الشارع المغاربي:
“لا أشاطرك الرأي لكنّي مستعدّ للتضحية بحياتي
من أجل أن يكون لك حقّ التعبير عن رأيك”
“فولتير”
أثار النصّ الذي نشرته الأحد الفارط 10 ماي مساندة للمواطنة آمنة الشرقي بعض الجدل. وإذا كنت لم أفاجأ بوابل الشتائم التي أطلقها، كالمعتاد، الذّباب “الألكتروني” مدفوع الأجر التابع للتيارات الظلامية والتكفيرية فإنّ ما شدّ اهتمامي هو عدد من التعاليق الصادرة عن أشخاص يعلنون انتماءهم إلى “الفضاء اليساري والتقدّمي”. وهي تعاليق يعبّر أصحابها إمّا عن امتعاض أو استنكار وفي أفضل الحالات عن لوم: ما دخل حمّه الهمامي في هذا الموضوع “الهامشي والثانوي” ؟ هل هو يريد أن يضع اليسار في زاوية ويُبْقيَه معزولا عن جمهور الناس ؟ ألا يفهم أن هذه القضايا حساسة…؟ ألم يكن الأجدر به أن ينأى بنفسه عن هذه المسائل ويترك شخصا آخر يعبّر عن الموقف… أو يترك أصلا هذه المسائل إلى المثقفين “الذين ليست لهم رهانات سياسية” ؟ إلى غير ذلك من التّعاليق التي إذا دقّقنا فيها نجدها مرتبطة بهاجس واحد، وهو الخوف من التيّارات الظّلامية والتّكفيريّة ومن حملاتها التّشهيرية وما يمكن أن تنتجه من ردّة فعل سلبية من “جمهور الناس” المحافظ وما لذلك من انعكاسات انتخابيّة، رغم ما يفصلنا، مبدئيّا، عن الانتخابات القادمة من سنوات.
إنّ مثل هذه المسائل لا يمكن معالجتها بتسرّع أو من زاوية فكريّة وسياسية ضيّقة، خاضعة لضغط الظرف المباشر، بل لا بدّ من معالجتها بحكمة ومبدئية. فالحادثة المذكورة إذا كان لها من مزية فهي أنّها أثارت جملة من القضايا الفكرية والسياسية المُهِمّة التي ظلّت معلّقة وغير محسومة لا في ثقافتنا الفكرية والسياسية التونسية فحسب، وإنّما أيضا في ثقافتنا العربية الإسلامية بشكل عام. وهي قضايا تهمّ حرّية الإبداع والتفكير والضمير والعقيدة ومن خلالها مبدأ الصّدع بالحقيقة والجرأة على إعلانها وتحمّل مسؤوليتها أمام الجميع. كما تهمّ الموقف من القضايا المبدئيّة وعلاقة المثقف والسياسي بالمجتمع، علاوة على العلاقة بين المثقف والسياسي وسلوك الحزب السياسي الثوري والتقدمي في الانتخابات، وإلى غير ذلك من المسائل التي سنحاول بسطها في هذا النص ضمن أربع نقاط أو أربعة محاور غايتنا من ذلك دفع النقاش والتفكير لأنّنا ممّن يؤمنون إيمانا راسخا بأنّ “المكاسب السياسيّة” التي تحصل بطرق انتهازيّة لا تعمّر طويلا بينما المكاسب التي تتحقّق على أساس فكريّ وسياسيّ واجتماعيّ صلب هي الوحيدة القابلة للصمود في وجه العواصف والمتغيّرات.
أوّلا: هل ارتكبت ناشرة “التدوينة” جريمة ؟
إنّ ما قامت به المواطنة آمنة الشرقي لا يمثل بالمرّة جريمة ولا يدخل تحت طائلة أيّ قانون من القوانين إذ أنّها وزّعت (أو نشرت هذا لا يهمّ) نصّا حول جائحة كورونا يحاكي، من الناحية الفنيّة، سورة قرآنية. والمحاكاة لا تعني التحريف لأن التحريف شيء آخر وهو استعمال نفس النص مع تحريف بعض كلامه بما يؤثّر في معانيه ومقاصده. أمّا المحاكاة فهي نص جديد، بمعان جديدة، ولا يأخذ من النص الأصلي (السورة القرآنية في هذه الحالة) سوى الشكل أو الأسلوب الفنّي مما يعطي النص المبتكر قوة أكثر وحتى تأثيرا أكبر. وقد لاحظ الأستاذ إبراهيم بن مراد، الجامعي والروائي والناقد الأدبي أن نصّ “الكورونا” الذي قامت عليه الدنيا ولم تقعد هو “نصّ أدبيّ خالص قد قصدت به كاتبته إظهار فداحة ما أصاب البلاد من كارثة بسبب هذا الوباء الوافد والاستمداد من النص القرآني وسيلة فنّية جيّدة تُمَكّنها من التّعبير عما يختلج في نفسها من المشاعر” مضيفا أنّه لم يجِدْ في النصّ “أيّ استِنْقَاصٍ من القرآن أو مسّ من الدّين…”.
إنّ مثل هذا الأسلوب ليس جديدا، لا في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة ولا في ثقافات الأمم الأخرى ذات الدّيانات والعقائد المختلفة، كتابيّة كانت أو غير كتابيّة، وقد سُقت في النصّ الذي نشرته مثالين شهيرين على ذلك، أحدهما من الثقافة العربية الإسلامية وهو “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعرّي وثانيهما من الثّقافة الأوروبية المسيحية وهو “الكوميديا الإلهية” لدانتي. ويمكن سوق أمثلة أخرى كثيرة عن محاكاة الشعراء والكتاب للنصّ القرآني. ومن رغب في تفصيل أَوْفَى فَمَا عليه إلا الرّجوع إلى حلال الدّين السّيوطي في مؤلفه “رشف الزلال من السحر الحلال” أو إلى أبي المعري في كتابه “الفصول والغايات” وهي من ذخائر الأدب العربي. ومن ليس لديه الوقت أو الجهد للرّجوع إلى مثل هذه الآثار الثمينة، فإنّني أحيله على مقال للجامعي والشاعر القيرواني منصف الوهايبي نشره بموقع “عرابسك” بتاريخ 11 ديسمبر 2015 بعنوان “الشعراء والقرآن”. وقد أكد الوهايبي في هذا المقال “أن محاكاة النص القرآني قديمة في التراث العربي وأمثلتها وشواهدها أكثر من أن نأتي عليها في (مقال)…”.وقدّم أسماء شعراء عديدين حاكوا القرآن، وركّز بشكل خاص، في مقاله، على الشاعر أبي تمام الذي قال عنه: “في شعر أبي تمّام تقع الآيات والمفردات القرآنية من البيت موقع القافية وبعضها يتخلل القصيدة. على أن الشاعر ينحو بها كلّها منحى واحدا، فقد يُضمِّن الآية بنصّها في بيت وقد يغيره تغييرا طفيفا في آخر لضرورة معنوية أو وزنية في الأعمّ الأغلب…”.
