الشارع المغاربي: مر شهر جانفي2021 الذي تولت فيه تونس رئاسة مجلس الأمن مرور الكرام ولم ينتبه له التونسيون (ولا غيرهم) وسط جدل كبير وسقف توقعات أكبر باعتبار أن تونس لم تحمل بوجودها في مجلس الأمن آمال شعبها فحسب بل كانت حاملة لآمال وقضايا دول الجوار (الجوار الليبي وأهمية الدفع في مسار الحل السياسي عبر القنوات المعروفة) والجوار الإفريقي (نزاعات الساحل والاضطرابات المرتبطة بالعمليات الانتخابية والقرار 2041/43) والانتماء العربي (المصالحة الخليجية وما أثاره من توترات الوثيقة 1284 مثلا) والفضاء المتوسطي (نزاع شرق المتوسط وما نجم عنه).
فهل نجحت تونس في تحقيق الانتظارات ؟
بداية لا بد من الرجوع إلى لحظة تسلم تونس مقعدها في مجلس الأمن الذي كان بتاريخ جانفي 2020 والذي تعلقت إثره آمال المتابعين من التونسيين ومن أشقاء تونس و أصدقائها المستبشرين بتسلمها مقعدا داخل مجلس الأمن خاصة أن التصريحات التونسية الصادرة عن وزارة الخارجية كانت تبشر بأن تونس “ستسهر على الدفاع عن المواقف المتخذة بشأن مختلف الملفات المتصلة بالفضائين العربي والإفريقي وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والأوضاع في ليبيا”.
غير أن الأداء التونسي بدا مرتبكا وضعيفا وانطلق بما اصطلحت على تسميته الأوساط في نيويورك “أزمة إقالة مندوب تونس لدى الأمم المتحدة” حيث تم عقد جولة مشاورات مغلقة جمعت أعضاء مجلس الأمن و تم فيها التطرق لمشروع الخطة الأمريكية لما عُرف بصفقة القرن غير أن ممثل تونس (رفقة ممثل اندونيسيا) المنحاز إلى القضية الفلسطينية قد دفع ثمن ذلك بإقالته من منصبه ساعات قليلة بعد اللقاء المذكور وبررت وزارة الخارجية التونسية ورئاسة الجمهورية الأمر بأنه “أراد الإساءة إلى البلاد ورئيسها “عبر توزيع مشروع قرار مناهض للخطة الأمريكية من دون أية مشاورات مسبقة مما نجم عنه استقالة البعتي (وهو دبلوماسي مخضرم مشهود له بالكفاءة) وقوله “قرّرت الاستقالة من السلك الدبلوماسي التونسي، إنها مسألة شرف ومبدأ”، مشيرا إلى أنّه لم يعلم بقرار وزارة الخارجية بإعفائه من مهامه وباستدعائه إلى تونس إلا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
طبعا بداية غير موفقة مثل هذه البداية لا يمكن إلا أن ينجر عنها مزيد من الخسائر والتململ داخل وزارة الخارجية كما عبر عن ذلك مسؤولون سابقون خرجوا للإعلام رغم واجب التحفظ الذي يُعرف عن أبناء الوزارة. فقد أفاد وزير الخارجية الأسبق أحمد ونيس أن قيس سعيد ”زعزع أسرة وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج” بعد توليه مهامه وذلك عن طريق “عزل جملة من الدبلوماسيين المهمين” والذين اعتبرهم مرجعيات بالنسبة للأسرة الدبلوماسية التونسية.
كما يلاحظ المتابع التحركات الاحتجاجية التي يخوضها أبناء وزارة الشؤون الخارجية للمطالبة بجملة من الحقوق وظروف العمل الضرورية التي يتمتع بها زملاؤهم ونظراؤهم في العالم والتي تلقى مساندة من أطراف متعددة.
في ظل كل هذه المشاكل المتعلقة بأداء مؤسسة رئاسة الجمهورية التي تُناط بها مهام محددة ضبطها الدستور فحدد اختصاصات رئيس الجمهورية بتمثيل الدولة ورسم السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة وفقا للفصل 77 منه ورغم مرور أكثر من نصف عهدة تونس في مجلس الأمن ومرور شهر جانفي الذي ترأست فيه المجلس فإن الحصيلة تبدو ضعيفة ولا تتجاوز القرار 2532 الذي وصفته وزارة الخارجية التونسية بأنه قرار “تاريخي” وأكد وزير الخارجية أن “تبني هذا المشروع سيوفر لكل دول العالم الدعم في مكافحة الأزمات غير التقليدية” مضيفة أن “تبني مجلس الأمن الدولي مبادرة تونسية توجه بها رئيس الجمهورية إلى المجموعة الدولية ومجلس الأمن لتفعيل دوره المطلوب لمجابهة جائحة غير مسبوقة، يعتبر إنجازا كبيرا في تاريخ الدبلوماسية التونسية وصلب مجلس الأمن” وهو كلام أقل ما يقال فيه أنه مغالطة للتونسيين وللعالم اذ انه بمقارنة بسيطة يمكن أن نستنتج:
• القرار جاء متأخرا وبعد انتظار طويل (حوالي نصف سنة).
