الشارع المغاربي – حول التدخّلات الخارجية في شؤوننا الداخلية: عريضة مفتوحة للرئيس ماكرون / بقلم أحمد بن مصطفى

حول التدخّلات الخارجية في شؤوننا الداخلية: عريضة مفتوحة للرئيس ماكرون / بقلم أحمد بن مصطفى

8 فبراير، 2019

الشارع المغاربي : في ظل تنامي المخاطر المحدقة بتونس نتيجة للتدخلات الخارجية المتعددة في شؤوننا الداخلية و في محيطنا الأمني المباشر مما ساهم إلى حد كبير في تفاقم الأزمة الاقتصادية و المالية الخانقة وتغذية المأزق السياسي الذي يهدد بإفشال الانتقال الديمقراطي التونسي، ارتأيت أن الظرفتين المحلية والدولية ناضجة لتطوير أساليب التحرك باتجاه الأطراف الخارجية المهيمنة، وفي طليعتها فرنسا ومجموعة السبع باعتبار مسؤوليتيهما التاريخية في ما آلت إليه الأوضاع بتونس قبل الثورة وبعدها.

وهذا هو السياق الذي تتنزل فيه هذه العريضة المفتوحة الموجهة إلى الرئيس الفرنسي،- والمرفقة بهذا المقال على الصفحة الالكترونية لصحيفة “الشارع المغاربي” – وهي تكشف خفايا الموقف الفرنسي الأوروبي الغربي إزاء تونس منذ الاستقلال و الأساليب المعتمدة لحرمان الشعب التونسي من إزالة مخلفات الاستعمار الاقتصادي واسترداد سيادته واستقلالية قراره بهدف السيطرة على ثرواته ومقدراته المادية والبشرية وتوظيفها للخروج من التبعية والتخلف والهيمنة.
و تبين الرسالة العلاقة المتينة بين فشل المسيرة التنموية التونسية منذ الاستقلال وتعثر الانتقال السياسي والديمقراطي بعد الثورة في ظل استمرار العمل بالنمط الاقتصادي الانفتاحي والليبرالي غير العادل المفروض على تونس بأشكاله المختلفة منذ مطلع السبعينات من خلال المنظومة المتعددة وتحديدا المجموعة الأوروبية ومجموعة السبع والمؤسسات المالية الدولية التي حلت محل الاحتلال المباشر لتأبيد الهيمنة الفرنسية الغربية على تونس.
و سنتناول في محور أول مضامين هذه العريضة وخلفياتها وأهدافها وما تحمله من رسائل مختلفة إلى الأطراف المهيمنة على تونس وإلى الرأي العام التونسي والفرنسي والدولي أخذا بعين الاعتبار طبيعة التهديدات المتعددة الأطراف الناجمة عن العولمة الاقتصادية التي تستهدف بلادنا مما يتطلب من المجتمع المدني والقوى الوطنية تطوير وسائل مبتكرة للتصدي لهذه المخاطر وتقديم السياسات والحلول البديلة الكفيلة بالدفاع عن مصالح الشعب التونسي وسيادته واستقلالية قراره. وسأتطرق في محور ثان إلى السيناريوهات الممكنة بتونس خلال الفترة المتبقية التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ضوء الموقف الذي تتبناه فرنسا ومجموعة السبع و بقية الأطراف السياسية المؤثرة في المشهد السياسي التونسي.
مضامين العريضة وخلفياتها وأهدافها