ولا تنحصر محاكاة النصّ القرآني في القدامى فقط. ففي العصر الحديث نجد بيرم التونسي صاحب قصيدي: “سورة السِتّات” و”سورة أربعين سعد زغلول”. وهذان القصيدان يختلفان، عمّا أتته آمنة الشرقي، في أمر مهمّ. فهذه الأخيرة حاكت الشكل لا غير أمّا بيرم التونسي فمحاكاته كانت أعمق ناهيكَ أنّه ضمّن آيات وبدأ إحدى “سورتيه” بعبارة “يس الخ…”. وفي تونس، كما ورد في مقالٍ للروائي، الأستاذ كمال الرّياحي، فإنّ محمود المسعدي كان “أوّل من نحا هذا المنحى في المحاكاة في أعماله الأدبية كالسُدّ و”حدَّثَ أبو هريرة قال…”، بحثا عن البلاغة”. ويسرد الرّياحي أمثلة أخرى من الجزائر كواسيني الأعرج خاصة في روايته “شرفات بحر الشمال”. وعلّق الرياحي على نص “سورة الكورونا” قائلا: “إنّ النصّ الذي نُسِب إلى الفتاة التونسية لا يمكن أن يُجَرّمَ أو تُكَفّرَ بسببه بل يجب التّعامل معه نَقْديًّا إن كان جَدِيرا بذلك…” ( كمال الرياحي: “يس والدستور العظيم …محاكاة النص القرآني في الأدب العربي”، الأحد 10 ماي 2020). ولا يمكننا ألاّ نذكر قبل غلق هذا الباب محمود درويش وقصيده : “أنا يوسف يا أبي…” التي غنّاها مارسيل خليفة وحوكم من أجلها بضغط من قوى ظلامية لبنانية وعربية لكنّ المحكمة برّأته في النّهاية واعتبرت أنّ القصيد إبداع أدبيّ وفنّيّ.
إنّ الغاية من هذا الكلام هو تبيان أنّ ما أتته المواطنة آمنة الشرقي سواء بكتابة نص “سورة الكورونا” أو بإعادة نشره لا يُمثّل جريمة بالمرّة وإنّما هو يندرج ضمن تقليد أدبي قديم. ومن هذا المنطلق فإن الجريمة الحقيقية تتمثل أوّلا في حملات التكفير والتشهير وهتك العرض والتهديدات بالقتل التي تعرضت لها هذه المواطنة التونسية التي لا تعنينا أبدا كيفية تفكيرها ولا مواقفها السياسية ولا نظرتها إلى الحياة … فذلك أمر يخصّها. أما الجريمة الثانية فهي التي ارتكبتها مؤسّسة القضاء التي وجّهت إليها سلسلة من التهم بغاية إلجامها وإرعاب غيرها وإسكاته. إنّ سلوك النيابة العمومية في هذه القضيّة لا يمكن إلا أن يدقّ ناقوس الخطر بالنسبة إلى كل القوى الحية في مجتمعنا. فهو يندرج في سياق ما بعد انتخاباتٍ وصلت فيها إلى دفّة الحكم جماعات تكفيرية معادية للحرّيات ومدفوعة بنزعة انتقامية ثأرية واضحة غايتها تدمير كافة مكاسب تونس الديمقراطية. إن النيابة العمومية التي تحركت “من تلقاء نفسها” وبسرعة غير معهودة في هذه القضية هي نفسها التي لم تتحرّك في قضايا أخطر بكثير وهي نفسها التي تعطّل كشف الحقيقة في جرائم الاغتيالات السياسية وغيرها من الجرائم المرتكبة في زمن الترويكا بقيادة حركة النّهضة وهي التي لا تحرّك ساكنا حيال كل التّهديدات بالقتل المُوجّهة إلى السيّدة آمنة الشّرقي، الخ…
إنّ الجماعات الظلاميّة والتكفيريّة، وهي جزء لا يتجزّأ من ثورة مُضَادّة محافظة عالميّة، محكومة بنظرة رجعيّة إلى الواقع وإلى التّاريخ. فهذه الجماعات ثُبُوتيّة في تفكيرها تنكر قانون التطوّر المستمرّ والدائم الذي يحكم الكون، طبيعة ومجتمعات بشريّة، وتحتكم إلى رؤية دغمائيّة، وُثُوقيّة، مُحَنَّطة تعتبر العالم مجرّد تكريس لفكرة مسبقة وتسطير متعسّف لا جديد فيه ولا تحوّلَ. وهي تقليدية تُكرِّرُ وتجترُّ ما قاله وما قام به “السّلف” في ظرف تاريخي محدّد يختلف عن ظرفنا، ومن ثمّة فهي لا تؤمن بالإبداع والابتكار. وهي أيضا نَقْليّةٌ، تعادي أي اجتهاد وتعتبره “كفرا” و”زندقة”. وأخيرا فهي ماضوية لا تنظر إلى الحاضر والمستقبل إلا من خلال الماضي دون اعتبار لتطور الواقع وإكراهاته الجديدة الخ…، وهي تعود إلى هذا الماضي لا للاستفادة والاعتبار بل لنسخه واستنساخه دون مراعاة لسياقاته وشروطه وهي بذلك تسيء إلى هذا الماضي وطبعا إلى الحاضر والمستقبل، لذلك فإن هذه الجماعات تعتبر كل ابتكار وكل جديد “بدعة”، وهو ما يجعلها تُكَفّرُ كلّ نشاط حرٍّ فيه إبداع أو خلق إنساني وتحاول حصر الحياة الإنسانية في بعض مظاهر التعبّد الشكليّة الأقرب في الغالب إلى الرّياء والمتاجرة، فلا فلسفةَ ولا شعرَ ولا أدبَ ولا مسرح ولا غناءَ ولاَ رَسْمَ ولا سينما ولا فَرَحَ ولا سَعادَةَ بل تبشيرٌ مستمرٌّ بالموْتِ والعذابِ، الخ… كما أنّه لا غرابةَ في أن نجد تلك الحركات والجماعات تعتبر الفترة الكلاسيكيّة العربيّة الإسلاميّة في العهد العبّاسي أساسا، التي شكّلت محْور الحضارة الإنسانيّة في العهد الوسيط، خروجا عن الدّين وعن تعاليم “السّلف الصّالح”، فلا إشارة إليها إلا بالسبّ والشّتم والتّهْجين والتّكفير. ومنْ نافل القول إنّ التّرجمة السّياسيّة لهذا النّمط من التّفكير في مستوى مفهوم الدولة ومؤسّساتها وعلاقتها بالمواطن/المواطنة هي الاستبداد ثمّ الاستبداد ثمّ الاستبْداد ممّا يعني تَجْرِيمًا مُطْلقا لحرّيّة التّفكير والضّمِير والمعتقد والتّعْبير والإبْداع.
