الشارع المغاربي: إذا ضُربت حريّة التعبير وأمست ممارستها مشوبة منهجيّا بمخاطر الملاحقة الأمنيّة والقضائيّة، فإنّ ذلك من شأنه أن يؤدّي إلى ترهيب الصحفيّين وتكميم أفواههم وتدجين المؤسّسات الصحفيّة والقضاء نهائيّا على أيّ فرص ممكنة للانتقال الديمقراطي. مردّ هذا التوصيف يكمن فيما أمست تشهده تونس من متابعات أمنيّة وقضائيّة للعديد من الصحفيّين والصحفيّات، مقابل محاولات من هنا وهناك لاستدراجهم إلى معارك سياسيّة لا تعنيهم. وقد بلغ هذا الحيف درجة الحكم بخمس سنوات سجنا ضدّ صحفيّ رفض الكشف عن مصدره الإخباري، تمسّكًا بأخلاقيّات المهنة الصحفيّة وإعمالا لمقتضيات المرسوم القانوني الذي ينظّمها.
وممّا زاد الطين بلّة ما جاء في “المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المتعلّق بمكافحة الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتّصال”، وخاصّة في الفصل الرابع والعشرين منه، من أحكام زجريّة سالبة للحريّة لا تحدُّ من المنسوب الهائل للأخبار الزائفة والشتم والثلب وترويج خطاب الكراهية والتشويه السائد على المحامل الرقميّة، بقدر ما تُدخل الرعب في النفوس وتُنذر بالزجّ بعموم المواطنين، وبالصحفيّين في مقدّمتهم، في متاهات المساءلة والتحقيق وحتّى السجن…
وليس اعتباطيّا طبعًا أن يتراجع ترتيب تونس في حريّة الصحافة، وفق تصنيف منظمة “مراسلين بلا حدود”، قرابة 50 نقطة في ظرف عامين فقط، أي من المركز 73 عالميّا والأوّل عربيّا عام 2021 إلى المركز 121 عالميّا والخامس عربيّا في ماي 2023، وتحديدا بعد قطر التي لا وجود لحريّة صحافة فيها.
ومع أنّ رئيس الجمهوريّة الماسك بكافّة السلطات ما انفكّ يؤكّد، في تصريحات متعدّدة، على ضمان الدولة لحريّة التعبير وحريّة الإعلام، فإنّه لا يرى هذه الحريّة عمليّا إلّا من منظور أحادي الاتّجاه. فهو لم يكتف بإصدار المرسوم عدد 54 بكلّ علّاته المعلومة مقابل التعطيل الضمني للتعاطي مع وسائل الإعلام ومنظوريها بمقتضى المرسومين 115 و116 لسنة 2011، وإنّما صرف النظر أيضا عن الضوابط المهنيّة المتعارف عليها في أيّة بيئة إعلاميّة تعدّديّة سليمة. ومثالا على ذلك، فإنّه لا يقبل أن يكون الإعلام العمومي مرفقا عموميّا حقيقيّا للإعلام، أي أن ينتصر للتعدّديّة الإعلاميّة بدلا من أن يكون مجرّد أداة للدعاية السياسيّة، وإلّا فكيف يمكن فهم حديث رئيس الدولة، خلال آخر اجتماع لمجلس الأمن القومي منذ أيّام، عن ضرورة تعديل مؤسّسة التلفزة التونسيّة بوصلتها، قائلا حرفيّا إنّ “التلفزة الوطنيّة بقناتيها يجب أن تكون وطنيّة ولا يُقال التدخّل في خطّها التحريري، عليها أن تنخرط في هذا الخطّ التحريريّ للوطن”!. ومن ثمّة فإنّ رأس السلطة بات المحدّد الأوحد لخطّ التحرير، بدلا من مجالس التحرير المكوّنة من أهل المهنة، ولا سيّما في غياب سياسة عموميّة للإعلام. وهو ما يؤدّي إلى احتكار مفهوم الوطنيّة انطلاقا من الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المنزّلة الكاملة التي يُمنع منعًا باتّا التشكيك فيها أو مجرّد نقدها ولو بلطف!.
في المقابل، لنمضي في الحديث بما يُوجبه هذا الخطبُ من صراحة: من المفترض أن يكون لكلّ مؤسّسة إعلاميّة خطّ تحرير واضح يقوم على العقلانيّة والموضوعيّة، بصرف النظر عن محملها سواء كان ورقيّا أو سمعيّا بصريّا أو إلكترونيّا، ولكن في كلّ الأحوال لا يعني ذلك أن تكون للمؤسّسة الإعلاميّة أو للصحفيّين أو حتّى لهياكلهم المهنيّة أجندة سياسيّة تُحدّد خطوط ممارستهم للعمل الصحفي. صحيح أنّ الشأن السياسي هو الخبز اليومي الأساسي الذي تطبخه وسائل الإعلام، فمن مهامها الرئيسيّة تأمين الحقّ الأساسي في الإعلام وتحليل السياسات وتفسيرها والدفاع عن الحقوق والحريّات ونقد أداء الفاعلين السياسيّين سواء من السلطة أو المعارضة، غير أنّ الحقّ في تبنّي مواقف سياسيّة شخصيّة لا يعني الانخراط في الأجندات السياسيّة وأتّونها الحارق عبر مناصرة هذا الشقّ أو معاداة ذاك. فالاصطفاف السياسي للصحفيّين، تحت شمّاعة الوطنيّة المعصومة أو الدفاع عن الحقوق والحريّات، يعني بكلّ بساطة الانحراف عن المسار المهني والانخراط الملتبس في مسار لا يعني الصحفيّين، بل ربّما يتسبّب في انتفاء صفتهم تلك ويُحوّلهم إلى مجرّد أتباع مترهّلين.
والمقصود هنا أنّ الدفاع عن الحقوق والحريّات لا ينبغي أن يكون مجرّد شعار يُرفع في اتّجاه واحد، على غرار من نراهم اليوم يتوعّدون الصحفيّين بمحاسبتهم غدًا لأنّهم لم يصطفّوا اليوم وراء طيف سياسي معيّن. هذه الصراحة تعني إذن عدم السكوت كذلك عن الانتهازيّة التي يُمارسها بعض المستكتبين التونسيّين في صحف أجنبيّة بعينها. وحتّى نكون أكثر وضوحًا، يبدو من قبيل المزايدات البذيئة أن يتحدّث عدد من وسائل الإعلام الخليجيّة مثلا عمّا تشهده الصحافة التونسيّة من مخاطر وتهديدات، والحال أنّه لا يُسمح في متنها بكتابة أو بثّ حرف واحد يُشتمّ منه انتقاد حاكم هذه الإمارة أو تلك. لكافّة هؤلاء المبشّرين بمحاسبة من يخالفهم الرأي لا نمتلك إلّا أنّ نردّد ذلك المثل التونسي القائل “تضربولهم على الطيّارة”، امتناعًا عن توصيفهم بكلمات تونسيّة أكثر تعبيرًا كفيلة بوضعهم في أحجامهم الحقيقيّة…
ومع ذلك، فإنّ حريّة التعبير والصحافة، التي ما فتئت تتقاذفها من هنا وهناك أمواج التوظيف المتلاطمة، لا يمكن أن تعود إلى مربّع الصمت الإجباري وكتم الأنفاس بعد أن انعتقت الحناجر في 2011، رغم كلّ ما تُكابده من تهديدات في هذا العصر المشوب بهيمنة التفاهة والمزايدات والانتهازيّة…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 3 اكتوبر 2023