تهدف العريضة إلى تسليط الأضواء على الطابع المختل للعلاقات التونسية الفرنسية الأوروبية الغربية وأسبابه التاريخية وتبعاته الخطيرة على تونس بحكم تحوله إلى عقبة كأداء أمام الانتقال الديمقراطي وأمام مشروع إعادة بناء الدولة التونسية على أسس مؤسساتية وفقا للدستور التونسي الجديد.
و يجدر التذكير بأن تونس انخرطت بداية الستينات في مسارين اقتصاديين متوازيين متناقضين من حيث الأهداف وكان المسار الأول موجها لإرساء أسس الدولة التونسية المستقلة وإزالة الاستعمار الاقتصادي و بناء اقتصاد إنتاجي وطني من خلال المخطط الاستراتيجي المعروف بالآفاق العشرية للتنمية.
أما المسار الثاني المدعوم من المجموعة الاقتصادية الأوروبية بإيعاز من فرنسا، فقد كان يهدف لإقحام تونس المبكر في منظومة العولمة الاقتصادية الظالمة المعادية لسيادة الدول ولمفهوم الدولة الوطنية باعتبار أنها تسعى لإزالة الحدود بغية فتح الأسواق وتتجاهل الفوارق في الحجم الاقتصادي والطاقات الإنتاجية ومستويات التنمية بين الدول المتخلفة والدول والمجموعات الصناعية الكبرى.
وترتكز هذه المنظومة على خديعة كبرى مفادها أن قبول الدول المتخلفة بتحرير التجارة وحرية النفاذ دون قيود لأسواقها التجارية ولسوق الشغل لتبادل السلع و القوى العاملة والاستثمارات،يخدم مصالحها لأنه يمكنها من الولوج إلى الأسواق الشاسعة للدول الصناعية الكبرى وهو ادعاء زائف ومخالف للواقع لأن بلدان العالم الثالث لم تحقق، على غرار الدول الصاعدة، النهضة الصناعية والفلاحية والتكنولوجية الضرورية لبناء قطاعات إنتاجية عصرية ذات قدرات تصديرية عالية تمكنها من الاستفادة من التجارة الدولية.
ومع ذلك ظلت هذه المغالطات هي الأساس الذي بنيت عليه العلاقات شمال-جنوب منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا حيث وجدت الدول والتجمعات المهيمنة في ذلك السبيل الأمثل للحفاظ على مكاسب الاستعمار والإبقاء على الضفة الجنوبية للمتوسط في دائرة النفوذ الفرنسي والغربي الذي كان يخشى، في مناخ الحرب الباردة، من التمدد السوفياتي الاشتراكي إلى شمال افرقيا على غرار ما حصل في الشرق الأوسط.
وهكذا، جاء توقيع تونس سنة 1969 على أول اتفاق للتبادل الحر مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية وإنهاء التجربة التنموية لمرحلة الستينات والشروع في إرساء المنظومة الاقتصادية لمرحلة السبعينات القائمة على إعطاء الأولوية للانفتاح التجاري واستقطاب الاستثمارات الخارجية ووضع الثروة البشرية التونسية تحت تصرفها في إطار توزيع غير عادل للمهام الاقتصادية عبر العالم أفضى إلى حشر تونس والدول المتخلفة منذ ذلك التاريخ في ادني الأدوار الاقتصادية ألا وهي المناولة مما أدى إلى خسارة جانب هام من طاقاتها البشرية التي تم تحويل وجهتها لصالح الدول المهيمنة وكذلك الشأن بالنسبة للقطاعات والأنشطة الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية وما يتصل بها من إطارات وباحثين وكفاءات بشرية وعلمية عالية.
ورغم ذلك حافظت الدولة التونسية خلال مرحلة السبعينات على دورها الاقتصادي المركزي وظلت المستثمر الأساسي في مجال البني التحتية والصناعات الإستراتيجية الكبرى والنهوض بالقطاعات الاجتماعية كالتعليم و الخدمات الصحية وبناء قطاع عام إنتاجي و خدمي عصري و متطور.
غير ان فرنسا والمجموعة الأوروبية نجحتا من خلال “البرامج الإصلاحية” لصندوق النقد الدولي والاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف غير المتكافئة، وخاصة منها اتفاقية 1995 للتبادل الحر للسلع الصناعية مع الاتحاد الأوروبي، في الحفاظ على نفوذهما السياسي والثقافي القوي بتونس وفي دوائر السلطة وفي أعلى مستوى القرار.
