الشارع المغاربي:منذ أكثر من عامين، وتحديدا بعد مدّة قصيرة من انقلاب 25 جويلية 2021، وجّهت، في أحد الحوارات الصحفية، تحدّيا إلى قيس سعيّد بأن يعيد على مسامعنا تلك العبارة التي أطلقها في الدورة الثانية من انتخابات 2019 الرئاسية والتي قال فيها: “إن التطبيع خيانة عظمى”. ولكنّ سعيّد لم يعد إلى تلك العبارة إلا مرّة واحدة بعد انتخابه رئيسا وكان ذلك في الحوار اليتيم الذي أجراه يوم الخميس 30 جانفي 2020 في مقر التلفزة الوطنيّة بمناسبة مرور مائة يوم على وصوله إلى قصر قرطاج. وقد تحدّث في هذا الحوار، عند تذكيره بعبارته تلك وعن إمكانية تقنينها، عن “قانون الخيانة العظمى” لمواجهة “المطبّعين”. ولمّا سألته الصحفيّة التي كانت تشارك في إدارة الحوار إلى جانب زميلها، إن كان هذا التّصريح يعني وجود مبادرة تشريعية في الأفق لتجريم التطبيع، تراجع، وقد أحسّ بالورطة، وأعلن أنّ القضية “لا تحتاج إلى مبادرة تشريعية بل تحتاج إلى موقف سياسي واضح” مضيفا أن القضية لا يمكن “أن تبتذل في مبادرة تشريعية” وهي طريقة معروفة تتمثل في “رفع السّقف” لاجتناب الالتزام بموقف فعلي، ملموس وفي قضية الحال لاجتناب تجريم التطبيع وبالتالي تتبّع كل من يمارسه، مهما كان موقعه في السلطة أو المجتمع، قضائيّا. مع العلم أنّ سعيّد أكّد في هذا الحوار تمسّكه “بالشرعية الدوليّة على نقائصها” والتي هي تشرّع الاحتلال الصهيوني ولم يطرح قط تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
وبعد هذا الحوار اليتيم في وسيلة إعلامية تونسية، لم يكرّر سعيّد “الرئيس” تلك العبارة. وهو ما دعاني إلى تحدّيه بأن يكرّرها مجدّدا. وكما كنت أنتظر لم يرفع قيس سعيد ذلك التحدّي فكررته عدة مرات لغاية إثبات التناقض بين خطاب الرجل وممارسته، خطابه الراديكالي من جهته وممارسته اليمينية الرجعية من جهة أخرى. وتواصل صمت سعيّد على الموضوع أكثر من عامين شهدا ما شهدا من مواقف وممارسات تطبيعية فاضحة كما سنبين ذلك لاحقا. ولكن الرجل، ودون سابق إنذار، عاد إلى الموضوع في اجتماع وزاري مضيّق بقصر قرطاج بتاريخ 18 سبتمبر المنقضي حضره رئيس الحكومة ووزراء الداخلية والعدل وأملاك الدولة والمالية. لقد ألقى سعيّد بالمناسبة كلمة تجاوزت الـ50 دقيقة، أثار فيها عدة قضايا تهمّ الشأن الداخلي. وفي وقت من الأوقات وتقريبا دون مقدّمات منطقيّة انزلق للحديث عن القضيّة الفلسطينيّة ليصرّح: “وأذكرها مرّة أخرى على رؤوس الملأ التطبيع خيانة عظمى في حق الشعب الفلسطيني…”
وما أن جاء الصباح حتى انطلقت كالعادة جوقة الأزلام شاكرة، معظّمة، منوّهة “بقرارات الرئيس التاريخية”. وفي هذا السياق شنّ الأزلام حملة على حمّه الهمامي الذي تحدّى سعيّد بأن يعيد عبارة “التطبيع خيانة عظمى” على رؤوس الملأ، طالبين منه بكلّ “فخر واعتزاز” أن يعتذر لأن سعيّد رفع التحدّي وكسب الرهان، مع العلم أنّ هؤلاء الأزلام ظلّوا، منذ أن وجَّهْتُ التحدّي إلى سعيّد قبل أكثر من عامين، “ساكتين، لابدين” كالأرانب، فلا أحد منهم تشجّع على أن يطلب من سعيّد رفع التحدّي وإسكات حمّه الهمامي الذي كرّر طلبه مرّات ومرّات. والسّبب في ذلك واضح فدور هؤلاء يَقْتَصِرُ كلّيا على القيام بما يُطلب منهم، ولا تُتْرَكُ لهم سوى حرّية واحدة وهي حرّية السبّ والشّتم، كلّ حسب ما في أمعائه من عفن. ومن البديهي والحالة تلك ألّا يتساءل هؤلاء الأزلام عن أي “رفع للتحدّي” يتكلّمون وقد جاء ردّ سعيّد بعد أكثر من عامين؟ فما الذي منعه من الردّ في الإبّان والحال أن الأمر لا يتطلّب منه سوى ثوان قليلة لإعادة ثلاث كلمات لا غير: “التطبيع خيانة عظمى”؟ وبالإضافة إلى ذلك، وهذا ما لم ينتبه إليه العديد، فإن سعيّد أضاف في تصريحه الأخير عبارة “في حقّ الشعب الفلسطيني” لعبارته القديمة ليخرج بها من مجال التجريم القانوني المتبوع بعقاب إلى المجال السياسي الذي يتوقف عند الإدانة اللفظية التي نسمعها حتى من أكثر المطبّعين من الحكّام العرب.
