الشارع المغاربي – تونس والبحث عن العدالة/ بقلم: نهلة عنان

تونس والبحث عن العدالة/ بقلم: نهلة عنان

قسم الأخبار

6 يناير، 2021

الشارع المغاربي: موقوفون على ذمة التحقيق طال احتجازهم، وجرايات لأرامل وأيتام لم تصرف بسبب عدم توفير حجة وفاة العائل، وحقوق كثيرة بقيت معلّقة… كلّ ذلك خلال فترة انتظار عودة مرفق القضاء إلى سائر نشاطه.  ونرجو أن يكون قد عاد بالكامل بكلّ فروعه ومع ذلك نحتاج إلى وقفة متفحّصة حول ما جرى…
العدالة واحدة من الأسس التي يقف عليها المجتمع ولا يجب أن تتعطّل. تماما كالتعليم حيث يعمل الأستاذ على تمكين التلميذ من أدوات التعلّم، وكالصحّة عندما يبذل الطبيب قصارى جهده في مداواة مريض يتألّم، وكالجندي حامل السلاح في تضحياته بالوقوف ساعات في العراء في القرّ والحرّ يدفع خطرا عن البلاد والعباد، وكما كلّ صاحب مهمّة يؤجر عليها، لا يمكن تقدير قيمة أيّة واحدة منها بالمال، غير أنّ الأجر حقّ نسبيّ (وقد احتجّ موظّفو بعض تلك القطاعات على ضعف الأجر بالإضراب عن العمل، ونعيب على كلّ مسرف إسرافه في شكل الاحتجاج).
كلّ أولئك بشر يحتاجون المسكن والمأكل والملبس والرعاية الصحّيّة والراحة النفسية، وليس من بينهم استثناء بحيث له حاجات أكبر من حاجات الآخرين. بالتأكيد أنّ الأجر يكون بحسب الجهد والاجتهاد والتعب والسهر سواء في مراحل الدراسة حيث يتمّ تحصيل المعارف والعلوم والخبرات التي ستمكّن من شغل المناصب والمسؤوليات أو عند الالتحاق بالعمل. وعلى ذلك فإنّ على المشرّع التونسي أن يعيد مراجعة سلّم التأجير. ولن نجد القاضي في أعلى القائمة بل سنجد آخرين يتقدّمونه، سواء بالنسبة لصعوبة المادّة العلمية التي خوّلته من الشهادة (كقاضي)، أو من حيث مشقّة المهمّة المنيطة بعهدته في تحرّي الأحكام حول الملفات التي يدرسها.
لسنا نقلّل من مهمّة القاضي (بل لولا تقديرنا لأهميتها البالغة ما أفردنا لها هذا المقال) ولكن وفي المقابل: كلّ عمل يقوم به صاحبه على أكمل وجه هو مهمّ وجدير بجراية مناسبة. ولكن أن يتمّ تعطيل ذلك المرفق باعتبار الجراية في قيمتها الحالية لا تضمن للقاضي “الأمان المالي” بما أنّ القضاء التونسي “لا يستجيب للمعايير الدولية” حسب تصريحات عدد من العاملين بالقطاع، فهنا السؤال الأكبر: “و هل يرى القضاة أنّ باقي القطاعات في تونس يتمتّع أعوانها بجرايات وفق المعايير الدولية؟! وماذا عن جراية الطبيب والمهندس والمرابط في الصحراء أو على الحدود من المعايير الدولية؟؟؟ !!!
تونس كلّها متعبة … خائرة القوى… فلنصبر ونتعاون من أجل إخراجها من الوضع الحرج الذي تردّت فيه، ثمّ بعد ذلك فلنطالب بما يمكن أن يتوفّر للجميع كلّ حسب جدارته وكفاءته ومسؤولياته.
نذكّر بأنّ السبب المعلن لتوقّف مرفق القضاء منذ منتصف شهر نوفمبر 2020 كان وفاة قاضية شابة لعدم تلقّيها العلاج المستعجل في حينه (و تفاصيل الحادثة تناولها الرأي العام التونسي بإطناب). وحيث أنّ ما يطالب به أعوان وموظّفي ذلك المرفق الحيوي هو رعاية صحيّة خاصّة بهم، فقد تناولت ذلك الموضوع وسائل إعلام كثيرة. في ذلك الإطار يضيف القاضي صاحب التصريح السابق عندما استنكرت المحاورة ردّه على أنّ القضاة ليسوا حالة خاصّة في حقّهم للرعاية الصحّية بل هم كالأستاذ والطبيب والنجار والفلاح وكأيّ مواطن تونسي وإن كان عاطلا عن العمل … يضيف قائلا : “لا موش كيف كيف … إي نعم القاضي على راسو ريشة. القضاء هو السلطة الثالثة”…
فهل تحوّل باسم تلك السلطة القضائية إلى جنس بشري أرفع من سائر المواطنين يحتاج صحّيّا ما لا يحتاج غيره من المواطنين في سائر القطاعات ؟؟؟!!!