وفي الخلاصة فإنّ ما حصل للمواطنة آمنة الشّرقي ليس اعتداء عليها هي وحدها، بل هو في الأساس اعتداء على الحرية ومن ثمّة على كل تونسيّةٍ وتونسيٍّ يرومُ التحرّر.
ثانيا: هل أنّ الموقف من القضايا المبدئية قابل للتأجيل : “موش وقتو”؟
بعد أن بيّنا أن ناشرة “سورة الكورونا” لم ترتكب لا هي ولا مبدعة هذا النص جريمة، أمرّ إلى مسألة ثانية في غاية من الأهمّية. إن البعض ممن ينتقدونني يعترض على ما كتبت من منطلق أن الوقت ليس سانحا للخوض في هذا الأمر: «موش وقتو”، مُعلّلا ذلك بهيمنة حركة النهضة وحلفائها على السلطة وعلى المشهد السياسي عامّة وبالمزاج الشعبي الذي يجنح إلى المحافظة، ذاهبا إلى أنّ أي موقف، حتّى لو تعلّق بمسألة مبدئية، سيستغلّ للتشويه والتشهير و”اليسار ليس في حاجة إلى ذلك”. وفي الحقيقة فإنّ عبارة “موش وقتو” أصبحت شائعة منذ مدّة في ربوعنا، وهي ذريعة بالنسبة إلى بعض “التقدمييّن والديمقراطيين”، وحتّى “الثوريين”، لكي لا يدلوا بدلوهم في بعض القضايا التي تثار والتي لها علاقة من هذه الزاوية أو تلك بالأديان عموما وبالإسلام خصوصا. ففي فترة سابقة أثيرت مسألة المساواة بين النساء والرجال في الميراث في علاقة بمشروع “مجلة الحريات الفردية والمساواة” التي كان طرحها الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في سنة 2017. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية أصبح البعض يتحاشى طرح هذه المسألة في برنامجه، بل يتجنّب الإجابة عنها كلّما طرح عليه السؤال في وسائل الإعلام بذريعة أنّه “موش وقتو”. واليوم تثار مسألة حرّية الإبداع والضمير أيضا، على الرّغم من أنّنا بعيدون عن الانتخابات بسنوات فإنّ البعض يجد الحجّة للقول “موش وقتو”.
إنّ القضايا المبدئيّة حين تثار لا يمكن تأجيلها ولا يمكن لكل من يزعم أنّه ثوريّ/ـة أو ديمقراطيّ/ـة أو تقدميّ/ـة متماسك أن يتهرّب من الجواب عليها لأنّ المسائل المبدئيّة لا تخضع لا لموازين قوى ولا للحسابات السّياسويّة الضيّقة ولا للمساومة أو التّنازل ولا للتّأجيل. فحين تثار قضية من القضايا خاصة إذا كان المعني/ة فيها مهدد/ة في حريته/ها وفي سلامته/ها الجسدية لا يمكن دسّ رأسك كالنعامة في التراب أو الادعاء بأنك “ستصدر موقفا في الوقت المناسب”. لقد قال لي صديقي الشاعر، جمال قصودة، صاحب موقع “أنتلجنسيا”، في رسالة خاصّة : “ومكمن الجرأة (عند الإنسان) أن تصدر المواقف في الأوقات الحاسمة، ولا توصف المواقف بالمواقف إلا لكونها وقْفًا للحظتها الحاسمة”. و”مخّ الهدرة” كما نقول بدارجتنا : إمّا أنّك مع الحرّية وإما أنك ضدها. لا وجود لنصف حرية كما أنه لا وجود لنصف مساواة. فإمّا أن تكون مع المساواة أو أن تكون ضدها. وإذا حاولت أن تبقى في الوسط، ساق مع الحرية وأخرى مع الاستبداد فذلك معناه أنك انتهازي، غير مبدئي وغير متماسك، وأنك لست جديرا بأن تكون مناضلا/مكافحا أو تكوني مناضلة/مكافحة سواء من أجل الحرية أو من أجل المساواة، وبالتالي من أجل الكرامة الإنسانية. وبطبيعة الحال فإنّ الصدع بالموقف في لحظته ودون حسابات انتهازية شيء وتحقيقه شيء ثان. فإذا كان الأول رهين الذات فإن الثاني يخضع لموازين القوى فيتطلب عملا توعويا وتعبئة قوى من أجل تغيير تلك الموازين وفرض الموقف وتشريعه وتكريسه.