إنّ من يريد أن يرفع تحدّيا عليه أن يفعله في وقته، أمّا أن يصمت لمدة أكثر من عامين فمعناه أنه عاجز عن القيام بذلك لهذا السبب أو ذاك. وبالفعل فإن سعيّد أحجم عن الرد في الوقت المناسب لأن تصريحه حول “التطبيع خيانة عظمى” كان لأغراض انتخابية وليس بندا من برنامج للتنفيذ. وهو ما تؤكده الأربع سنوات من حكمه، سواء قبل الانقلاب لمّا كانت السياسة الخارجية، رغم محدوديّة صلاحيّاته، من مشمولاته، أو بعد الانقلاب حين أصبحت كل السلطات بين يديه. فخلال هذه المدة وتحديدا بعد 25 جويلية 2021 عرفت بلادنا مظاهر تطبيع مزرية. ويكفي التذكير ببعض هذه المظاهر التي جرت في أطر رسمية بل باسم مؤسسات رسمية. فقد حضر وزير دفاع قيس سعيّد الاجتماع الموسّع لحلف الناتو المنعقد يوم 26 أفريل 2022 بمدينة “رامشتاين” الألمانية والذي خُصّص لبحث الأوضاع في أوكرانيا، إلى جانب “بيني غانتس” وزير الحرب الصهيوني. هذا أوّلا. وثانيا فقد تبادلت رئيسة حكومة قيس سعيّد، نجلاء بودن، في مؤتمر المناخ المنعقد بشرم الشيخ (مصر) في نوفمبر 2022، حسب وسائل الإعلام التي نشرت بعض الصور، عبارات ودّية مرفقة بابتسامات عن بعد مع رئيس الكيان الصهيوني “يتسحاق هرتسوغ”. وثالثا فقد وصلت في شهر ماي من هذه السنة إلى مطار جربة طائرة قادمة مباشرة من تل أبيب وهي تحمل “حجاجا إسرائيليين” إلى “الغريبة” (جربة) من غير فيزا. وبطبيعة الحال لا أحد يمكنه أن يتصور أن سعيّد ليس على علم بكلّ هذا وهو محتكر كل السلطات ولا شيء يجري دون إذنه أو علمه.
وبالإضافة إلى ما ذكرنا لا بد من الإشارة إلى تصريح قيس سعيد، بعد تطبيع دولة الإمارات مع الكيان الصهيوني، بأنّ “التطبيع مسألة داخليّة” لا “خيانة عظمى” على حساب الشعب الفلسطيني. كما أنه لا بد من الإشارة إلى مصادقة سعيّد في شهر نوفمبر 2022 على البروتوكول المسمّى “الإدارة الكاملة للمناطق الساحلية في المتوسّط” (حماية البيئة البحرية والمناطق الساحلية) المعتمد بمدينة مدريد بتاريخ 21 جانفي 2008. وبذلك أصبحت تونس عضوة في إطار إقليمي واحد مع الكيان الصهيوني علما أن البروتوكول المذكور يفسح المجال لالتزامات متبادلة بين مختلف الدول الأعضاء بما فيها الكيان الصهيوني. وقد جرت العادة أن يتم لزوما التوقيع على الاتفاقيات الدولية بعد نقاشها عبر البرلمانات. ويذكر في هذا السياق أن بن علي لم يمرّر هذا البروتوكول منذ عام 2008 وبقي إلى ما بعد الثورة. ولم يحرز على الأغلبية حين عرض مرتين على البرلمان السابق الذي حلّه قيس سعيّد المرة الأولى في جوان 2020 والمرة الثانية في جويلية 2022 إلى أن جاء قيس سعيّد وصادق عليه دون مناقشة ودون عرضه على مؤسسة تمثيلية.
