الشارع المغاربي – العربي الوسلاتي : ستبقى مباراة دربي العاصمة الأخيرة بين الترجي الرياضي التونسي والنادي الافريقي وصمة عار في تاريخ كرة القدم التونسية وسيبقى كلّ ما رافق تعيين هذه المباراة المثيرة للجدل وللضحك من مهازل وفضائح لوثة تلاحق وتطارد بعض أشباه المسؤولين الى يوم الدين… سيبقى عنوان دربي العاصمة وهو يطير هربا من جحيم العاصمة الى جنّة المنستير أطرف ما دونت الذاكرة على مرّ هذه السنين… سيبقى هذا الدربي اللعين في نظر بعض المسؤولين شاهدا على تردّي حال البلاد وسوء مآل العباد في هذا الوطن السجين بين أصابع المرتزقة وقبضة السياسيين… في هذا الوطن المتصحّر والمتفقّر والجائع والبائس والذي لم تعد تعلو فيه سوى صيحات الوجع وآهات الأنين…
دربي العاصمة الذي أضاء شمعته 129 لم يجد له لأوّل مرّة في تاريخه موطنا ولا مسرحا ولا ملعبا ولا جماهير… دربي العاصمة الذي كان العنوان الأبرز لكرة القدم التونسية على مرّ السنين جيلا وراء جيل وأضاء لأكثر من نصف قرن عتمة الزمن الجميل يجد نفسه اليوم فارغا بلا مضامين مشوّها منقوصا من أهمّ العناوين… منبوذا مطرودا تلفظه كلّ الميادين… دربي العاصمة رموا به خارج أسوار العاصمة ونزحوا به الى أرض غريبة عنه لأنّ العشب في درّة المتوسط يحتضر وأعمدة المنزه تكاد تنكسر… والوالي الأمين عاهد نفسه ألاّ يخالف التعليمات ولا يخرج إلاّ في صورة المنتصر… طار الجماعة بلا حياء ولا استحياء بالدربي الكبير الى ملعب صغير وفشلت هذه الدولة أو ما بقي منها في الحفاظ على مكاسب الأمس وتوفير حتى النزر القليل…ملعب يليق بدربي عريق بعدما فشلت في توفير الحليب والزيت ووو… دولة أهملت الشعب قبل الزرع والعشب وتركته يختار بين دفء النار ولهيب الأسعار وجنات الانتحار.
سقوط مدوّ…
سنوات قليلة الى الخلف كان دربي العاصمة بين الجارين الكبيرين الترجي الرياضي التونسي والنادي الافريقي مضرب الأمثال في الداخل والخارج وكان الموعد أشبه بعرس تتزيّن فيه العائلة الرياضية في تونس لليلة مشهودة… ليلة يتخاصم فيها الكلّ ثمّ يتصالح على أهازيج تزّف الفائز في موكب العريس في ليلة كانت كأنّها ليلة العمر… ليلة الدُخلة بعنوانها الكبير وبالبنط العريض على مدارج هادرة امتلأت على الشمال وعلى اليمين… إنها “الدخلة” يا سادة تجهّز نفسها كالعادة لترسم على العلن فوق صدر هذا الوطن لوحة فنيّة ساحرة امتزجت فيها ألوان المدارج الجنوبية بتلك الشمالية لتعطينا صورة خلاّبة لنديمين فرّقتهما الألوان ولم يغيّرهما الزمن…
كانت هذه عناوين الدربي بالأمس القريب يوم كانت لنا القيادة والريادة أمّا اليوم فلم يعد للدربي مكان ولا ملعب ولا أمن ولا أمان… فشل الجماعة حتى في المحافظة على نفس العنوان… دربي بلا ميدان… بلا عاصمة وبلا إخوان… دربي صامت لا يرسم على الشفاه سوى الأحزان… دربي اليوم عنوان جديد للفشل الكبير والمتواصل الذي يلاحق هذا الوطن… دربي رديء كاتم للنفس وللصوت وامتداد للوجع والموت… دربي يعكس حالة الهبوط الاضطراري لدولة تتلذّذ السقوط الحرّ وتراقب عاجزة لحظات الانهيار من كرامة العيش الى عزلة الدينار…
مدينة أشباح…
الحديث عن دربي العاصمة يجرّنا الى النبش في دفاتر وأرشيف هذه الدولة التي فقدت كلّ مؤشرات الحياة وباتت عاجزة حتى عن مجرّد ردّ الفعل… والحديث عن الحالة المترديّة لملعب رادس وما جاوره من ملاعب على تخوم الضاحية ليس حكرا على منشآت العاصمة… فالمدينة الرياضية المتوسطية المهجورة وكأنها قرية أشباح ليست الوحيدة التي تحتضر وتشهد حالة موت سريري فكلّ ملاعب الجمهورية الثانية التي يحلم بها البعض في كوابيسهم باتت غير صالحة سوى للمرعى… المشكل لا يكمن في طبيعة التربة ولا في نوعية العشب ولا في الجفاف والأمطار ولا في ثقب الأوزون ولا هم يحزنون ولكن المصيبة الحقيقية هي في بعض العقول الجامدة وفي الكثير من “الكفاءات” البالية التي تسلّلت الى مناصبها ومواقعها الأمامية بفضل الانتماء والولاء وخاصة ثقافة الانتهازية .. بعض المسؤولين الذي دفعتهم نسمات الثورة وقادتهم الصدفة الى واجهة الأحداث فأٌقاموا فيها الأذان وأظلّوا العنوان فأكلوا باليمين والشمال وصمّوا الآذان عن الصرخات بترديد الشعارات وتكثيف الصور والزيارات فكانت النتيجة الحتمية لزوال نعمة العقل والفكر والساعد الحرّ ميلاد عهد جديد من الاخفاقات والخيبات والانتكاسات… النتيجة ملاعب بالجملة مهجورة وبنايات كانت شامخة شاهقة بالأمس صارت اليوم مكسورة ونفايات على قارعة الطريق منشورة… ملعب رادس مغلق للصيانة… ملاعب زويتن والمنزه وحمام الأنف وبنزرت والمتلوي وغيرها أوصدت أبوابها منذ زمن بعيد وأجبرت أنديتها على الترحال على أمل تبدّل الحال الى أحسن حال في انتظار وصول العشب الصالح… لكن لا شيء تغيّر وبقيت دار لقمان على حالها… فلقمان منهمك في مشروعه السياسي ولا ينفق سوى الوعود وجدران الدار الكبيرة غادرها الحكيم وقد لا يعود…وبين الطائفتين انصرف البقيّة الى التحليل والتضليل و”تقعيد العود”.
فوضى خلاّقة
فضيحة الدربي مثلما وصفها البعض لم تقتصر على شطحات الرابطة فقط ولا على صمت المسؤولين ولا على فشل القائمين والساهرين على ديمومة وحماية المنشآت الرياضية والبنى التحتية فحسب بل طالت كذلك عنصرا مهمّا في عملّية بناء الجمهورية الثانية ومؤشرا حقيقيا على بداية سقوطها… الحديث هنا عن بعض النقابات الأمنية التي لم تجد حرجا في الاعلان عن رفضها تأمين مباراة الدربي في ملعب المنستير… الأسباب هي الاجهاد النفسي والبدني الذي يعاني منه أمنيو المنطقة وأيضا بسبب عدم الحصول على مستحقاتهم المالية نظير تأمينهم الأنشطة الرياضية… هكذا ودون تحرّج من وقاحة الموقف خرج علينا الجماعة ببيان عصيان علني في وقت كانت فيه بواسلنا تقضي على ما تبقّى من روائح الجرذان الكريهة مستعينة بـ”كلب” أشرف وأوفى من بعض الكلاب الآدمية التي نهشت ولازالت خيرات هذه البلاد…
سلوكات بعض الأمنيين لم تعد معزولة والواقعة ليست سابقة صادمة في تاريخ تونس الحديثة فالواقع اليوم بات يعنون صراحة لتشقق هذه الدولة ولانهيارها في ظلّ هذه الفوضى الخلاقة التي تطوّقها… بعض النقابات الأمنية باتت فوق القانون بلا رقيب ولا حسيب… تأتمر بنزواتها ورغباتها… تلغي صوت العقل ولا تنصت سوى لموضة العصر “أنا وبعدي الطوفان”… والأمنيون الخارجون عن القانون في أمثلة عديدة ليسوا حالة معزولة في تونس اليوم بل صارت معركة كسر الذراع بين الدولة وبقيّة مؤسساتها معركة علنية لا محرّمات فيها ولا حدود لها حتى لو وصول الأمر الى حدّ استعمال الدروع البشرية في معارك وهمية على غرار ما يحصل لأطفالنا في الحرب المتواصلة بين الوزارة والمعلمين…
سقوط الدولة متواصل ولا شيء يوحي بأنّ النزيف سيتوقّف والغريب أنّ السياسيين أفرادا وجماعات أحزابا وبلاغات لا يثيرهم هذا السقوط المخيف بل لا يرعبهم صوت الجياع ولا دوّي ارتطام الدينار بالقاع… هم فقط يتسابقون على الكراسي الفارغة يجهزّون لموعد انتخابي عليل قد لا يجدون فيه سوى بعض الأصابع المبتورة وحبرا ولعابا مريرا يسيل…
قد يفيق الجماعة من غفوتهم قريبا ولكن ما نخشاه هو أن يكون الأوان قد فات ونهلك جميعا لأنّ العشب الذي مات في رادس قد لا ينمو قريبا تماما كما الروح التي تستوطننا فالخراب المترامي على جنبات البلاد قد يضيق صدره قريبا ويحطّم كلّ شيء في طريقه وهذا ما لا نريد… كلّ ما نتمنا أن تكون فضيحة الدربي ان صحّ القول ناقوس الخطر الذي يوقظ الضمائر لأنّ ما حصل هو بالفعل إهانة كبيرة لكلّ الرياضيين ولكل المسؤولين فالأرض التي لا تنبت عشبا صالحا تطرح شعبا طالحا ولا تستحق أن توصف بالخضراء…