الشارع المغاربي: في بداية شهر جوان الحالي تزامن حدثين هامين مرا مر الكرام، إذا ما استثنينا قلة تتابع عن كثب مجرى العلاقات التونسية الأوروبية، رغم خطورة المؤشرات التي تحملها على مستقبل البلاد. الحدث الأول تعلق بزيارة رئيس وزراء فرنسا «جان كاستاكس» لتونس في إطار الاجتماع الثالث للجنة العليا للتعاون الفرنسي التونسي يومي الثاني والثالث من جوان 2021 الذي ترأسه رئيس الحكومة من الجانب التونسي. أما الحدث الثاني الذي تم تقريبا في نفس الوقت أي الثالث والرابع من نفس الشهر حيث أدى رئيس الجمهورية زيارة إلى بروكسيل «للمشاركة في أشغال القمّة الثانية تونس – الاتحاد الأوروبي».
رغم أهمية الحدثين لم ترد أي معلومة تُطمئن الشعب التونسي عن مدى التنسيق بين رأسي السلطة التنفيذية للخوض في أبعاد هذه الزيارات. كما أننا لا نعلم كيف تم تنسيق هذا التزامن المريب لهذه المواعيد ومن هو الطرف المبادر بتحديد هذا التزامن. هذا التصرف الغريب يُبيّن مدى انحلال السلطة في تونس الذي أدى إلى شلل تام لهياكل الدولة وإلى تعميق الازمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والسياسية في البلاد.
أهم ما جاء في تعليق الصحافة الفرنسية حول زيارة رئيس وزراء فرنسا لتونس أجمعت على عناوين حمالة لمعاني مهمة تدل على ضعف وتفكيك الدولة التونسية. حيث ذكرت القناة الخامسة أن « رئيس الوزراء الفرنسي في تونس العاصمة لتعزيز العلاقات مع شريك مريض» «un partenaire malade « بمعنى في حالة انهيار. والسؤال كيف تُعزّز العلاقات مع شريك مريض وغير متكافئ؟
ثم تضيف وسيلة الإعلام الفرنسية أنه «في إطار تطور جائحة كوفيد-19 في تونس التي أظهرت نقص في مادة «الأوكسجين»، حلت الحكومة الفرنسية وأيديها مُحمّلة بثلاثة مولدات أوكسجين لمستشفيات سيدي بوزيد، صفاقس وتطاوين و18ألة تنفس خاصة بالإنعاش وكذلك 240 ألف كمامة مع التأكيد على النوع FFP2». لم يتم ذكر قيمة هذه الهدايا ولا نعلم السبب.
غير أن ما علمناه أن رئيس وزراء فرنسا رجع إلى بلاده مُحملا بتكليف الإشراف الفني على لجنة التصرف في الديون الخارجية التونسية ومحملا بالتوقيع على ست اتفاقيات كشف عن فحواها موقع السفارة الفرنسية بتونس. من بينها ثلاث اتفاقيات خاصة بقروض فرنسية مشروطة ببيع منتجات (من بينها ستة سفن جرارة لمواني تونسية…) وخدمات فرنسية (من بينها برنامج لحماية المدن من الكوارث الطبيعية…) بقيمة تفوق 82 مليون يورو أي ما يعادل تقريبا 261 مليون دينار بضمان ائتماني من الدولة التونسية. هذه الدولة التي وصفتها الصحافة الفرنسية في نفس المقال «بأنها أصبحت دولة مُثقلة بالديون وتشكو من منوال تنموي لم يعد مجديا لأنه يعول أساسا على المناولة التي تعتمد الأجور المتدنية: كما اضافت أن زيارة الوفد الفرنسي أتت في وقت تترجي فيه تونس من صندوق النقد الدولي منحها قرضا جديدا يتم صرفه على ثلاث سنوات مقابل وعود بإجراء إصلاحات…». مما يوحي أن الطرف الفرنسي سوف يكون محل استجداء للتدخل لفائدة الطلب التونسي لدى صندوق النقد الدولي مقابل تأكيد الطرف الفرنسي على تطبيق الإصلاحات المطلوبة التي تعود عليها الشعب التونسي منذ أكثر من سبع سنوات والتي تعتمد سياسة التقشف للضغط على الأجور ورفع الدعم ووقف الانتداب في القطاع العمومي وخصخصة المؤسسات العمومية.
