الشارع المغاربي – حين تفتخر حركة النهضة بعشريّة الخراب: صكّ تربح ! /معز زيود

حين تفتخر حركة النهضة بعشريّة الخراب: صكّ تربح ! /معز زيود

قسم الأخبار

11 ديسمبر، 2021

الشارع المغاربي: من المؤسف أن يُثبت من كان يُهيمن على منظومة الحكم قبل منعرج 25 جويليّة عدم استعداده لاستيعاب الدرس تلو الآخر. فقد بلغ الأمر حدّ إعراب بعض قيادات حركة النهضة عن الفخر بالعشريّة الماضية واجترار سرديّة الشرور التي «تُحاك» ضدّها، والمضيّ في الخطاب المخادع لساعات الليل الأخيرة…

الإطار ندوة صحفيّة رسميّة لحركة النهضة والزمان أمس الاثنين. أمّا المضمون فهو تنصّل غريب من مسؤوليّة التجاوزات والأخطاء القاتلة التي أدّت بالبلاد إلى الأوضاع الكارثيّة السائدة اليوم. سامي الطريقي، أحد ممثّلي حركة النهضة في ندوتها الصحفيّة المنعقدة أمس، لم يتردّد في التعبير عن فخر حركته بالعشريّة الماضيّة، مع أنّها العشريّة نفسها التي دمّرت النسيج الاقتصادي للبلاد وفكّكت وحدة المجتمع وشجّعت الكراهيّة والحقد وأسّست للتطرّف والإرهاب والاغتيالات وأشاعت الفساد والرشوة وبشّرت بإفلاس الدولة الوشيك… وفي نهاية المطاف، مهّدت تلك الديمقراطيّة الشكلانيّة الفاسدة التي جعلت مجلس نوّاب الشعب مثارا للسخريّة والاستنكار، السبيل لفرض حكم فرديّ شعبويّ يكاد ينسف كلّ المكتسبات… كلّ هذه العلل المزمنة باتت تبعث على الفخر في خطاب قيادات حركة النهضة، إذ يقول الطريقي حرفيّا «نفتخر بالعشرية الفارطة لأننا عرفنا خلالها كيف ندير صراعاتنا وخلافاتنا، والحركة قدّمت المثال النموذجي على الخروج من الحكم ومن هيكلة الطرف القويّ في سنتي 2013 و2014 ولم تستعمل أجهزة الدولة لضرب خصومها واستئصالهم وضرب التظاهرات ولا منعهم من التعبير عن آرائهم، بل أذعنت في إطار التنازلات وهذا معلوم… لم تستعمل الجيش ولم تزح أيّ اعتصام أو تحرّك ولم تستعمل أيّة وسيلة من وسائل القوّة».

حقّ أم باطل؟!

من حقّ حركة النهضة وقياداتها طبعًا التشهير بما قد تكون بصدد التعرّض له من تشويه وضغوط. وفي المقابل، يبدو من العبث اجترار خطاب الضحيّة والمظلوميّة ذاته الذي طالما عُرفت به الحركات الإخوانيّة حيثما وُجدت. فكيف لم تستخدم حكومتها أجهزة الدولة لضرب خصومها وهي التي استهدفت مواطني مدينة بأسرها في أحداث الرشّ بسليانة أواخر شهر نوفمبر من عام 2012؟!، ألا تُذكّرنا عمليّة الإحالة إلى «التقاعد الوجوبي» التي أطلقها رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد مؤخرًا في صفوف جمع من إطارات وزارة الداخليّة بما أقدم عليه نور الدين البحيري وزير العدل الأسبق زمن حكم «الترويكا» حين عزل ما يزيد عن 80 قاضيا دُفعة واحدة، في عمليّة تصفية علنيّة مشهودة بهدف تركيع منظوري المؤسّسة القضائيّة التي تخشى حركة النهضة توظيفها ضدّها اليوم؟! وهل يُنسى اعتصام أنصار الحركة أمام بوّابة مؤسّسة التلفزة التونسيّة لترهيب صحفيّيها وسائر وسائل الإعلام وإطلاق شعار «إعلام العار» على كلّ من يجرؤ على انتقاد حركة النهضة؟! وفي عام 2013 عندما كان معظم التونسيّين شهود عيان على النتائج الدمويّة لسياسة مهادنة الحكومة حطب حركة النهضة، المتمثّل في الروابط المتطرّفة والجماعات الإرهابيّة، هل كان هناك من بديل لمغادرة الحكومة والبقاء في الحكم، وفق مقولة راشد الغنوشي الشهيرة؟!…

