الشارع المغاربي : ارْتَقت رواية دُون كيشوت الاسبانية الشهيرة إلى مصاف الأدب العالمي، لأنّ هذا المغامر البائس دون كيشوت، والذي تخيّل نفسه فارسا صِنْديدا، ومَا هُوَ بصنديدٍ، إنّما يجسّد عيّنة من الذات الإنسانية التي تَعَالتْ في أوْهامها، ولمّا تصطدم بصخْرة الواقع المرّ، تنْكفئ على نفسها وتنْطوي فتَنْعَزِل وتُعْزل، هكذا كان دون كيشوت الاسباني! وهكذا يكون دون كيشوت التونسي!
لكن، إذا كان الاسباني من وحْي خيال كاتبه، فإنّ دون كيشوت التونسي من صميم الواقع، فهو الذي اعتقد، تمامًا مثل الاسباني، أنّ عليه محاربة الجميع كي يبقى هُوَ لِوَحْدِه، وصدّق نفسه، تمامًا مثل الاسباني، بأنّه هو “المهدي المنتظر”، وكان يتخيّل دائما “العدوّ”، تمامًا مثل الاسباني، فيبادر إلى مهاجمته، هكذا كان حال تونس وما زال، وذلك، منذ أن أوْهمته البَطَانة الدائرة حوله بأنّه هو “الخلاص المزْعوم” لتونس، وأنّ عليه أن يُعلن الحرب على “الفساد”، تمامًا مثل حرْب دون كيشوت مع طواحين الهواء! ثمّ أوْهَمته هذه البطانة بأنّ عليه أن يتقمّص دور “يَهُوذَا”، دون أن تُعْلمه بحقيقة “يهوذا” ومغْزاها، ودمجت هذا الدور في مشْهد “بُرِيتُوسْ” كي تكتمل الصورة، فكان أن “غَدَر” بأبيه الروحي ووليّ نعمته و”خَانَه” بتحالفه مع خصْمه اللدود.
هذا الأب، الذي أكمل حياته في قصره مُحَاصَرًا ومُهَمّشًا، وقد نَهَشتْه “الماكينة” نهْشًا هو وابنه – الذي يتحمّل جزءا كبيرا من المسؤولية- وعائلته، ولوْلا العناية الإلهية التي لَطَفَت به، فَرَفَعَتْه إلى عِلِّيينَ، لكان مصيره مأْسَاويًا!
لنْ تَنْمَحِيَ صورة “الغدْر” و”الخيانة” من مخيّلة التونسي أبدًا، فمن “خان” و”غدر” بأبيه الروحي، بإمكانه أن “يَغْدر” بشعب كامل! بل وكيف يُمكن ائْتمانه على مصير شعب!
حارب كلّ إخوته من نفس العائلة التي ينحدر منها اعتقادا منه أنّه هو الذي سيبقى، غاضّا الطرف عن العدوّ الحقيقي الذي تَغَلْغل في الأوْصَال، فَمَا بَقِيَ هُوَ ومَا بَقَوْا هُمْ، بينما العدوّ الحقيقي جاثمٌ! إنّها مُنْتَهى العبثية الدونكيشوتية!
كان يُدْرك تماما أنّه لن يمرّ في الدوْر الأوّل مِثْله مثل مترشحة أخْرى ومترشح آخر تقلّد رئاسة الحكومة يومًا، لكنّهم أبوْا أن ينسحبوا بشرفٍ في الدور الأوّل لفائدة المرشّح العائلي الأبرز، فيُحسب لهم ذلك في التشريعية، رفضوا ولسان حالهم وحال أتباعهم يقول: لِمَ لاَ ينسحب هو؟ متناسين أنّه لو اجتمعت أصوات ثلاثتهم معًا، فلن يتمكنوا من تجاوز الدور الأوّل، بل وشنّت الماكينة حرْبا تشْوِيهية ضَرُوسًا ضدّ هذا المترشح الطارئ، لمْ أَرَ مثلها، فَأَتَتْ أُكْلَها باسْتبْعاده واستبْعادهم جميعا في ذات الوقت.
لم يكن يُدرك أنّ ميْل الأشقاء في العائلة إلى هذا المترشح، إنّما سببه أنّهم لا يمكنهم التصويت له، وحتى لو لم يكن موجودا هذا المترشح أصلا فلن يصوّتوا له، عكس ما يردّده بعض الببّغاوات من أنّ “دون كيشوت” لم يمرّ لأنّ هذا المترشح أتى في آخر لحظة و”لَهَفَ” منه أصوات العائلة!! إنّه منتهى الهروب إلى الأمام وعدم الرغبة في النقد الذاتي والانسحاب بشرف قبل تُسُونامي التشريعية، أي مُنْتهى “دون كيشوت” وخَدَمته!
في الأثناء، ستتهاوى المسكّنات سريعا، وسيكتشف التونسيون قريبا بعد تطاير “سَكْرة” الانتخابات واقعهم الحقيقي، واقع إفْلاس غير مُعلن أو مؤجّل للدولة، بينما الموازي يبقى موازيا!
وهنا بالذات، تتراءى لنا صورة قيس سعيّد، لأنّه، وعلى عكس ما يتوهّمه من انخرط عن وعْي أو دون وعْي في “الماكينة” الخفية التي لم يتفطّن إليها “دون كيشوت” ومصالحه، لأنّ جهدهم انصبّ على اسْتئْصَال أشقائه، فإنّ قيس سعيّد، الذي لا نشكّ للحظة في صدقه ونزاهته، لن يتمكّن من إيقاف هذا القَدَر المَحْتوم، وذلك، بالرغم من كلّ الآمال التي تَحْدوه والأماني التي يترجاها، فقيس سعيّد الذي لا يملك أيّة خبرة إدارية وأيّة حنكة سياسية، سيبقى حَبيسًا لنصوصه القانونية ومُرَدِّدًا لبرنامجه إلى أن يصل به الأمر إلى حدّ “المُونُولُوج”، في انتظار أن يبقى حَبِيس القصْريْن، قصر قرطاج وقصر باردو.
ما يُقلِقني صراحةً، أنّ قيس سعيّد صدّق نفسه عندما اعتقد أنّ ترشحه في الدور الأوّل يرجع إلى ما قام به من جهد فرْدي مع بعض الشباب المتطوّع!
نهاية الدولة والفوضى الهدّامة على الأبواب؟
في الأثناء، لديّ شكوك قويّة أرجو أن تُبَدّد بأنّ هناك قوى خفيّة مَا، هي التي أدارت عملية اختيار المترشح والعمل على ترشيحه في غفْلةٍ من مصالح “دون كيشوت” المهتمّة بشؤون أخرى، قُوًى رأت في قيس سعيّد مَأْمُولها، وساندته قُوَى أخرى متناقضة إلى حدّ المطلق من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين فلماذا؟
لأنّها رأت فيه “القاطرة” التي بإمكانها أن تحقق معها أمنيتها المُعْلَنة وهي: إسقاط الدولة في تونس في شكلها الحالي، فالالتقاء الموضوعي بين المتناقضات والمتضادّات حول قيس سعيد دافعه هو إسْقاط هذه الدولة، لأنّهم يُنْكِرُونَها، ويُنْكِرون وُجُودها ويعملون على هَدْم مَعَاوِلِهم فيها متى سَنَحت الفرصة، والظاهر أنّها سَنحت الآن…وقد سبق لي أن نبّهت من خطورة هذا المخطّط منذ حوالي ثمانية عشر شهرا في حوارٍ لي بجريدة يومية، لكن بقي دون مجيب! تمامًا مثلما توقعت نهاية “مَهْدِي بَازَرْكَان تونس” منذ جوان..2018 وهو آنذاك في أوْجه.
لقد رأت هذه المتناقضات في المشروع النظري لقيس سعيّد، الذي هو نفسه يشعر في أعماقه أنّه مجرّد فكرة غير قابلة للإنجاز في ظل واقع معقد جدّا، مشروعه الذي يقوم على إحْياء نوع من “اللجان الشعبية” القذافية ومن مجالس “السوفيات” في شكل “لجان ثوروية تونسية” في كلّ مكان بدءًا خاصّة من المحلّي، رأت فيه بداية الطريق لإنهاء الدولة، دولة الاستقلال وكلّ ما قامت به، ولهذا التفُوا حوله مُضَخّمين في صورة قيس سعيّد الأكاديمي الصادق والمخلص وخاصّة “النظيف” حتى يجلبوا حوله كلّ من خاب أمله في منظومة حكم ما بعد 2011، وذلك، لأنّه يشكّل الخَاصِرة التي ينوُون الانطلاق منها لإنْهاء سيطرة الدولة المرْكزية في شَكْلها الحالي، وإحْلال لجَان محلّها تمهّد لتحقيق المُبْتَغَى الأسْمَى وهو تمْرير المشروع الايديولوجي لهذا الطرف أو ذاك.
وحتى لو لم يكن قيس سعيّد راضيا عن كلّ ذلك، وهو رجل القانون الذي من واجبه احترام القوانين المعمول بها، فإنّه سيقع تجاوزه لاحقا في الصورة التي أوردناها آنفا.
لكن، ما لا يُدركه قيس سعيد ولا هؤلاء المتمسكّين بأهْدَابه، أنّ إنهاء الدولة وفي هذه الفترة بالذات، وبقطع النظر عن طُوبَاوِية هذا الحلم واستحالة تطبيقه، إنّما سيفتح الباب مجدّدا إلى “المَارِد النُومِيدي” الذي خِلْنَاه قد نام إلى الأبد، ولن يرجع.
وذلك، لأنّ هذا المشروع الذي ينادي به قيس سعيّد قد يرى النور ربّما في مجتمع عريق في التحضر ومتشبّع بالديموقراطية وبعيد كلّ البُعد عن أيّة شبهة تفرقة على أساس ديني أو عرْقي أو جهوي أو قبائلي، مجتمع الفيلسوف أفلاطون في “المدينة الفاضلة” التي لم تر النور إلى الآن، بينما في تونس، فهذا المشروع، إن قُيّض له محاولة التطبيق بأيّة طريقة كانت، وفي الظروف القاتمة التي تعيشها تونس حاليا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فإنّه سيؤدّي بنا حتما إلى ما أسميته بـ: “النَوْمَدَة Numidisation”، تجنّبًا منّي لاستعمال ألفاظ على غرار الصَوْملة أو غيرها، لأنّنا نحن في جِينَاتِنا الجماعية وفي وعْينا الجماعي ولاوعْينا الجمْعي لدينا هذا “المارد النوميدي”، وهو قَابِع في مكان ما لدينا، ولا ينتظر إلاّ إشارة البدء حتى يخرج من قُمْقُمِه السحيق، فيحقق أوْهام هؤلاء التي سرعان ما ستنقلب إلى كَابُوسٍ رَهِيب: إنّها الفوْضى الهدّامة، التي تترصّدنا في مفترق الطريق، وإنّها نهاية دولة وتشتت شعب وتصارع مجموعات إلى الموت وظهور “كَانْتُونَاتٍ” مُنْفصلة يتمّ فيها التطهير على أساس الهويّة المناطقية.
هذا ما ينتظرنا في نهاية نَفَقِ سَكْرَة الأوْهَام التي عَششت لدى البعض والسذاجة البريئة لدى البعض الآخر، إن تواصل الحال على ما هو عليه.
ولكن، من الخرااااب يبدأ الأمل…..