وقد أكد نفس المصدر «أن فرنسا تعهدت السنة الفارطة بصرف 350 مليون يورو لمجابهة جائحة كوفيد-19 تم صرف مبلغ 100 مليون منها ثم توقفت في انتظار مرة أخرى تطبيق «الإصلاحات الكبرى» التي طالب بها صندوق النقد الدولي. مما يؤكد التنسيق بين الطرفين ومما يؤكد خاصة أن الطرف الأساسي المعني «بالإصلاحات الكبرى «هو في الحقيقة بلدان الاتحاد الأوروبي وفي طليعتهم فرنسا.
بالمناسبة هذه الضغوطات حول تطبيق «الإصلاحات الكبرى» هي نفسها التي تُفرض حاليا على لبنان الشقيق الذي يعاني من وضع اقتصادي واجتماعي لا يقل مأساوية عما يجري في تونس حيث صرح ممثل المفوضية الأوروبية إثر زيارته الأخيرة «أن الاتحاد الأوروبي لديه الامكانية المالية للتدخل وإنقاذ لبنان ولكن لن يتم ذلك إلا بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ برنامج «الإصلاحات الكبرى». لهذه الأسباب أكدنا منذ عديد السنوات أن تشابك تدخل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في منطقتنا العربية جنوب وشرق المتوسط يدخل في إطار الأهداف الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي والأطراف الغربية بصفة عامة للسيطرة على هذه المناطق اقتصاديا لجعلها سوق احتكارية لتصدير منتوجاتها ومنع المنافسة التي تقوم بها القوى العالمية والقوى الإقليمية الصاعدة مثل الصين وغيرها.
في نفس الوقت تبينت بعض نتائج زيارة رئيس الجمهورية إلى بروكسيل التي طغت عليها المسائل الأمنية المتعلقة بظاهرة الهجرة السرية التي أصبحت الشغل الشاغل للطرف الأوروبي حيث تبين ان %15 من المهاجرين عبر قوارب الموت في المتوسط هم من أصل تونسي. مع العلم أن هذا الموضوع اتخذ حيزا هاما من المفاوضات بين رئيس الحكومة التونسية ورئيس الوزراء الفرنسي حيث تم التأكيد على الطرف التونسي لإحكام حماية الحدود البحرية ومنع تطور الهجرة السرية. الإضافة من رئيس الجمهورية تتعلق بطلب الجانب التونسي بتحويل قسط من المديونية لدى الطرف الاوروبي إلى استثمارات. مما يعني تمكين الدائن من اختيار استثمار ديونه في مؤسسات أو قطاعات استراتيجية وطنية سعيا لتقليص ضغوط الديون. هذه التنازلات ذات البعد السيادي والاستراتيجي لم يتم بحثها بعمق بين السلط الحاكمة خاصة منها السلطة التشريعية حتى يتحمل كل طرف مسؤوليته التاريخية أمام الوطن وأمام الشعب حول هذا الموضوع.
هذا المثال الحي يبن مدى انحلال السلطة في البلاد حيث تحولت من دولة ذات سيادة ووقار إلى حلقات اقطاعية كل طرف يتصرف على هواه وكل طرف يسعى لتعزيز مكانته عبر اللجوء إلى الخارج والاستنصار به. لقد تحولت تونس من بلد تخطيط وأهداف وطنية إلى رموز سلطة مُفكّكة تُعوّل على الاستجداء والتسول التي جعلت منه أداة لتسيير البلاد. هذا التوجه الذي أفقد البلاد عزتها وكرامتها بين بالكاشف أن كل من تحمل مسؤولية السلطة منذ جانفي 2014 إلى اليوم لا يحمل أي مشروع وطني لإخراج البلاد من مستنقع التبعية والاستجداء في الغرب والشرق إلى مربع العزة والكرامة. لقد تبين أنهم عجزوا على شحن همة الشعب التونسي للتعويل على مقدرات البلاد وبعث الأمل عبر اتخاذ إجراءات جريئة ووطنية لإعادة نشاط قطاعاتنا ومؤسساتنا الوطنية العمومية منها والخاصة وخلق مواطن شغل ووضع حد لمديونية سالبة للسيادة والحرية.