تبدو المحاججة إذن أمرًا يسيرًا جدّا لكشف أوتار الخديعة المخاتلة. وهو ما سمّاه المتحدّث باسم حركة النهضة «حملة تشويه» و»عملية لدمغجة العقول» بغرض «إقصاء الحركة بالاستقواء بأجهزة الدولة». وربّما أصاب باستنكاره توصيف دستور 2014 بدستور النهضة، قائلا إنّ «الدستور الآن يسمّى بدستور النهضة ولم يعد الدستور الذي هلّلوا له.. أصبح فجأة دستور النهضة». والحال أنّ هذا الدستور المعلّق حاليّا كان رغم كلّ هناته نتاجًا لحراك العديد من الفاعلين في المشهد العام. فلئن حاولت حركة النهضة في البدء تفصيله على مقاسها بفرض الفكر الإخواني بجذوره السلفيّة، حين وكّلت المقرّر العامّ للدستور الحبيب خذر بتلغيمه بسمات دولة دينيّة متطرّفة، فإنّ النسخ الأولى منه سقطت آنذاك ثمّ عُدّلت جرّاء تصاعد ضغوط مكوّنات المجتمع المدني والمنظمات الوطنيّة. ورغم كلّ علّاته ولاسيما ما ساده من اختلال في التوازن بين السلطات وتنازع الصلاحيّات بين رأسي السلطة التنفيذيّة، فإنّ المسؤوليّة الأولى تعود إلى حركة النهضة نفسها في تعطيل تنزيل مقتضياته، وفي مقدّمتها المحكمة الدستوريّة التي لو تشكّلت قبل الانتخابات السابقة لما آلت الأمور إلى ما آلت إليه. فسياسة الغنيمة والتمكين كانت هي الأساس في تحديد خيارات البرلمان وإدارة سائر مؤسّسات الحكم. ولا يخفى أنّه لو كانت حركة النهضة تُؤمن حقّا بالديمقراطيّة لما نزعت إلى ترشيح شخصيّة تكفيريّة لعضويّة المحكمة الدستوريّة. ولولا قرارات 25 جويليّة، رغم كلّ هناتها التي أرجعت البلاد مجدّدا إلى مربّع الحكم الفردي المطلق، لحاولت حركة النهضة فرض الخيارات ذاتها. وعلى الأرجح أنّ حركة النهضة لو تمكّنت مجدّدا من الهيمنة على قرار البرلمان ودواليب الحكم، وهو احتمال مستبعد حاليّا على الأقلّ، لاجترّت المناورات السياسيّة ذاتها.

قلب الحقائق

ومن دلائل هذا الجموح نحو نكران حقائق الأرض ورفض استيعاب الدرس، ما تردّده اليوم من أنّ «تقرير محكمة المحاسبات برّأ حركة النهضة» وأنّ مسألة التمويلات الأجنبيّة المتمثّلة في «عقد اللوبيينغ» يُعدّ «غير موجود ومجرد خيال ولا يمكنها إثباته»، وفق التصريحات المتهافتة لسامي الطريقي. والحال أنّ محكمة المحاسبات كشفت في «التقرير العام حول نتائج مراقبة الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة السابقة لأوانها والانتخابات التشريعيّة لسنة 2019 ومراقبة ماليّة الأحزاب» سيلا عارمًا من التجاوزات الانتخابيّة الكفيلة بالتأثير في إرادة الناخبين. ومن بينها أنّ أكثر من 340 قائمة مرشّحة للانتخابات التشريعية لم تقدّم حساباتها أو قدّمت حسابات مغلوطة، فضلا عن معضلة التمويل الأجنبي وعدم إيداع موارد ماليّة في الحسابات البنكيّة وتلقّي أموال مشبوهة في شكل تبرّعات من ذوات طبيعيّة أو معنويّة…