لو عدنا إلى أصل معنى الحقّ والعدل الذين هما أمانة القاضي وإلى مسألة الطبقات الاجتماعية، نجد في التنزيل الحكيم الموعظة البيّنة. يقول الله تعالى في سورة الشورى بما أجاب قوم نوح عليه السلام حين دعاهم رسولهم للإيمان بالله:   (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴿١١١﴾)
و يقول جلّ ذكره في سورة عبس معاتبا الرسول محمّد عليه السلام بسبب الانصراف عن الأعمى الفقير نحو وجهاء القوم يرجو هدايتهم للإيمان بالله:  (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴿١﴾ أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴿٢﴾ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴿٣﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿٤﴾ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ﴿٥﴾ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿٦﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ ﴿٨﴾ وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿٩﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿١٠﴾ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴿١١﴾)

طبعا نحن لا نقول بأنّ مهمّة القاضي مطابقة لمهمّة الرسل. ولكننا نقول بأنّ الحقّ والعدل لا يفترقان وأنّهما يعنيان بالأساس عامّة القوم ومستضعفيهم أكثر من خاصّتهم ووجهائهم الذين لديهم أكثر من مسلك للدفاع عن أنفسهم… فإذا كان القاضي وهو المؤتمن على العدالة وعلى تمكين الناس من حقوقهم مترفّعا عن أن يكون وضعه من  وضع المتقاضين، ويطلب لنفسه ما تعجز الدولة عن توفيره إلّا بمزيد إفقار غيره، فالوداع للحقوق وللعدالة…
سيقول بعضهم إنّ صاحبة هذا المقال تهذي، بما أنّها تستنكر على القاضي أن يطالب بتحسين أوضاعه المادّيّة بل وتطلب من القضاة أن لا يحرّكوا ساكنا أمام الوضع الصحّي بالبلاد الذي أدّى إلى وفاة زميلة لهم (المرحومة الشابة يتغمدها الله برحمته)، وأجيب: لا نستنكر على أحد أن يطالب بحقّ، ولكنّنا تستنكر ما أقدم عليه أعوان سلك القضاء من إسراف غير مسبوق يفهم منه أنّ أيّ مواطن بإمكانه أن يفعل ما يريد من أجل الوصول إلى مبتغاه، سواء كان ذلك المبتغى واقعيّا أو تعجيزيّا، يخرق المركب الذي يحملنا جميعا…   

يتفق كثيرون على أنّ الجرايات في بلادنا ضعيفة مقارنة بكلفة العيش المدنية حيث المسكن اللائق والسيارة والمأكل والتداوي والتعليم كلّها أساسيات.  ولكنّنا نرى في الآن ذاته بأنّ الأمر أقلّ شدّة وضيقا على بعض القطاعات من قطاعات أخرى، ولا نرى القاضي كموظّف سامي في الدولة في المستويات المتواضعة الحرجة. بل أنّ غيره ممن درس أكثر منه بسنوات وممن توكل إليه مهامّ ليست بأقلّ مشقّة  ذهنية ونفسية من القضاء، يتقاضى أجرا  أضعف منه ولا يتمتع بما للقاضي من امتيازات، وذلك حتّى قبل الاتفاق الأخير (المحرّر في ديسمبر 2020) والذي ألحق امتيازات جديدة لسلك القضاء… فكيف سيكون سلوك موظّفي الدولة غير الراضين بأجورهم على ضوء ما أقدم عليه القضاة علما بالأزمة الاقتصادية الحادّة للبلاد والعجز المالي للدولة، وهو أمر يعرفه القضاة أكثر من غيرهم …؟؟؟
ربّما سيقولون بأنّ هذا الوضع هو من إنتاج السياسيين غير الأكفّاء لما بعد الثورة وهم من يتحمّل مسؤولية ذلك.   ولكنّ واقعنا هو أنّ الجميع في نفس المركب: تونس اليوم… يسياسيّيها ومواطنيها سواء بسواء الفاعل والمفعول به… وليس ما يجري على يد بعض مكوّنات المجتمع ما بين موظّفين غير راضين وعاطلين مطالبين بالوظيفة إلّا مزيد من الثقب في ذلك المركب للتعجيل بغرقه.

بكلّ صدق يصدمنا أن يتحدّث القضاة بمنطق الرفعة عن المواطنين العاديين… فعن أيّة عدالة نتحدّث وأيّ حرص سيكون للقاضي على حقوق المتقاضين إذا كان يرى نفسه أحقّ منهم بالرعاية الصحّيّة وبالحياة الكريمة…

لقد تدهور واقع العدالة في تونس منذ سنوات وخاصّة وبالذات في فترة ما بعد الثورة. وإن كان للقضاء زلات فيما سبقها فله اليوم إخلالات جسيمة.
سآخذ مثالا واحدا يؤكّد ملاحظتي التي يراها معظم الناس وهو ما صار أمرا شبه معتاد منذ سنوات في عشرات الاعتداءات بالعنف الجسدي على الأطبّاء وأعوان الصحّة. حين يعمد بعض أفراد عائلة مريض إلى تعنيف الطاقم الطبّي وكسر وتهشيم الأبواب والمعدّات الطبية في المستشفيات العمومية بسبب عدم رضاهم عن الخدمة الصحية أو وفاة ذلك المريض… ثمّ نجد بعد ذلك أحكاما قضائيّة أشبه بالاستهزاء بالمتضررين لشدة ضعفه… وهنا لا نملك إلّا أن نتساءل : أبمثل هذا التمشّي نرجو تقليص عدد الاعتداءات وردع من تسوّل له نفسه أن يأتي مثل هذه الأعمال البربرية الإجرامية ؟! على كلّ حال واقعنا يأتينا بالإجابة. فقط فلننتبه إلى ما حدث مؤخّرا ليل الجمعة  25 ديسمبر 2020 في المعهد الوطني للأعصاب المنجي بن حميدة…
فأيّ المبررات يمكن أن يقدّم في مقابل تردّي الوضع في هذا الباب ؟ هل هو نقص عدد القضاة ما يجعل القاضي يحكم بعُشُر العقوبة (أو واحد بالألف منها كما مع صاحب المتجر المخالف للقانون حيث حكم عليه ب9دنانير غرامة مالية في مقابل الضرر الجسدي الذي ألحقه بعون المراقبة حين أنزل باب متجره الحديدي على رأس العون…)…
لسنا نتّهم بقدر ما نسأل ونتساءل ونريد أن نفهم ما يحدث. فلنتّق الله في أنفسنا وفي هذه البلاد التي تئنّ وتستصرخ أصحاب الضمائر والقلوب “العاقلة”… والله ربّنا هو القاضي الأعلى وهو أعدل القاضين. نوكّله أمرنا في أن يحكم بين الناس وينصر المصلحين منهم على المفسدين في كلّ الميادين.

  


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING