الشارع المغاربي : لم ينجح وزير الداخليّة لطفي براهم فقط في كبح جماح الإرهاب، بل أثبت أيضا قدرته الفائقة على إثارة قضايا تعكس استعداده للتضييق على الحريّات الفرديّة التي يضمنها دستور البلاد. في نطاق هذا التمشّي المنغلق صدح الوزير الأمني بموقف صارم من مسألة غلق المقاهي خلال شهر رمضان، في حين تحلّت إحدى أهمّ الشخصيات النهضويّة بموقف متحرّر إزاء قضيّة الحال…
لم يتردّد لطفي براهم في الدفاع باستماتةٍ عن إقرار وزارته إغلاق المقاهي، نهارًا خلال شهر رمضان، عملا بمنشور الوزير الأوّل الأسبق الراحل محمد مزالي الصادر عام 1981. ولم يجد وزير الداخليّة من مبرّر لذلك غير التأكيد على أنّ فتح المقاهي والمطاعم من شأنه أن يتسبّب في استفزاز المشاعر الدينيّة للتونسيين. براهم لم يكتف بتنصيب نفسه وزيرًا غير معلنٍ للشؤون الدينيّة، بل افترض أيضا أنّ السماح بفتح المقاهي خلال هذا الشهر في النهار قد تستغله الجماعات المتطرّفة للتحريض ضدّ الدولة أو ارتكاب أعمال إرهابيّة. وكأنّ الإرهابيّين سيستمسكون اليوم بهذا التفصيل تحديدا، مع أنّهم غضّوا أبصارهم عنها سابقا حين ارتكبوا عمليّات إرهابيّة عدّة في مثل هذا الشهر خلال سنوات متلاحقة.
لطفي براهم مُبرّرًا!
قدّم وزير الداخليّة تبريرات يُدرك الجميع أنّها على الأقلّ “غير مبدئيّة“، نظرًا إلى مخالفتها الصريحة للحريّات الفرديّة والعامّة التي ينصّ عليها دستور 2014. كما أنّها تجسّد تنصّلا معلنا من التزام مؤسّسات الدولة باحترام الدستور نصّا وروحا والعمل بمقتضياته. ورغم صدق وزير الداخليّة في الإشارة إلى أنّ مسألة غلق المقاهي خلال شهر رمضان تعود إلى “إجراءات وتراتيب معمول بها في الوزارة منذ سنوات“، فإنّ تغيّر الحال كان يفترض خطابًا وممارسةً جديدين مع بدء إنفاذ دستور تونس الجديد.
ومع ذلك ذكر براهم، خلال جلسة استماع بمجلس نوّاب الشعب يوم 18 ماي 2018، أنّ وزارته تتفاعل مع كلّ ما هو دستوري وتضمن حرية الأفراد، “والدّليل أنّ عددا من المقاهي مفتوحة في المناطق السياحيّة“، داعيًا من وصفهم بـ“الأقليّة” إلى احترام الصائمين الذين يمثّلون الأغلبية في تونس، على حدّ تعبيره. ووفق قوله المذكور، فإنّه بالتعبير التونسي الفصيح “جاء يطبّها عماها“. فقد سقط في التمييز بين التونسيين وبين التونسيين والسياح الأجانب وبين المناطق السياحيّة وغيرها، رغم تنصيص الدستور في الفصل الـ21 على أنْ “تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريّات الفرديّة والعامّة“، فـ“المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز“، وفق الفقرة الأولى من الفصل الدستوري ذاته. أمّا المفارقة الأخرى الفائقة التنظير، فتتمثّل في دعوته “الأقليّة” إلى احترام حقوق “الأغلبية“، ومن ثمّة الانصياع لمشيئتها. وهو خطاب يتعارض مع كلّ الأدبيات الحقوقيّة في العالم، فالأنظمة التي تعتبر نفسها ديمقراطيّة بالقوّة والفعل إنّما تُوطّن مؤسّساتها على ضرورة حماية حقوق الأقليّة أمام السطوة العارمة للأغلبيّة. هذا ما يؤكّده مثلا القول المأثور للمفكّر والكاتب الفرنسي من أصل جزائري ألبير كامو القائل إنّ “الديمقراطيّة ليست قانون الأغلبيّة، وإنّما حماية الأقليّة“.
لا يخفى، في المقابل، أنّ لطفي براهم أثبت نجاحات فائقة في تضييق الخناق على الإرهابيين. فقد جنّد مختلف أجهزة وزارة الداخليّة لمداهمة أوكار الإرهاب، بدليل تواتر الإيقافات في صفوف الإرهابيين كلّ يوم وكشف خلاياهم وتفتيت تجمّعاتهم واستباق مخطّطاتهم. ومع ذلك فإنّ تبرير عدم تفعيل مقتضيات الدستور بالردود المحتملة للإرهابيين طرح لا يجوز، بل من شأنه أن يُوجّه رسالة مضمونة الوصول إلى المتشدّدين وحلفائهم بكون أهمّ مؤسّسات تخشى ردّ فعلهم. والحال أنّه لا ضمانة في أن يُقدِم هؤلاء في أيّة لحظة على تنفيذ مخطّطاتهم ضدّ وزير داخلية يعتبرونه في منطوقهم الإرهابي قائد “الطواغيت” ومنهم.
ولا ريب أنّ لطفي براهم قد أثلج، بذلك عن غير قصد، صدور جموع متشدّدة تكالبت، منذ أيّام، على إطلاق حملة تعبويّة ترهيبيّة للتضييق على الحريّات الفرديّة وضرب حقوق المرأة التونسيّة. وقد سمّت حملتها “أستر بنتك خلّي الناس تصوم“، مُطالبة وزارة الداخلية بالضرب بقوّة على أيدي المفطرين، بل ودعت أيضا إلى منع النساء من ارتداء البنطلون باعتبارها تراه سبيلا لنشر الفحش والكفر البوّاح. ومن ثمّة فهي تريد أن تنقلب وزارة الداخليّة إلاّ هيكل يُعنى بـ“الحسبة“، أي أن تتحوّل إلى هيئة لـ“النهي عن المنكر والأمر بالمعروف” مكلّفة بمراقبة درجة “إيمان” التونسيين ومدى التزامهم بالتعاليم الوهّابيّة، على غرار ما يوجد في السعودية والسودان وأفغانستان.
عبد الحميد الجلاصي مختلفا..
لن نستعرض الموقف التحرّري للقيادي التاريخي بحركة النهضة عبد الحميد الجلاصي، بشأن مسألة إغلاق المقاهي خلال شهر رمضان نهارًا، لمجرّد المقارنة الجوفاء مع خطاب وزير الداخليّة بهذا الخصوص. فالجلاصي في حدّ ذاته قد أعرب عن احترامه لمسألة الالتزام بتطبيق القانون السائد. ومعنى ذلك أنّ التأييد الشخصي الذي أبداه القيادي النهضوي مؤخرا إزاء فتح المقاهي نهارًا لا يُعدّ مفارقة غريبة، وإنّما يبدو بمثابة دليل آخر على أنّ المواقف العامّة حتّى الأيديولوجيّة منها لا قدَر لها سوى التطوّر، في حال الامتلاء بالثقافة الحقوقيّة والإيمان بحريّة الفرد وحقّه في الاختيار.
الجدير بالذكر أنّ عبد الحميد الجلاصي كان قد قال حرفيّا، مؤخّرا في حوار مع إذاعة “ديوان.آف.آم“، إنّ “رأيي الخاص مع فتح المقاهي، لأنّ الدين بالنسبة إليّ مسألة عميقة لدى النّاس، ولا خوف على الدين في تونس“. وهو ما يُفكّك إذن التبريرات الواهيّة القائلة بضرورة منع “المساس بمشاعر المسلمين وحماية مقدّساتهم“. تلك تبريرات يُقدّمها البعض لثلاثة اعتبارات أساسيّة، وهي إمّا لإخفاء اصطفافهم الأيديولوجي أو لرفضهم للحريّات الفرديّة أو لخدمة أجندات شخصيّة مستقبليّة غير معلنة.