إن الحادثة الأخيرة لا يمكن تجاهلها. نحن لم نثرها بل فرضت علينا بحكم ردة فعل الجماعات الظلامية والتكفيرية وتحرّك النيابة العمومية وتوجيه ستّ تهم كاملة للمواطنة آمنة الشرقي. فهل نعلن موقفنا أم نسلك سلوك النعامة ونتجاهل الأمر؟ هل نسلك سلوكا ثوريا مبدئيا ام نسلك سلوك الجبناء والأنذال الذين تخيفهم ردة فعل أعداء الحرية أو دعوة من النيابة العمومية أو حتى ردة فعل أقسام من المجتمع، بما فيها أقسام من الشعب ذاته واقعة تحت تأثير القوى الرجعية الإيديولوجي؟ لقد أثارت قضية آمنة الشرقي تعاطفا كبيرا في بلادنا وهو أمر يثلج الصّدر ويؤكد أنّ البلاد “مازال فيها الخير” وأن معدن بناتها وأبنائها من ذهب. لقد تحركت جمعيات ومنظمات وأصدرت بيانات كما دارت عرائض وقّعها الآلاف من الناس المتمسكين بحريتهم وحقوقهم وحبّر العديد من المثقفين الأحرار (من بينهم رفاق لي في الحزب) مقالات للتنديد والتضامن. فهل من ثورية وتقدمية في ملازمة الصمت والادعاء “أنّو موش وقتو” أو أن المسألة هامشية ؟ وإذا كان الموقف “موش وقتو” في اللحظة الحاسمة فمتى سيكون “وقته” يا ترى؟ ليكن المرء على يقين بأن هذا الوقت لن يحين أبدا إذ سيقال في كلّ مرة : “موش وقتو”، إلى أن يفرض الظلاميون والتكفيريّون منطقهم ومقارباتهم وسلطانهم وتسلّطهم على المجتمع.
وبالإضافة إلى ذلك هل فكّر الذين يقولون “موش وقتو” في عاقبة مثل هذا السلوك ؟ إنه يعني أولا وقبل كل شيء الصمت أمام القمع الذي تتعرض له مواطنة تونسية بسبب نص ليس فيه لا مس بالقرآن ولا تحريض ولا أي شيء من سلسلة التهم الموجهة إليها. وهو يعني ثانيا التنازل للاستبداد وتشجيعه على المضي قدما وفسح المجال له لاسترجاع ما افتك منه من مكاسب ومن مساحات حرية، وهو ما سيدفعه إلى مواصلة اعتداءاته على حرية الإبداع وتوسيعها مما سيعود بالوبال على الجميع، بما في ذلك على جماعة “موش وقتو”. وبعبارة أخرى فإن التضامن مع المواطنة آمنة الشرقي هو انتصار لأنفسنا ولحريتنا نحن، إذ أن إيقاف أعداء الحرية عند هذا الحد سيمنعهم من التقدم. وهو ما لا يفهمه قصيرو النظر.
وأخيرا فليست هذه الثّقافة، ثقافة “موش وقتو”، هي التي تربّيّنا عليها في اليسار التونسي، وخاصة في حزب العمال الذي نازل الدكتاتوريّة كما نازل التيارات الظلامية منذ اليوم الأول من تأسيسه، وطرح في خطه وفي برنامجه قضايا كبرى مثل علمانية الدولة وحرية الضمير والعقيدة وحرية التعبير والمساواة التامة بين الجنسين في الحقوق، دون خوف ولا رهبة. فيا أيها “الديمقراطيون” والتقدميون” و”الثوريون” الذين لا تعنيكم قضية آمنة الشرقي وتخافون من اتخاذ موقف منها، كونوا على الأقل في مستوى الطاهر الحداد، الزيتوني، ” الحامّيّ”، ابن الشعب ونصير الطبقة العاملة، الأبي الذي جرُؤَ في عام 1930، حين كانت البلاد ترزح تحت نير الاستعمار والشعب التونسي تنخره الأمية في غالبيته الساحقة، جرُؤَ على المطالبة بتحرير المرأة التونسية ومنحها حقوقها، بما فيها المساواة في الميراث، حتى تكون مواطنة فاعلة في تونس الجديدة، المحرّرة من ربقة الاستعمار وعملائه المحليين، ولم يفكر في ردة فعل شيوخ الظلام الذين باعوا تونس للمستعمر، ولا في ردة فعل قطاعات واسعة من شعب واقعة تحت تأثير أولئك الشيوخ وزورهم وبهتانهم. كونوا على الأقل في مستوى جرأة “رهين المحبسين” أو الجعد بن درهم أو ابن المقفع أو الحسين بن منصور الحلاج او ابن رشد أو شيوخ الاعتزال … خذوا المثال عن غاليلي “الكاتوليكي المتديّن” الذي أجبرته محاكم التفتيش على التراجع عن مبدأ دوران الأرض وإعلان توبته حتى لا يحرق حيّا ورغم ذلك همس وهو خارج من المحكمة: “ومع ذلك فهي تدور”… فالحياة واحدة فليعشها المرء بكرامة والموت واحد فليكن بعزّة وشهامة.
ثالثا: في دور السياسي وعلاقته بالفكر
نصل إلى النقطة الثالثة. وهي تتعلّق بدور السياسي في المجتمع. لقد أصبح من المعتاد، خاصة في العقود الأخيرة، فصل السياسي عن المثقف والمفكر. وهو ما دفع البعض إلى القول إنه كان من الأفضل أن يسكت حمه الهمامي ويترك التعبير عن مساندة السيدة آمنة الشرقي للمثقفين ولمنظمات المجتمع المدني الحقوقية والنسوية، الخ… لأنهم “غير منخرطين في العمل السياسي” وبالتالي غير معنيين مباشرة بالمنافسة السياسية ولا يضرهم، في النهاية، التعبير عن أي موقف. كما أنه هو الذي دفع بالبعض إلى القول إنه كان على حمّه الهمامي أن يختار بين دور المثقّف وبين دور السياسي، بل إنّ البعض لم يتردّد في القول إنّ حمه الهمامي لا يصلح أن يكون سياسيا بتعبيره عن مثل هذه المواقف المبدئية في قضايا إشكالية يمكن أن تنعكس عليه سلبا في وسط الرأي العام الشعبي، وهو يذهب حتى إلى الزعم بأنني خسرت الانتخابات الرئاسية لأنني طرحت في البرنامج نقطة المساواة في الميراث، الخ… وما من شكّ في أنّ مفاهيم للسياسي ودوره وللمثقف ودوره، أيضا، تختفي وراء هذه الأقاويل. وهي مفاهيم محل خلاف جدي بل هي في رأيي بعيدة كل البعد عن المفاهيم الثورية التي نؤمن بها.
إن هذه المفاهيم الموجودة حتّى في أوساط “يسارية” و”تقدمية” تعتبر أن من “الصفات المحمودة “للسياسي أن يكون لامبدئيّا، نفعيّا (براغماتيّا)، انتهازيّا، وحشا لا أخلاقَ له، محترفَ كذبٍ، لا علاقة له بالتّفكير وبالقضايا المبدئية، لا يتحدث إلا في السياسة (الحرفي)، “بلعوطا” و”كَمْبَانًا” بلغتنا الشعبية، يخفي أفكاره الحقيقيّة كما يخفي حقيقته أمام الناس (ثقافة التقية التي تمثل جزءا من “هويتنا” السياسية)، يصرح بما لا يؤمن به ويخفي ما يؤمن به وتقاس “حنكته” بقدرته على مغالطة الشعب، لا يمس المسلمات حتى لو كانت ضارة بالشعب بل يتظاهر بتبنيها ويعمل على ترسيخها لكسب ود الجمهور. كل ذلك باسم واقعية كاذبة وبراغماتية انتهازية، عفنة. ومن البديهي أننا لا نتبنى هذا المفهوم الرجعي الذي يعكس درجة الانحطاط التي وصلتها الرأسمالية اليوم، في العالم وفي بلادنا أيضا، وانعكست على مفهوم السياسة والسياسيين، وسمحت بوصول شخص مثل ترامب إلى الحكم على رأس أقوى دولة رأسمالية في التاريخ وفي العالم. لقد دمرت الليبرالية الجديدة المتوحشة كل المبادئ والقيم الأخلاقية الإنسانية وحولت كل شيء إلى بضاعة كما حولت الإنسان إلى مجرد “روبو” استهلاك، لا يفكر إلا في إشباع غرائزه البدائية وينأى عن التفكير في كيانه ومصيره ودوره في المجتمع الذي يعيش فيه تاركا إدارة شأنه بين يدي قلة قليلة من ممثلي الطغم المالية المتوحّشة والمتجبّرة.
إن السِّياسي/ة الثّوري/ة، التقدّمي/ة، لا يمكن أن يكون في نظرنا إلاّ صاحب/ة تفكير ومبادئ بالضّرورة ومن واجبه/ـها أن يتكلم/ تتكلم قبل أن يتكلّم الآخرون حين يتعلق الأمر بقضايا مبدئيّة وهو/وهي مطالب/ة من موقعه بأن يقول الحقيقة، كل الحقيقة، للجماهير لا أن يخدعها ويغالطها… ويسلك سلوك النّفاق المعروف لدى الحركات الظلامية والتكفيرية باسم التقيّة، بل من واجبه أن ينقد صراحة الأفكار الخاطئة التي يحملها جمهور الناس ويشرح لهم ما تلحقه بهم تلك الأفكار من مضارّ. إن الطبقة العاملة وباقي الطبقات والفئات الكادحة والشعبية، في المدن والأرياف، تقع تحت تأثير الأفكار السائدة في المجتمع وهي أفكار الطبقات المهيمنة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، تستعملها لتضمن بها سيادتها على العقول ومن ثمة سيادتها على ثروات المجتمع. وإن إحدى الأدوات التي تستعملها هذه الطبقات تتمثل في توظيف الدّين والعادات والتقاليد لتبرير سياستها وترسيخ هيمنتها وتشويه وعي الجماهير وتقسيمها وتعبئتها حول قضايا “هوويّة” هامشية غير قضاياها الحقيقية، على غرار ما فعلت حركة النهضة و”أخواتها” منذ وصولها إلى الحكم. فقد غطت على سياساتها الاقتصادية والاجتماعية وعلى فسادها وعلى تخريب الاقتصاد وإهدار المال العام وضرب الحريات، بالدين. إن الحزب السياسي الطليعي والثوري الحقيقي لا ينبغي، بأي شكل من الأشكال، أن يتذيل للجمهور وأن يجاري أفكاره، بل عليه أن يقوم بدوره القيادي، التربوي، التنويري إذا كان حقا يريد تغيير الواقع، لأن جمهور الناس لن يلتف حوله إلا إذا تغيرت عقليته. وفي هذا السياق على السياسي/ة/ الثوري/ة، التقدمي/ة البحث عن الوسائل والأساليب التي تمكنه من ذلك. وهو ما يتطلب منه معرفة دقيقة بالحالة الذهنية للناس وبالوسائل والطرق الأمثل للوصول إليهم وإقناعهم مع الربط بمشاغلهم المباشرة الحياتية التي تمثل مع غيرها من المشاغل ذات الطابع الفكري والسياسي كلاّ لا يتجزّأ. ولكن ذلك لا يمكن أن يدفع به/ها، بأي حال من الأحوال، إلى خداع الناس والكذب عليهم وعدم نقد المفاهيم والتصورات التي يحملونها. وفي كلمة فإن السياسي/ة الثوري/ة، التقدمي/ة حامل مشروع تغيير متكامل وليس بائع بضاعة يريد أن يحقّق بها ربحا آنيّا على حساب النّاس. إنّ ما يجهله البعض، ويتجاهله البعض الآخر، هو أنّ معظم كبار/كبيرات السّاسة الذين قاموا/قمن بأدوار كبيرة في التّاريخ، مثقّفون/مثقّفات ومفكّرون/مفكّرات وفيهم من أنْتَجَ أدبا وفلسفة وأصحاب/صاحبات مشاريع تغيير وتركوا/تركن أثرا في مجتمعاتهم/هن.
ولا يمكن أن ننهي هذه الفقرة دون التعريج على مفهوم المثقف عند البعض. فما يفهم من دعوتهم إلى ترك الخوض في قضايا ذات صلة بحرية الفكر والضمير والإبداع والتعبير، إلى “المثقفين” يوحي بأنهم يرون في المثقف شخصا هامشيا، غير ملتزم وبعبارة أخرى غير معني بالشأن العام ولا “يحاسب” على مواقفه. وهو عين الخطأ إذ أن المثقف العضوي هو عكس ما جاء في هذا التصور. فالمثقفون والمفكرون الكبار، رجالا ونساء، كانوا وما يزالون مناضلين/مناضلات من الحجم الثقيل في مجتمعاتهم، ملتصقين بالشأن العام، فيهم من ينتمي إلى أحزاب، وفيهم من لا ينتمي وظل مستقلا، وفيهم من شارك في الحكم وفيهم من لم يشارك الخ… ومن النافل التذكير بأن مفكرين عظاما كانوا أصحاب نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية لتغيير مجتمعاتهم بل المجتمعات البشرية قاطبة. ويمكننا أن نذكر على سبيل المثال ماركس مؤسس النظرية الاشتراكية العلمية، الفيلسوف والشاعر والحقوقي، الذي كان أيضا مناضلا سياسيا ميدانيا ومؤسسا للأممية الاشتراكية الأولى ومحاربا فذّا لكافة صنوف الاستبداد والاضطهاد المسلطين على العمال. وإلى ذلك فإن المثقف/المفكر ليس بمنأى عن “المحاسبة”، إذ كم من مثقف أو مفكر دفع ثمن مواقفه غاليا، استشهادا أو سجنا أو نفيا (حسين مروة ومهدي عامل من لبنان وفرج فودة من مصر وناجي العلي، حنظلة، الفلسطيني الخ…). وحتى في بلادنا فإن عدد المثقفين (والإعلاميين) الذين تعرضوا للتهديد بالقتل من الجماعات الظلامية التكفيرية يضاهي، إن لم نقل يفوق، عدد السياسيين. لذلك فإنّ محاولة الفصل بين الفكري والثقافي، من جهة، والسياسي من جهة أخرى أمر غير مقبول حتى وإن وجدت خصوصيات لهذا أو ذاك.
وفي الخلاصة فإن المجتمعات لا تتطور دون صراع أفكار بين القديم والجديد، بين الرجعيّ والتقدّميّ، الخ… وهذا الصّراع ينبغي أن يخاض كما يخاض الصراع في الواجهات الأخرى السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنقابيّة، الخ… ولا يمكن القول إنّ هذا الموضوع أو ذاك لا يعنيني … أو أنّه هامشيّ أو أنّه محرج لليسار. فالسّياسي/السّياسيّة الثوْرِي/ـة، التقدميّ/ـة مَعْنِيّ/ـة بكلّ واجهات الصراع في المجتمع. فقضيّة الحرّيات الفرديّة والعامّة ليست بمعزل عن الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، كما أنّها ليست أقلّ أهمية منها ولا يمكن السقوط في بعض المواقف الرجعية التي أصبحت من اختصاصات حركة النهضة وأخواتها، إذ كلما أثيرت مسألة لها ارتباط بحرية فردية أو بحق من الحقوق، خاصة حقوق النساء، إلا وصرخ أتباع تلك الحركة وأخواتها : “لماذا تثيرون هذا المسائل في حين أن الأولية لقضايا الفقر والتشغيل، و…و…و… و…”، أولا للتهرب من مناقشة الموضوع، وثانيا لإثارة قطاعات من الرأي العام ضد المطالب/ة بتلك الحرية أو ذلك الحق، مع العلم أن هؤلاء الذين يتشدقون بحقوق الطبقات والفئات الكادحة والفقيرة هم أنفسهم الذين يحكمون البلاد وهم بالتالي المسؤولون المباشرون عن فقر تلك الطبقات والفئات وبؤسها. وهو ما يؤكد الحقيقة التالية : إنّ من يقمع الحريات الفردية والعامة هو نفسه الذي ينتهك حقوق الشعب الاقتصادية والاجتماعية، لأن الاستبداد السياسي ليس شيئا مجردا أو معلقا في السماء، بل هو الإطار الواقعي، الملموس الذي يتحقّق فيه الاستغلال. وبالمقابل فإن المشروع الذي يطمح إلى القضاء على الاستغلال وإلى تمكين مختلف طبقات الشعب وفئاته من حقوقها الاقتصادية والاجتماعية، هو الذي يوفر لها الإطار السياسي الذي تمارس فيه حقوقها السياسية وتتمتع بالمساواة والكرامة لأنه لا يدافع عن مصلحة فئة استغلالية، رجعية ضيقة، بل عن مصالح غالبية المجتمع وهو ما يجعل أصحابه/صاحباته لا يخافون الحرية والحقوق، بل يسعون إلى تكريسها وتوسيعها وتعميقها لأن لا مصلحة لهم تقتضي منهم حكم الناس بالاستبداد.
رابعا: السّياسي الثّوري، التقدّمي والانتخابات
لنواصل ونقتحم هنا النقطة الرابعة المتعلقة بالانتخابات. فما من شكّ في أنّ أحد أهمّ الدّوافع لانتقاد الموقف الذي عبّرت عنه تضامنا مع المواطنة آمنة الشرقي هو الهاجس الانتخابي. فقد خلّفت الهزيمة الانتخابيّة التي مُنِيَ بها اليسار التقدّمي في الانتخابات الأخيرة مرارة كبيرة انعكست في العديد من الحالات على معنويّات المناضلات والمناضلين. ولكن عوض البحث عن الأسباب الحقيقية لهذه الهزيمة، والوقوف عند ما هو موضوعي، خارج عن نطاقنا، وخاصة عند ما هو ذاتي، مرتبط رأسا بأخطائنا ونواقصنا نحن، كأحزاب وتنظيمات وأفراد، ومنه أساسا ضعف انغراسنا وسط الطبقات والفئات الكادحة والشعبية، وتراجع عملنا التوعوي والتربوي في صفوفها، مما تركها فريسة لصنوف من الرجعيين والشعبويين الغوغائيين، والإعداد مباشرة للنهوض من جديد، اتجه البعض نحو مزيد الانكماش، بل نحو التراجع واجتناب المواجهات الفكرية والسياسية الحادة، ظنا منه أن التنازل للقوى الظلامية والرجعية في قضايا مبدئية سيقربه إلى الشعب أو يخفّف عنه حملات التشويه التي تشنّها باستمرار القوى الظلاميّة والتكفيريّة والرجعيّة على أنصار/نصيرات الحرّيّة والتّقدّم والعدالة الاجتماعيّة.
ما من شكّ في أنّ القوى الثوريّة والتقدمية معنية بالانتخابات، حالما تتوفر الشروط الدنيا التي تجعل منها انتخابات ديمقراطية، وهي معيار لقياس مدى تأثيرها ووزنها في المجتمع، وهي، في الوقت نفسه، وسيلة، في صورة كسب انتصارات، لخدمة الشعب وتحقيق مكاسب له وفقا لما تُتِيحُه موازين القوى. ولكن لا بد من الإجابة عن سؤال مركزي : كيف تذهب الأحزاب الثورية والتقدمية إلى الانتخابات ؟ هل تتجه إليها بمشروع وتسعى إلى إقناع أكثر ما يمكن من الناس به وفي ذهنها إنضاج الشروط الموضوعية والذاتية للثورة ؟ أم تتّجه إليها بعقلية انتهازية، تجعل من الانتخابات هدفا أو استراتيجيّة في حدّ ذاتها: “المهم نِتْعَدَّى…المهمّ ننجح”. وهو ما يقود فعلا إلى التنازل في البرنامج عن قضايا مبدئية وأساسية بذريعة أن مزاج الناخبين “غير مواتٍ”. وهو ما عشنا بعض تجلّياته في الانتخابات الأخيرة، الرئاسية والتشريعية، حين حذفت معظم الأحزاب “الديمقراطية” من برامجها الانتخابية بند المساواة التامة بين الجنسين بما في ذلك في الميراث خوفا من ردة فعل الناخبين “المحافظين”، أو حين تجنّبت أحزاب أخرى الخوض في مسألة علمانية الدولة وفصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين إلى غير ذلك من الأمثلة التي تهم النواحي الوطنية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي الحقيقة فنحن لسنا أمام ظاهرة محلية، بل نحن نعيش ظاهرة عالمية ما انفكت تنعكس مثلها مثل العديد من الظواهر الأخرى على مجتمعنا وعلى الممارسة السياسية فيه. لقد حوّلت الطّغم الماليّة البورجوازيّة الانتخابات إلى عمليّة تَحَيّلٍ عامّة بشكل سافر ومفضوح ووقح. وهو مظهر من مظاهر أزمتها وأزمة ديمقراطيتها التمثيلية التي ما انفكت تلتهمها الحركات الشعبوية، مستغلّة تعفّنها وفسادها وشكليّتها التي جعلت من مؤسّساتها مؤسّسات غريبة غرابة تامة عن غالبية المجتمع. لقد أصبحت الانتخابات اليوم مجرد عملية اتصالية، تسويقية (ماركيتينغ) لا تختلف عن أي عملية تسويق تجارية، تصرف فيها أموال ضخمة لتسويق البضاعة المعنية باستعمال الغش والخديعة والمخاتلة. ومن الطبيعي أن تغيب مناقشة البرامج والمشاريع في مثل هذه العملية، وتترك لما بعد الوصول إلى الحكم حيث يفاجأ “الجمهور” بوقائع وأفعال لا علاقة لها بالبضاعة التي سٌوقت له. وقد كان لهذه “الموضات” الانتخابية، التي دشّنها بشكل خاص الإيطالي “برلسكوني”، تأثيرها في العالم أجمع، بما في ذلك في بلادنا التي كشف فيها في الانتخابات الأخيرة عن أكثر من فضيحة لأطراف صرفت بشكل غير قانوني وفاسد المليارات على شركات إشهار و”لوبيات” أجنبية لتلميع صورتها والتأثير في الرأي العام لكسب الانتخابات بقطع النظر عما تخطط له من سياسات معادية للشعب والوطن.
وفي الحقيقة فإن الحركات والقوى اليساريّة والتقدمية لم تبق في منأى عن هذه الأساليب الانتخابية “الجديدة” التي تعبر عن أزمة، أكثر من كونها تجديدا أو إبداعا، إلاّ إذا اعتبرنا الكذب والتزوير والتشويه وإخفاء الحقيقة عن الناخبات والناخبين والتلاعب بعقولهم تجديدا وإبداعا. ويكمن وجه تأثير تلك الأساليب في الحركات والقوى اليسارية فيما يبرز من مظاهر تردد في المواقف السياسية وأحيانا في إعطاء الأولويّة للجانب الاتّصالي الشكلي على حساب المضمون، وفي تحديد المواقف حسب “أهواء” الجمهور ومدى قبوله بها (هذي باش تضرنا في الانتخابات…) وليس حسب صحتها وسلامتها وأهميتها في التقدم بعموم الشعب نحو تحقيق تحرره من كافة أشكال الاستلاب المادي والروحي. ومن هنا يبدأ التنازل، إذ عوض تكثيف النشاط صلب الجماهير وإبداع ما يلزم من طرق اتصالية لتطوير وعيها وكسبها لمشروع التغيير الثوري في مختلف أبعاده، يقع الاتجاه نحو الحلّ الأسهل وهو “تعديل” المواقف وفق ما يرضي في الأخير القوى الطبقية المهيمنة فكريا وسياسيا وماديا على المجتمع والانخراط في منظومتها (السيستام) مقابل فتات انتخابي قد يأتي وقد لا يأتي.
إن السّياسيّ/ـة الثّوريّ/ـة يدافع/تدافع أولا وقبل كل شيء عن مشروع لا عن موقع أو منصب وبالتالي عليه/ـها أن يبذل/تبذل كل الجهد لإقناع جماهير العمال والكادحين بمشروعه/ـهـا ليقع انتخابه/ـها على أساسه لا أن يتبع/تتبع الطرق الملتوية لأعداء الشعب ومضطهديه لكسب موقع أو مواقع. وهو ما لم نقم به بالشكل المطلوب طوال السنوات الخمس التي تلت انتخابات 2014، فلم نحافظ على مكاسبنا ولم نراكم عليها وعلى ما حققناه من مكاسب في الواجهات الأخرى لتطوير المسار الثوري وتعميقه لتغيير موازين القوى وخلق الشروط المناسبة لتحقيق أهداف الثورة ووضع حدّ لحكم “الكمبرادور” بمختلف فئاته ولوبياته ومافياته، وانزلقنا عديد الانزلاقات في مواقف خاطئة أو دون ما هو مطلوب منا في اللحظة الحاسمة. وهذا ما ينبغي الانكباب عليه في التّصحيح. فإذا رُمْنا نجاحا في معركة انتخابية أو تحقيق “شعبية” فليكن ولكن على أساس مواقفنا الثورية والتقدمية التي تخدم الوطن والعمال والكادحين والشعب عامة وتعبّد طريق تحرّره، وليس على أساس التنكر لتلك المواقف، ومنها حرية الفكر والضمير والعقيدة والتعبير، التي تمثّل الضمان الحقيقي لممارسة جماهير الشعب معتقداتها بكل حرية، مع علم أنّنا كنّا في حزب العمال ومازلنا في الصفوف الأمامية للدفاع عن حق هذه الجماهير في ممارسة شعائرها الدينية بعيدا عن أيّة وصاية من الدولة أو من الحركات الظلامية والتكفيرية نفسها.
إنّ المكاسب الانتخابية والسياسية التي لا تبنى على “الصحّ”، أو التي لا يتمّ تدعيمها وتطويرها بهدف إنضاج ظروف الثورة، تبقى مكاسب ظرفية قابلة للتلاشي. أما “الشعبية” فهي بدورها تخضع للمعايير نفسها فإمّا أن تستند إلى مواقف مبدئية وبرامج ثورية وتقدمية، وإلا فإنها تكون شعبية زائفة. أفلم يكن زعيم النازية الألمانية أدولف هتلر يحظى بشعبية كبيرة؟ أفلا تبيّن تلك الشعبية فداحة الطريق الذي سلكته قطاعات واسعة من الشعب الألماني التي منحت هتلر ثقتها؟ ألا يُبيِّن ذلك أن الشّعوب يمكن أن ترتكب حماقات فظيعة، في وقت من الأوقات، ضدّ مصلحتها وضدّ مصلحة الإنسانيّة قاطبة؟ ألمْ يُنْصف التّاريخ تلك الأقلّيّة من الشيوعيين والاشتراكيين والتقدميين التي واجهت هتلر وواجهت وعي شعبها الزائف ودفعت الثمن غاليا في محتشدات النّازية ؟
في حديث لي أخيرا مع رفيقي وصديقي الشّريف فرجاني، الجامعي والمفكّر، عن الانتخابات وعمّا آلت إليه في الوقت الحاضر، ذكّرني بموقف سياسي فرنسي، من اليمين، ميشال نوار، من التّنازلات والتّحالفات الانتخابيّة التّي قادت اليمين اللّيبرالي التّقليدي إلى التحالف مع اليمين المتطرّف العنصري والفاشي: “من الأفضل للمرء أن يخسر انتخابات على أن يخسر روحه”(mieux vaut perdre une élection que perdre son âme ). وقد ذكّرني هذا الكلام بموقف كارل ماركس، من “الشعبية” (popularité ). لقد كان الرجل يلعن الشعبية التي تنبني على مجاراة “الجمهور” في أفكاره الرجعية التي كان يرى فيها نتاجا لتأثير الطبقة المهيمنة الإيديولوجي، وكان يعتبر إعلان الحقيقة من أهمّ خصال المثقّف والمفكّر والمناضل النزيه وهو ما جعل “ولهم ليبكنخت”، الاشتراكي الألماني الذي عاصر ماركس يقول عنه في مذكراته: “ماركس لم يعرف عبادة أخرى سوى عبادة الحقيقة”. وحين كان يقال لماركس إنه أكثر شخصية “مكروهة” في لندن، لم يكن ذلك يغيظه، بل كان يرى فيه تعبيرا عن حقد البورجوازية الأنجليزية عليه، لأنه كان يضع أسس النظرية التي ستقوّض أركان الرأسمالية وتجرّد البورجوازية من السيطرة على رقاب العمال والكادحين وتزيحها من مسرح التاريخ إن عاجلا أو آجلا. وقد جاء في رسالة وجهها كارل ماركس في 10 نوفبر 1877 إلى “ولهم بلوس” الذي أثار معه موضوع “شعبيته” و”شعبية” رفيقه انجلس ما يلي: “…أنا “لا أغضب” (كما يقول هينه في قصيدته الثامنة عشرة، “حلقة “الفاصل الغنائي”) وكذلك أنجلس. فكلانا لن يدفع وإن متليكا عتيقا واحدا من أجل الشعبية”.
وفي الختام: كلمة شكر
هذه جملة من الأفكار التي خامرتني وأنا أقرأ أو أسمع بعض الانتقادات التي عقبت نشر النصّ الذي عبرت فيه عن التضامن مع المواطنة آمنة الشرقي. ولكنّني لا أريد أن أختم هذا الردّ قبل التعبير عن شعور غمرني هذه المدة…كم سعدت بموقف رفاق لي من جيل السبعينات… كان جمعني بهم النضال والسّجن وجرأة رهيبة على الدفاع عن كرامتنا، نحن وبقية رفاقنا الذين كانوا معنا في السّجن بالطبع … لم يكن، على صغر سنّنا، يخيفنا شيء حتّى ونحن بين أيدي جلاّدينا وسجّانينا … وما يزال يجمعني بهم شيء في غاية الأهمية وهو أننا لم نخسر، كما قال الفرنسي ميشال نوار، أرواحنا وما زلنا على العهد نكافح كلّ بما له من قوة وجهد وفي المجال الذي اختاره… كم سعدّتّ بالاتّصال بالشريف فرجاني وفتحي بلحاج يحيى والصّادق بن مهنّى ومحمّد الخنيسي وغيرهم … وبالنّصائح والاقتراحات التي يقدّمونها إليّ كلّما طلبت منهم رأيا في نصّ أو مؤلّّف … وكم سعدتّ أيضا بالاتّصالات المستمرّة بيني وبين رفيقي “المعلّم” كما كانت تناديه راضية، أحمد المانسي الذي يقرأ ما أكتب بانتباه شديد ويبلّغني ملاحظاته كتابة أو مشافهة… ولا يمكنني أن أنسى “شيخي الثقافة” الوفيين منير فلاّح ومنيرة يعقوب والصّديق الصدوق علي بنجدّو … والمثقف الشاب الذي ولد يوم 4 جوان 1975 المناسب لنقل رفيقاتي ورفاقي من العامل التونسي من زنزانات الداخلية إلى السجن المدني بتونس… وأقصد هنا الجامعي والباحث نادر الحمّامي الذي تروقني محاورته لدقّته وذكائه وحرصه على سلامة اللغة … إلى كل هؤلاء وإلى رفيقاتي ورفاقي في حزب العمال، سندي الدائم، وإلى رفيقاتي ورفاقي من أقطار مغاربية (معاد الجوحري وعبد الله الحريف خاصة من المغرب) وعربية وإفريقية ومن العالم الذين يتابعون نضالنا في تونس بأدقّ تفاصيله ولا يبخلون علينا بملاحظاتهم، ألف تحية وألف شكر في هذه اللحظات التي يتكالب فيها الفكر الرّجعيّ الظلاميّ والشّعبويّ على وطننا وشعبنا.
تونس في 16 ماي 2020
__________