الشارع المغاربي : صدرت عن رئيس الحكومة المغربية السابق عبد الإله بن كيران تصريحات مؤسفة بشأن تونس، انتقد فيها ما وصفه بـ”الأزبال المنتشرة في كلّ مكان” في تونس. ولا يكمن الإشكال هنا في المضمون الحرفي لكلام المسؤول السيّاسي المغربي البارز، وإنّما في السموم “الخبيثة” التي تعمّد بثّها، بشكل يُسيء لتونس ويُلوّث سمعتها. تشخيص…
جاء حديث رئيس الحكومة المغربية السابق عن تونس خلال لقاء جمعه بأعضاء حزب العدالة والتنمية المغربي المقيمين بالخارج، باعتباره الأمين العام السابق لهذا الحزب الذي يُمثّل جماعة الإخوان المسلمين في المغرب. وقد قال حرفيّا: “عندما أذهب إلى تونس وأجد إضرابات عامّة، والأزبال منتشرة في كلّ مكان يحزّ الأمر في نفسي”، واصفا تونس بـ”غير المنضبطة”. ورغم ما أثارته تصريحاته تلك من جدل فإنّ بن كيران لم يعتذر عن كمّ التجنّي والإساءة اللذين ارتكبهما في حقّ البلاد التونسيّة، بل اكتفى بالقول إنّه عبّر عن موقفه “من باب الغيرة على هذا البلد، وحبي له ومن الانتماء كذلك”. وهو ما يُعدّ مجرّد ذرّ للرماد على العيون يمكن كشفه بمنتهى اليسر…
أجندة سياسيّة
عُرف ابن كيران منذ كان رئيسا للحكومة المغربيّة بشطحاته المنفلتة، لكنّه غالبا ما يقصر ذلك على الأوضاع الداخليّة في بلاده وخاصّة مهاجمة الخصوم السياسيّين للحزب الإسلامي وسياسته الحكوميّه. ومع ذلك يبدو من الغباء تصديق تلقائيّة تلك الشطحات. وما تلفّظ به إزاء تونس قد يكون غير مقصود في حال صدر عن شخص عادي، ولكن أن يصدر عن رئيس حكومة سابق وأبرز قيادي حزبي لإخوان المغرب، فإنّه لا يُعدّ بأيّ حال من الأحوال مجرّد “زلّة لسان”، مثلما يُروّج البعض من باب المغالطة المقصودة أو السذاجة السياسيّة المتضخّمة.
الواضح أنّ بن كيران قد قام بمقارنة غير بريئة إطلاقا بين المغرب وتونس. وبالنتيجة فإنّه ارتكب إساءة مقصودة لصورة الوجهة التونسيّة، وذلك بالنظر إلى الأهميّة السياحيّة بالنسبة إلى البلدين والتنافس القائم بينهما في هذا القطاع الاقتصادي المهمّ. وهو ما يعني أنّ رئيس الحكومة المغربي السابق قد أسهم في حملة معلنة ضدّ مصالح تونس الحيويّة.
كما يبدو بجلاء أيضا مدى التجنّي المعلن والعار من الصحّة الذي عمد إليه عبد الإله بن كيران. فـ”الأزبال” أو الأوساخ التي تحدّث عن انتشارها “في كلّ مكان في تونس” إنّما تعود إلى سنوات خلت. وقد تزامنت مع سلسلة من الإضرابات شنّتها نقابات البلديّات. ثمّ عادت الأمور إلى ما كانت عليه سابقا بعد أن نال عمّال البلديّات زيادات مستحقّة في أجورهم وسُوّيت الوضعيّات المهنيّة للكثير منهم، في انتظار ضرورة تحسين ظروف عملهم نظرا إلى الدور المهمّ الذي يشغلونه. والنتيجة أنّ شوارع تونس العاصمة لم تعد تتراكم فيها الأوساخ والفضلات، على خلاف ادّعاءات بن كيران، على الرغم من أنّ البلاد لا تزال بحاجة إلى عمل كبير في مجال النظافة والعناية بالبيئة وغيرها…
ندرك طبعا أنّ الواقعيّة السياسيّة تُنتج كمًّا هائلا من الانتهازيّة و”الضرب تحت الحزام” بين مسؤولي البلدان ذات الاقتصاديات المتشابهة والمتنافسة، ولكن كان يُفترض الارتقاء وعدم السقوط على الأقل في الإساءة المعلنة والمباشرة. وليس سرّا أنّ نشير في هذا الصدد إلى أنّ السلطات المغربيّة كانت قد أضرّت بمصالح حيويّة لتونس، خلال فترة موجة الاعتصامات والإضرابات التي نخرت مواقع إنتاج مادة الفوسفات في منطقة الحوض المنجمي، وذلك عبر تعمّد المغرب فرض شروط مجحفة على الشركات المتعاملة مع تونس وإلزامها بتوقيع عقود طويلة الأمد، ممّا أفقد تونس العديد من الأسواق في هذا المجال.
زبالة مردودة!
من نافلة الواقع التأكيد أنّ الشعب المغربي الشقيق، وخاصّة فئاته المحرومة والمهمّشة الواسعة الانتشار في ربوع المملكة، بريء من هذه السلوكات السياسيّة المستفزّة ومن التصريحات الضارّة بعلاقات البلدين. فالمعلوم أنّ التونسيّين عموما يعشقون المغرب بلدا وشعبا. وهو ما لا يعني أنّهم غير مدركين للأوضاع العامّة في المملكة المغربيّة التي لا تزال تئنّ في مجال الحريّات الفرديّة والعامّة. ولا يمكن بأيّ حال مقارنة الأوضاع السياسيّة في المغرب مع المسار الديمقراطي الذي تعيشه تونس رغم كلّ هناته وسلبياته وحدوده.
ويكفي أن نوجّه ملاحظة واحدة إلى بن كيران، حتّى يكون على بيّنة بأحد أهمّ الفروق “التلقائيّة” أو “المفتعلة” بينه وبين أيّ مواطن تونسي. وهي أنّه حين يلتقي الملك محمد السادس، ليس بإمكانه إلّا أن ينحني، ويُقبّل الأيادي. وطبعا فإنّنا لم نصل هنا إلى درجة الإشارة إلى أنّ القيادي الحزبي ورئيس حكومة السابق غير قادر أصلا على مجرّد التلميح بكلمة نقد واحدة إلى الملك!، وإلاّ فإنّه سيقضي نهائيّا على مستقبله السياسي، رغم التزامه الأعمى بالطاعة المخزنيّة العمياء. وهو ما يعني أنّ بن كيران يُدرك كلّ الإدراك مكامن إطلاق شطحاته الكلاميّة غير المسؤولة.
وعلينا أن نذكّره في المقابل بأنّ أيّ مواطن، في تونس الحرّة اليوم، يمكنه أن ينقد نقدا لاذعا أيّ مسؤول سياسي مهما علا شأنه، بما في ذلك رئيس الحكومة ورئيس الجمهوريّة. وهذا لمن يعي معنى الحريّة ليس من قبيل الفوضى وإنّما ممارسة لحقّ أساسيّ من حقوق الإنسان، فرضته الثورة للتونسيين بالقوّة والفعل، ولم يكن هديّة أو منّة لا من رئيس ولا ملك أو مسؤول. كما أنّ حريّة الصحافة والإعلام والحقّ في الاحتجاج لا يعدّ من قبيل الفوضى، إلاّ لمن خيّر الصمت إزاء سجن الصحفيين وكتم الأصوات في المغرب مثل بن كيران.
ومع ذلك من الأهميّة التأكيد على أنّ الشعب المغربي العزيز أدرى بشعابه، ولا أحد غيره له الحقّ في أن يفرض على المغرب طريقة تطوّره السياسي ونسقها إن كان بطيئا أو حثيثا. فالمغرب أكبر من بن كيران ومن الخطاب المزدوج الذي يحترفه جماعته من الإخوان، مثلما أنّ تونس أكبر من كلّ حكّامها في الماضي والحاضر. وحريّ بنا الإشارة في هذا الباب إلى أنّ عموم التونسيّين والمغاربة حين يقولون أنّ بلديهما يُشكّلان بلدا واحدا، فإنّهم يعنون ذلك بقلوبهم وأفئدتهم فعلا، وليس مجرّد شعار سياسي مثلما يفعل بن كيران.
ومن ثمّة قد يكون من المجدي تنبيه رئيس الحكومة المغربي السابق إلى ضرورة أخذ الحيطة عند زيارته المقبلة إلى تونس، لأنّ أنفة عمّال النظافة الشرفاء قد تدفعهم إلى رميه بزبالته المزعومة على أعتاب مطار تونس قرطاج الدولي.
صدر في العدد الأخير من أسبوعية “الشارع المغاربي”