• جاء القرار بعد فترة أولى فهم فيها العالم أن نجاة كل دولة مرتبطة بإجراءاتها الذاتية ولاحظنا فيها ظواهر غريبة عن القرن 21 والعالم المعولم والتضامن الدولي وما إلى ذلك من المصطلحات التي تضمّنها القرار (إغلاق تام للحدود، علاقة إيطاليا بالإتحاد الأوروبي، أنانية في الحديث عن توزيع عادل للقاح..).
• مقارنة بجوائح أخرى أقل انتشارا وتهديدا (الإيبولا مثلا الذي أفرد له مجلس الأمن آليات أكثر نجاعة وفي أقل وقت ممكن ودون أسانيد قانونية متوفرة سلفا) لم يكن للقرار أية أهمية تذكر.
• ما تم تسريبه أن فرنسا هي الطرف الذي صاغ القرار وأن تونس لم تكن إلا غطاء تم عبره تمرير القرار.
• الممانعة الروسية (التي كشفتها وسائل إعلامية) في المضي والموافقة على الإجراءات الاستثنائية والتمسك الحرفي بنصوص تنظيمية ترتيبية في علاقة باجتماعات مجلس الأمن وفشل تونس (وداعميها) في إقناع روسيا بالتنازل.
• القرار “أوقف” نظريا النزاعات ولكنه عمليا لم يوقف النزاعات الحقيقية لأنه استثناها من قراره (ليبيا وموريتانيا، والتشاد ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتنظيم داعش الدولي في العراق والشام وجبهة النصرة والقاعدة في اليمن وحركة طالبان كشمير).
• جاءت صيغة القرار على معنى “المناشدة” و”الاستجداء” من خلال مصطلح “مجلس الأمن يهيب بجميع الأطراف..”
لا يمكن في النهاية الهروب من خلاصة أضحى متفقا عليها تقريبا وهو أن إدارة الدبلوماسية التونسية خلال ولاية الرئيس قيس سعيد (المسؤول الأول عن صياغة الدبلوماسية والعلاقات الخارجية) شهدت هزات وتذبذبا غير مسبوق وهو ما يعود في جزء كبير منه إلى عدم التركيز على مميزات تونس والبناء على ما تم إنجازه طيلة تاريخ الدولة الوطنية بعد الاستقلال فضلا عن عدم استثمار صورة تونس الديمقراطية الوحيدة في المنطقة ففشلت تونس فشلا ذريعا في أمور عدة منها :
• المساهمة في الحل بليبيا : تم إغلاق السفارة التونسية منذ 2014 ولم يُعد افتتاحها إلا مع بداية 2021 دون برنامج وطني ومراهنة حقيقية ومُبرهنة من الدبلوماسية التونسية ومؤسسة الرئاسة وتنسيق مع بقية مؤسسات الدولة.
• تشخيص الحالة في ليبيا والمراهنة على الحل المدني: تذكّر رئاسة الجمهورية في أكثر من مناسبة بدورها في الحوار الليبي عبر “حوار القبائل” وهي محطة جانبت فيها الدبلوماسية التونسية ثوابتها في التعاطي مع الدول والتمثيليات الرسمية المعترف بها فضلا عن سوء تقدير مصلحة البلد في استقبال جسم قبائلي غير مؤثر ويشهد انقسامات متعددة.
• المساهمة في لعب دور محوري في حل الأزمة في ليبيا : حيث تم الاكتفاء بمتابعة مخرجات لقاء برلين (الذي لم تكن تونس حاضرة في افتتاحه) ولولا القرب الجغرافي وإرث الحياد الإيجابي وضغط المؤسسات الأممية لما كان لمؤتمر الحوار السياسي نوفمبر 2021 أن يقع في تونس.
• الغياب المتواصل وغير المبرر وفق متابعين عن الساحة الإفريقية عمق تونس الإستراتيجي وعن المحافل الدولية:غابت رئاسة الجمهورية في أكثر من 9 مناسبات عن قمم إفريقية ودولية كان لحضور رئاستها رمزية كبيرة فيها.
• مواصلة جهود الرؤساء السابقين في استرجاع الأموال المنهوبة حيث اكتفت مؤسسة رئاسة الجمهورية بجملة اجتماعات في الوقت الضائع دون إجراءات واضحة.
قد تكون الصورة قاتمة في ظل كل هذا الفشل وقد لا يكون المخرج مرتبطا بأداء رئاسة الجمهورية فحسب وانما بالوضع العام في تونس وفي العالم وقد يكون للدبلوماسية الشعبية المدنية أو البرلمانية قدرة على الفعل وتحريك السواكن وزيادة في تنافس “الرئاسات” لكن الأكيد أن تونس وصورتها تضررتا خلال هذه العهدة سواء كان ذلك بالحديث عن مؤامرات ورسائل مسمومة يشهدها قصر قرطاج و”الغرف المظلمة” أو عن دبلوماسيين “عديمي الكفاءة” مثلما تصفهم مؤسسة الرئاسة يتم إقالتهم دون توضيح أو انسحابات متتالية في فريق الرئاسة أو سياسة اتصالية غير موجودة وإن وجدت فهي حمالة أوجه.
فهل يمكن حفظ ماء الوجه في ما تبقى من العهدة الرئاسية؟
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بعددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 16 فيفري 2021