كما حافظتا على سيطرتهما على سياساتنا الاقتصادية وعلى الثروات الطبيعية والزراعية والباطنية بفضل استمرار احتكارهما التكنولوجيات الضرورية لاستخراج هذه الثروات وتثمينها صناعيا وترويجها في الأسواق العالمية الخاضعة لهما و للشركات المتعددة الأطراف ذات الطاقات الإنتاجية الضخمة والعابرة للحدود.
و بعد الثورة تبين أن النفوذ الفرنسي الغربي بتونس تجاوز مرحلة التأثير في التوجهات وفي السياسات ليتحول إلى تغلغل مكشوف في مفاصل الدولة ومصادرة القرار السيادي الوطني وممارسة شكل من أشكال الوصاية المباشرة على تونس.
و انطلاقا من هذا التشخيص لحصيلة العلاقات التونسية الفرنسية الغربية وانعكاساتها السياسية والاقتصادية المدمرة على بلادنا،تتطرق العريضة إلى التدابير العاجلة والآجلة التي كان وما زال بإمكان فرنسا وشركائها اتخاذها على الصعيدين الثنائي والمتعدد الأطراف تجسيدا لوعودها والتزاماتها الواهية المتكررة بمساعدة تونس على مواجهة الأزمة الخانقة التي تردت فيها وإنجاح انتقالها الديمقراطي.
لكنه ثبت أن هذه الأطراف، بدلا من احترام تعهداتها، تستغل هذه الصعوبات ومعضلة المديونية، التي ساهمت بقسط وافر في تأجيجها،لمزيد التدخل في شؤوننا الداخلية ومضاعفة الضغوط على تونس لتمرير الاتفاقيات والقوانين التي تخدم مصالحها. وأفضل دليل على ذلك الصفقة المبرمة مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد والتعهد بتقديم الدعم السياسي والمالي الضروري لمؤازرته في أفق المواعيد الانتخابية القادمة مقابل التسريع بإمضاء اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق.
السيناريوهات الممكنة بتونس خلال المرحلة القادمة
لعل أفضل الفرضيات أو اقلها ضررا بالنسبة لتونس، وهي مستبعدة في تقديري، حصول تحول في الموقف الفرنسي الغربي باتجاه مراجعة حساباتها و تموقعها السياسي في المشهد السياسي التونسي، ويفترض هذا السيناريو حصول قناعة لدى هذه الأطراف بانه ليس من مصلحتها مواصلة المراهنة على التحالف مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد خاصة أنه لا يبدو قادرا، في ظل وضعه السياسي الهش،على الإيفاء بتعهداته المشار إليها فضلا عن حصيلة حكمه الكارثية التي لا تخدم الا طموحاته الانتخابية ورغبته الجامحة للاستفراد بالسلطة في المستقبل.
السيناريو الثاني وهو الاسوأ ولعله الأقرب إلى الواقع، مزيد تعفن الأوضاع السياسية وانخرام الأوضاع الأمنية إلى درجة الانفجار نتيجة تصاعد المواجهات والاحتقان والتظاهرات الاجتماعية و استمرار المناورات الرامية لعرقلة المسار الانتخابي أو إجراء انتخابات صورية وفاقدة للمصداقية خدمة لطموحات جل الأطراف الماسكة بالسلطة الحالمة بمواصلة احتكار الحكم بسبب خشيتها من تبعات التداول السلمي على السلطة.
يبقى أن نشير إلى أن الأحزاب المعارضة والمنظمات والقوى الوطنية الحريصة على إنقاذ المسار الديمقراطي قادرة، رغم هذه العقبات، على التموقع بفاعلية في المشهد السياسي والانتخابي خاصة إذا تجنبت الانقسام وتفتيت الجهود وتوصلت إلى تقديم البدائل الحقيقة والجدية بالنسبة للملفات الاقتصادية والاجتماعية الحارقة وكذلك الملفات الدبلوماسية الحساسة ذات الأهمية القصوى في تحديد مستقبل تونس حاضرا ومستقبلا.

احمد بن مصطفى
( سفير سابق باحث في القضايا الدبلوماسية و الإستراتيجية )

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING