الشارع المغاربي: إنّ الجدٓل الذي عقب تصريحات رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة حول الشهادات التي سجّلتها لمناضلين تعرّضوا للإضطهاد والتعذيب في فترتي دولة الاستقلال وحكم بن علي وحول الوثائق المزعومة «المُوٓرّطة» التي تثبت استمرار تبعية الدولة الوطنية الناشئة الاقتصادية للدولة الفرنسية وما تم تحبيره والتصريح به سمعيا وبصريا حول ترّهات نشر وثيقة الاستقلال من عدمه، والتي اعتمدها البعض للمطالبة المشروعة بإعادة كتابة التاريخ وكأن باب كتابته أغلق وأوصد. فهي عملية متواصلة، يقوم بها أهل الذكر في نطاق الرصانة والدقة المنشودة.
وأحدثت هذه الغوغاء بلبلة لدى الرأي العام واستياء التونسيين والتونسيات المواكبين والمهتمين بمعرفة تاريخ وطنهم وما حدث بالضبط في الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في الفترة المعاصرة. وكان في إمكان من طالب بإعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية وتاريخ تونس المعاصر أن يطرح ذلك على أهل الاختصاص أي مؤرخي الفترة المعاصرة الذين تلقوا تكوينهم في الجامعة التونسية،إحدى مفاخر إنجازات الدولة الوطنية، وهم كثرة ولهم تآليف ومقاربات متنوعة في الشأن. ولكن تم إقحام من ليس له إحاطة بالموضوع ويجهل ما كتب في المسألة والإضافات والإنارات التي تم الكشف عنها. ولذا ، أقرّ وأكرّر ما ذكره الأستاذ هشام جعيط منذ أكثر من عقدين، الشعب التونسي بكامل فئاته في حاجة ملحة إلى ثورة ثقافية تجعله يقبل على القراءة والمطالعة اللتين تمنحه الحصانة الضرورية أمام كل من يشكك في زعامة الحركة الوطنية التونسية لمسيرة التحرّر وبناء دولة الاستقلال.
وفي هذا السياق، نظرنا في مطلب السيدة رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة التي تدعي أنها وصلت إلى الحقيقة. كيف؟ بإسنادها الكلمة إلى ضحايا قمع دولة الاستقلال بدون إشراف من ذوي الاختصاص ولا رقيب من الذين عاصروا الحدث. إضافة إلى كونها ليست طرفا محايدا بل منخرطا أو متعاطفا مع الحركة اليوسفية (عن طريق والدها السيد أحمد بن سدرين وخالها رضا بن عمار الورتتاني الذي كان له دور متميز في المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي ثم ضد حكومة الطاهر بن عمار والدولة الناشئة). والسيدة رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة تجهل كل متطلبات تلقي الشهادة ونسبة توظيفها من ذوي الإختصاص وهي دقيقة يمكن لها الإطلاع عليها عن طريق وحدة التاريخ الشفوي بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر ومعهد تاريخ الزمن الحاضر بباريس. أما الوثائق المزعومة حول تبعية الاقتصاد التونسي للدولة الفرنسية، الرجاء الاطلاع على كتابات الزميل محمد الأزهر الغربي المختص في التاريخ المعاصر بالنسبة للمسائل الاقتصادية والزميلة سامية المشاط ، أستاذة التاريخ المعاصر بجامعة نيس، التي تناولت بالدرس وفكت لغز السيادة المفتكة للدولة الوطنية والمتداولة لدى العموم بمصطلح «استكمال السيادة»:
El Mechat (Samya) : Les relations franco-tunisiennes. Histoire d’une souveraineté arrachée 1955 – 1964. Paris, l’Harmattan, 2005.
وتبقى مسألة التشكيك في وثيقة الاستقلال التي أحدثت ضجرا كبيرا والحال كان الأجدر على الذين طرحوها الرجوع إلى استحضار الإطار التاريخي لبداية المفاوضات مع حكومة شنيق (1950 – 1951) التي ضمت صالح بن يوسف، الأمين العام للحزب الحر الدستوري بصفة وزير العدلية ثم تواصلها مع حكومة الطاهر بن عمار (1954 – 1956) الذي أقترحه الحزب على الباي كوزير أكبر بعد اعتذار عزيز الجلولي قبول المهمة وحدث ذلك إثر العرض الملغوم الذي صرح به رئيس الحكومة الفرنسية ، الجمهوري الراديكالي الماصوني، بيار منداس فرانس أمام الباي يوم 31 جويلية 1954 والمتمثل في التفاوض فقط حول الاستقلال الداخلي والتي كانت محل دراسة مستفيضة في الجزئين الثالث والرابع من رباعيتي المُنجزة حول «الحركة الوطنية التونسية والمسألة العمالية النقابية. معا لافتكاك الاستقلال» واللذين شٓرّٓحْتُ فيهما مسيرة الحركة الوطنية طولا وعرضا، مُوظّفا قٓدٓرا مُهِمّا من المصادر الجديدة يسّرت لي أداء رسالتي كمؤرخ يرنو إلى التعديل بما يستوجب من التدقيق والفحص ومن فك لغز الاستعمار الفرنسي واستراتيجية الحركة الوطنية مضيفا في الشأن : دور الحضور الماصوني في نظام الحكم الفرنسي وتبعاته في انتصاب الحماية الفرنسية بتونس وفي مفاوضات الاستقلال؛ حقيقة التنافس / الصراع بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وطبيعته منذ اندلاعه في المجلس الملي للحزب الحر الدستوري الجديد (13 – 14 مارس 1938) إلى تاريخ اغيتال الزعيم صالح بن يوسف (12 أوت 1961) والتي كان الرهان فيها الخيار بين الملكية الدستورية وبين الجمهورية ومثّل إحدى لحظاته الحرجة والخطيرة في تاريخ تونس السياسي المعاصر.
وسوف يعلم المشككون أن وثيقة الاستقلال أمضيت إثر مفاوضات عسيرة ومريرة كانت الدولة الفرنسة متمسكة ومتشبثة ببقائها في الجزائر وتخشى أن يفتح باب التفاوض في الاستقلال التونسي والمغربي التمهيد لقبول التخلي عن « مستعمرتها الجزائرية»