وفي الأخير فلا أحد منع سعيّد “الحاكم بأمره” بعد الانقلاب من أن يضمّن دستوره الذي كتبه بنفسه ولنفسه وعرضه مباشرة على الاستفتاء دون مناقشة من أي كان، فصلا يجرّم التطبيع أو يعتبره “خيانة عظمى”. كما أنه لا أحد منعه بعد 25 جويلية 2021، من إصدار مرسوم يجرّم التطبيع أو يعتبره قانونا “خيانة عظمى” ومن أن يطلب من وزيرة عدله أن تحيل على القضاء مرتكبي جريمة التطبيع تماشيا مع ما قاله في حواره مع القناة الوطنية في جانفي 2020 بأن “القوانين موجودة” ولكنها لا تطبّق. فما الفرق إذن بينه وبين حركة النهضة التي يناوئها وقد رفضت دسترة تجريم التطبيع في دستور 2014 كما رفضت بمعية حليفها، الباجي قائد السبسي، تمرير مشروع قانون تجريم التطبيع الذي قدمته الجبهة الشعبية؟ فكلاهما يشترك في الإدانة اللفظية للتطبيع وللصهيونية من جهة والرفض العملي، الفعلي، لتجريم هذا التطبيع كما هو حاصل ولو جزئيا في بعض الأقطار العربية (الكويت…) نصرة للحق الفلسطيني وعزلا للكيان الصهيوني على غرار ما فعلت معظم دول العالم مع نظام الميز العنصري بجنوب إفريقيا إلى أن سقط من جهة أخرى.
كل هذه المعطيات تبيّن أن قيس سعيّد غير جاد في مناهضة التطبيع أولا لارتباطه ببعض أنظمة التطبيع التي ساندت الانقلاب (مصر، الإمارات….) وثانيا لمحافظته على نفس منظومة التبعية الاقتصادية والمالية والتجارية والعسكرية مع الامبرياليات الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي تدفع إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني وتضغط به كشرط للدعم. إنّ سعيّد لم يلغ مثلا اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية الموقعة في عهد الرئيس الباجي قائد السبسي عقب زيارته إلى واشنطن في ماي 2015 دون عرضها على البرلمان، والتي تعتبر تونس بموجبها “حليفا أساسيا” أو “مميزا” خارج حلف الناتو، حسب عبارة باراك أوباما. ولسائل أن يسأل لماذا عاد اليوم قيس سعيد إلى عبارته التي أطلقها منذ حوالي أربع سنوات: “التطبيع خيانة عظمى” مع إضافة “في حق الشعب الفلسطيني”؟ ما من شك في أنه أراد التظاهر بأنه “لم يتخلّ عن موقفه”. ولكنّنا لا نعتقد أن هدفه الرئيسي من ذلك هو “رفع التحدّي” كما روّج أزلام الانقلاب. فسعيّد لا نخاله يجهل أنّ “رفع التحدّي” بعد أكثر من عامين فَقَدَ كلّ معنى وسقط بمرور الزمن وأصبح، حسب التعبير الفرنسي، «périmé». وحتى لوكان فكّر في “رفع التحدّي” فذلك بصفة جانبية لا غير. إنّ تفكير سعيّد اليوم وتصريحاته وأعماله وحركاته مركّزة، حسب رأينا، على الانتخابات. ولا يمكن فهم عودته إلى “التطبيع خيانة عظمى” إلّا في هذا الإطار. فهو في حملة انتخابية منذ مدّة وهذه الحملة تكثّفت الآن. وفي هذا السّياق نراه يُفرغ السّاحة من خصومه السياسيّين الواحد تلو الآخر لإزاحتهم من طريقه، ويقوم بتغييرات في الأجهزة والإدارة والإعلام العمومي بما يجعلها “مضمونة” ويكثر من التصريحات التي تدغدغ مشاعر فئات اجتماعية محدّدة وتلهيها عن متاعبها اليوميّة وتظهره بمظهر الحسّاس بمتاعبها وهو الذي عمّقها، كما تظهره بمظهر “المعادي” للاستعمار والهيمنة والصهيونية والمناصر للقضية الفلسطينية وهو الذي فاقم تبعية البلاد وأفقدها مقوّمات السيادة، وخطا خطوات مفضوحة في مسار “التطبيع” ممّا فتح الباب لعديد التخمينات في هذا المجال وخلق بعض المخاوف لدي بعض الجيران.
هنا مربط الفرس. الانتخابات مربط الفرس. وما عدا ذلك فهو ثانوي وجزئي في اللحظة الحالية. وبالطبع إذا نجح مخطّط سلطة الانقلاب فأيّام أصعب في انتظارنا وفي انتظار غالبية الشعب التونسي. وقد بيّنت التجارب أن الشعوب الواعية هي تلك التي تستشعر الكارثة قبل حلولها وتتصدى لها مبكّرا لاجتنابها لا تلك التي تنتظر حلولها لتقتنع بها فتجد نفسها في موقع ضعيف يجعلها غير قادرة على مواجهتها بالكيفية المطلوبة والناجعة.
تونس في 6 أكتوبر 2023