ولا يخفى عن كلّ من تصفّح هذا التقرير المستفيض أنّ حركة النهضة وقائماتها الانتخابيّة تشكّل أحد أبرز الأحزاب الموصومة بشبهة ارتكاب مثل تلك التجاوزات. ويكفي الإشارة مثلا إلى أن كشف تقرير محكمة المحاسبات أنّ بعض قائمات حركة النهضة نظّمت تظاهرات انتخابيّة غير مسجّلة بالقائمة المودعة لدى المحكمة، وقدّمت كشوف حسابات بنكيّة لم تتضمّن إمضاء وتأشيرة البنك بما لا يضمن مصداقيّة العمليّات الماليّة المنجزة، وأبرمت الحركة عقدا لوبيينغ مع شركة الدعاية والضغط (BCW) بخصوص القيام بحملات دعاية وضغط وكسب التأييد في الانتخابات مقابل مبلغ يقارب 200 ألف دولار لم يتسنّ تحديد مصدره، بما ينتهك الفصل 19 من المرسوم 87 لسنة 2011 المنظّم للأحزاب السياسيّة. التقرير العام توقّف حتّى عند عدم توازن التغطية الإعلاميّة أثناء الحملة الانتخابية التشريعيّة، التي كانت تسير غالبًا لصالح قائمات حزب حركة النهضة المتصدّرة لترتيب القائمات الأكثر حضورًا. كما لم يغفل التقرير حتّى عن رصد الإشهار السياسي غير المشروع لحركة النهضة على امتداد أيام الحملة الانتخابية عبر شبكات الميديا الاجتماعيّة وخاصّة منصّة «إعلانات غوغل»(GOOGLE ADS) التي تستهدف أكثر المواقع المستقطبة للمتصفّحين التونسيّين. وهو ما يُحيل إلى إنفاق مبالغ بالعملة الأجنبيّة، وفق تقرير محكمة المحاسبات، وغير ذلك الكثير من شبهة المخالفات الانتخابيّة المتفاوتة الخطورة…

المراجعات المؤجّلة

هكذا لا يتورّع مسؤولو حركة النهضة إذن عن مواصلة الخطاب المزدوج حتّى في أحلك فتراتها، أسوة بما دأب عليه زعيم الحركة. فمن الواضح أنّ حركة النهضة، على غرار سائر الحركات الإخوانيّة ومشتقّاتها، لا تزال ترفض رفضًا شبه قاطع إجراء الحدّ الأدنى من المرجعات التاريخيّة والسياسيّة الضروريّة لأدبياتها ومسارها وأدائها وهفواتها وتجاوزاتها المختلفة القاضية بأسلمة مجتمع مسلم، وفرض سياسة الغنيمة، وتعميق قاعدة «التدافع الاجتماعي» المؤذن بالانقسام والاحتراب، والتكالب على مقدّرات البلاد، وفرض سياسة المحاور على الدبلوماسيّة التونسيّة. أمّا يُبديه بعض قياداتها أحيانا من نقد ذاتي عابر فإنّه غالبا ما يندرج ضمن تكتيك ظرفي ومرحلي موغل في الانتهازيّة السياسيّة، في انتظار توفّر الفرصة لمعاودة سنّة التمكين والتغلغل والهيمنة على المجتمع والدولة.

ومع ذلك فإنّ حركة النهضة في مقدورها اليوم العمل على تخفيف شدّة الوبال الذي قد يعصف بها، لا فقط باعتبارها مكوّنا سياسيّا مهمّا في البلاد قادر على إحداث التوازن في وجه تغوّل السلطة القائمة، وإنّما من منطلق الإنصات إلى صوت الحكمة الداعي إلى إعادة ترميم بنيانها وتجديد فكر قياداتها. وهو ما لا يمكن أن يؤذن ببدء مرحلة جديدة من مسارها إلّا عبر استيعاب دروس التاريخ الموجعة وتحمّل مسؤوليّة أخطائها المتراكمة السابقة والكفّ عن الاجترار الدائم لسياسة الإنكار (Le Déni) والقطع مع جذورها السلفيّة المعادية للدولة المدنيّة والعمل على «تونسة» مرجعيّاتها وتحقيق المصالحة المنشودة المتناهية الصعوبة مع ذاتها وحولها…

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 ديسمبر 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING