيد النجاعة في علاقة الحكومة بالسلطة التّشريعيّة.
إنّ الآليّات المذكورة تعني أنّ “تسييج” الحزام السّياسي يقصي حزبا بعينه من مفاوضات تشكيل الحكومة من جهة، ويخلق برلمانا داخل البرلمان يضع نفسه تحت امرة السّلطة التّنفيذيّة ويمكّنها من ممارسة صلاحيّات مجلس النّوّاب مباشرة فضلا عن التّدخّل وتطويع نظامه الدّاخل بما يتلاءم مع انتظارات الجهاز التّنفيذي من جهة أخرى، وهو ما ينسف صلاحيات نوّاب الشّعب.
يستشفّ ممّا سبق بسطه وتحليله أنّ المسار الحاليّ لتشكيل الحكومة يغيّب مؤسّسة رئاسة الحكومة ويطوّع مجلس نوّاب الشّعب ويخرجه من دوره كسلطة أصليّة وفي ذلك تنكّر للنّظام السّياسي القائم في البلاد، في وقت ينشغل التونسيون بمسألة اقصاء بعض الأحزاب دون الانتباه للمخرجات الحقيقيّة لهذه المنهجيّة الخطيرة.