ومع ذلك فإنّ القيادي النهضوي عبد الحميد الجلاصي لم يتردّد في الدفاع عن موقف وزير الداخليّة، معتبرا أنّه يستند إلى منشور وزاري ساري به العمل، وأنّ من يرفض هذا السند القانوني ما عليه إلاّ السعي إلى تغييره في إطار البرلمان أو غيره. كما اعتبر أنّ هذه القضيّة التي تُطرح منذ سنوات طويلة قبيل حلول شهر رمضان ليست قضيّة جوهريّة بالنسبة إلى التونسيين، ولكنّه في الآن نفسه ذهب إلى أنّ “التونسيّين لا يشعرون اليوم بخطر من أيّ شيء.. رغم محاولات التخويف“، قائلا إنّ من تريد أن ترتدي الحجاب أو تصلي لها أن تفعل ما تريد ومن يصوم أو يفطر له الحق في فعل ذلك باعتبار أنّ ذلك حقّ مضمون دستوريًا…
والواضح في هذا كلّه أنّ الجلاصي، رغم أنّه يتحرّك في عمق الماكينة الحزبيّة والسياسيّة وحتّى المرجعيّة لحركة النهضة، فإنّه يُحاول تجنّب أن يكون سياسيًا أصمّا، مُفضلا أن يُصغي إلى التطوّر المجتمعي من جهة والأخذ بمقتضيات الانتقال الديمقراطي والحقوقي والدستوري من جهة أخرى. ورغم حملات التشهير التي طالته، فإنّه لم يتردّد في التعبير عن توجّهه التحرّري المنعتق سواء من وطأة جماعته في حركة النهضة أو من تشكيك بعض التيّارات اليساريّة المنغلقة.
أحسن الجلاصي التعبير عن هذا المسار قائلا، مؤخرا في موضع خطابي آخر بصفحته في موقع “فيسبوك“، إنّ “قناعتي الصميمة أنّ رقعة العقلانية تتّسع في مشهدنا الحزبي والمدني بمختلف مرجعياته ومكوّناته. نحن أمام مسار تاريخي، مسار البرء من الجهل المتبادل والتجاهل المتبادل. الاستبداد يبني جدرانا وحواجز نفسيّة بين الناس، نحن بصدد هدمها وستأخذ وقتا“. ومن ثمّة حلّق القيادي النهضوي عاليا في الدفاع عن “ثقافة التنوّع والحوار والاعتراف والتسامح“، قائلا حرفيّا “لتكُن تونس مثل ‘الصحن التونسي‘ تضمّ كوكتالا متنوّعا ومنسجما“…
تطوير الخطاب والممارسة!
هكذا يبدو إذن أنّه لا جدوى من اجترار المقولات القديمة والمتضاربة مع دستور البلاد أو الحديث عن الحريّات الفرديّة بكونها قضيّة هامشيّة، لمجرّد أنّ المجتمع التونسي لا يزال مكبّلا بماضٍ لم يسمح له بعد بالتفهّم المفترض للمقتضيات الحقوقيّة للانتقال الديمقراطي تحت ذريعة “الحفاظ على الخصوصيّات” و“حماية المقدّسات“. كما أنّ عدم إصدار مناشير أو أوامر وزارية جديدة تُلغي القديم منها وتُعوّضه، لم يكن ليمنع وزير الداخليّة من فرض احترام الدستور والتحلّي بشجاعة تطوير الخطاب والممارسة التي يفرضها واقع الحال.
ومن نوافل القول، في هذا المضمار، إنّ حقوق الإنسان منظومة كاملة متكاملة، أي أنّه لا يُمكن تجزئتها بما يُؤدّي إلى مُعاملة التونسيين على أنّهم قُصّر وغير راشدين. وهو ما يوجب التذكير بأنّ “الأمن الوطني أمن جمهوري“، وفق الفصل الـ19 من الدستور، ما يعني أنّ وزارة الداخليّة، وعلى رأسها حاليا لطفي براهم، مكلّفة بـ“حماية الأفراد والمؤسّسات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريّات وفي إطار الحياد التامّ“، حسب منطوق الفصل ذاته. ولا غرو إذن أنّ الدستور التونسي قد سُنّ من أجل تطبيقه والالتزام بمقتضياته، لا جعله مجرّد واجهة بلوريّة ناصعة موجّهة إلى الخارج بهدف تلميع الصورة الحقوقيّة للبلاد، دون الأخذ بعمق ما فيه مضامين…