الشارع المغاربي : •الاستخلاص الاول يتعلق بحرص رئيس الدولة الواضح على تغيير القانون الانتخابي الحالي، النظام النسبي. قرار أعتبره مصيبا. فعلاوة عن أن النظام الانتخابي النسبي غير ديمقراطي كما بين ذلك العميد الصادق بلعيد فإنه أدى، عند الممارسة، الى تكبيل آليات التفاعل السريع والناجع بين أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية.
النظام الاقتراعي الجديد –اختيار الأفراد في دورتين – سيمنح للناخب حرية اختيار، بالاسم، من يمثله في البرلمان، وهذا من روح الديمقراطية، غير أنه يحمل خطر سيطرة قلة من الاحزاب وحتى حزب واحد –النهضة خاصة– على كامل السلط من جهة وخطر انقراض الاحزاب الصغرى من جهة أخرى، مما سينجر عنه تمثيلية مبتورة للحساسيات السياسية في البرلمان.
لكن لا مجال للتردد في اختيار ما هو أخف الأضرار، فضرر النظام الانتخابي الجديد أقل ضرر من شلل مؤسسات الدولة الذي نعاني من ويلاته اليوم، ولست مع قول العميد الصادق بلعيد في ما ذهب اليه من تخوف، تخوف من فوز آلي وساحق للنهضة اذا إِعْتُمد القانون الجديد اذ أبرزت انتخابات 2011 و2014 أن عدد ناخبي النهضة لم يتجاوز في المناسبتين ثلث عدد الاصوات المصرح بها. فوز النهضة لا يتحقق إلا في فرضية غياب حزب اصلاحي حداثي وطني يجمع حوله بقية الاصوات الرافضة مبدئيا للنهضة ولحكامها.
فالمجازفة ليست في المخاطر الكامنة في القانون الانتخابي الجديد بقدر ما هي كامنة في افتقاد الساحة السياسية اليوم لقطب سياسي يجمع هذه الاصوات المبعثرة، جمعها حزب النداء في 2014 وتفوّق عدديا على النهضة بنسبة محترمة حيث التحمت حوله وحول رئيسه خاصة أغلبية وازنة من التونسيات والتونسيين، المشكل أو المأساة تكمن في نهاية الأمر في فقدان الساحة السياسية اليوم الى مثل هذا القطب، أما القول بأن حركة نداء تونس اليوم تضاهي حركة نداء تونس بالامس فهو من باب الهذيان والوهم لا سيما أن حصيلة حكمه للبلاد من 2014 الى اليوم هزيلة، اضافة الى ضعف اشعاع قيادته الحالية واهتزاز شرعيتها.
أعتقد في هذا الصدد أن حركة نداء تونس قادرة على أن تبعث من جديد بشرطين : أن تعود الى هويتها التاريخية وأصولها الفكرية الحقيقية وأن تعوض قيادتها الحالية بمن هو أجدر منها تاريخا ونضالا وكفاءة !
•الاستخلاص الثاني مرتبط بمصير حكومة يوسف الشاهد. لم يذكر رئيس الدولة ولو مرة واحدة طيلة ساعة كاملة من الخطاب لا يوسف الشاهد ولا حكومته وكأنهما غابا عن الوجود ! بل أكثر من ذلك : عبّر عن فشلهما بطريقة غير مباشرة و“فينو (Fine)” حيث تفنن في تصفيف أرقام الوضع الاقتصادي الكارثي والمجسمة ضمنيا لفشل الحكومة ورئيسها. يبدو أن الأمر حسم في ما يتعلق بمصير حكومة الشاهد : قد تكون انتهت ولايتها ! نهاية منطقية ليوسف الشاهد أساسا كرئيس حكومة والاسباب متعددة وجلية :
انخرط يوسف الشاهد بسرعة ودون تروّ (الخِفّة وقلة السبق) في السباق نحو موعد 2019 ولا فائدة في التستر وراء الخزعبلات الكلامية النافية لذلك ثم، وعلى عكس ما تعهد به، لم ينتهج منطق المصارحة والشجاعة بل منهجية المغالطة والمراوغة وحتى الكذب الموصوف في أكثر من موضع (تحميل البنك المركزي مسؤولية فضيحة القائمات السوداء أنموذجا) وأخيرا فشل في الحفاظ على مساندة أربعة من الاحزاب التسعة الموقعة على بيان قرطاج وهو البيان المؤسس لشرعية حكومته، أما الاتحاد العام التونسي للشغل فقد أصبح بعدما كان مساندا علنيا له من المنادين بإسقاط حكومته ككل ! والعبرة في السياسة بالنتائج!
من تمرن على فهم الدلائل الخفية للمنهجية السبسية لا يفوته توجه رئيس الدولة الضمني نحو عرض سياسي جديد (Une nouvelle offre politique) قد يعتمد نفس التمشي الذي افضى الى انهاء حكومة الحبيب الصيد : لجنة يقحم فيها المنظمتين الاجتماعيتين الكبيرتين (الاعراف والعمال) والحزبين الاولين صاحبي الاغلبية البرلمانية لتحرير وثيقة أولويات المرحلة الجديدة لغاية تأثيث شرعية حكومة جديدة ولا يُتصور، عقلا وحدسا، أن تُكَلَّفَ حكومة الشاهد بمسؤولية انجاز بنود بيان قرطاج2! من المستحيل اللهم إلا إذا ساد العبث واللامنطق التحرك الرئاسي…
•الاستخلاص الثالث متصل بقرار رئيس الدولة الترشح من جديد للرئاسية من عدمه. فهمت –والفهم الحقيقي لعالم الغيب والسرائر– أنه قرر عدم الترشح. تخللت كل كلمة قالها حول موعد 2019 نبرات صوت رجل دولة أدرك ربما نهائيا أن موعد 2019 ليس موعده !
اذا صدق هذا الفهم فلن أكون شخصيا إلا من المشيدين بحكمته وبمسؤوليته.
عارضت ترشحه سنة 2014 لأني أردت له مقام غاندي ومانديلا، فما بالك اذا ما عمد الى اعادة الكرّة !
أراه يسخّر العشرين شهرا – كما عدّدهم هو بنفسه – من المدة المتبقية من رئاسته للارتقاء الى مستوى التاريخ عبر قرارات شجاعة وفاصلة ومصيرية يضمن بفضلها لتونس خروجا سريعا وموفقا من أزمتها الخطيرة ولنفسه خروجا مشرّفا من القصر الرئاسي.