لم يعد هناك مجال للمخاتلة والمواربة
أمام تدهور الوضع الصحي الخطير حيث أصبحت جائحة كوفيد-19 تفتك بمواطنينا في كل الجهات وأمام تدهور الوضع لاقتصادي والمالي حيث وصلت البلاد إلى حالة الإفلاس وأمام التأزم الخطير للوضع الاجتماعي حيث ضاقت كل فئات الشعب التونسي ذرعا من الغلاء وتدني المرافق العمومية واستفحال ظاهرة الفساد والإفساد وأمام تدهور الوضع السياسي الذي تحول إلى انحلال يرثى له، نقولها بكل قوة وبكل صراحة لم يعد أي مجال لأي طرف أن يلجأ إلى المخاتلة والمواربة من جديد لمغالطة الشعب التونسي.
ما جرى منذ أكثر من أسبوع من مبادرات سواء كانت على مستوى رئاسة الجمهورية من قبيل استدعاء رؤساء حكومات ساهم البعض منهم بقوة في تدمير اقتصاد البلاد أو على مستوى المنظمات الوطنية التي لم تعودنا عل مثل هذا التضارب في المواقف حيث أعلن اتحاد الشغل عن مبادرة سوف تُفرح الشعب التونسي ثم تبينت انها لا أساس لها ولا جدية خيبت ظن الشعب التونسي. كذلك ما أعلنه رئيس مجلس نواب الشعب من إقدامه على مبادرة «تجمع كل الأطراف لكي تساهم في حكومة توافق» هو ضرب من ضروب المخاتلة والمواربة لم يعد يصدقه أي فرد من الشعب التونسي الذي سأم المغالطات والنزاعات الجوفاء التي أوصلت البلاد إلى الإفلاس المالي وإلى الفقر المدقع وإلى اليأس من السياسة والسياسيين.
لذلك نرجوكم كفاكم عبثا بمستقبل البلاد وتكفاكم تنغيص عيش الموطنين وتدمير مواطن الشغل عبر انشغالكم بالتوريد الفوضوي وتدليس نتائج الميزان التجاري وغض الطرف عن التهريب المخيف لرؤوس الأموال إلى الخارج. إنها مسؤولية جمة سوف تتحملون وزرها بكل حال من الأحوال لأنكم تدفعون نحو أزمة اجتماعية لا يمكن تصور نتائجها الكارثية على البلاد. تذكروا لقد نبهناكم منذ عديد السنوات بانكم تدفعون البلاد نحو الإفلاس والتدمير الشامل للبلاد ولكن تجاهلتم الأمر وها أنكم اليوم ترون النتائج.
لابد من رفع الحصار عن البنك المركزي بوصفه المؤسسة المحورية لإنقاذ اقتصاد البلاد
نقولها للمرة الالف، إنقاذ الاقتصاد الوطن يمر حتما عبر اتخاذ إجراءات جريئة وسيادية تعتمد على مصارحة الشعب التونسي حول حقيقة العجز التجاري والإسراع بالترشيد الصارم للتوريد. كما تعتمد رفع الحصار على البنك المركزي التونسي الذي تم تكبيله بقانون زعموا أنه قانون «استقلالية» وهو في الحقيقة عبارة عن غلق باب تمويل الاقتصاد الوطني لدعم تنشيط المؤسسات العمومية التي يجب أن تكون قاطرة التنمية الحقيقية في البلاد ولدعم القطاعات المنتجة الفلاحية وخاصة الصناعية حيث تعيش آلاف المؤسسات الصغرى والمتوسطة في كل المناطق الصناعية حالة ركود متعمدة نتيجة تصنيفات البنك المركزي الظالمة ونتيجة تحويل الموارد المالية من تمويل القطاعات المنتجة إلى تمويل البنوك التي تمول خزينة الدولة لتحصد المرابيح الطائلة وتفتح المجال للتوريد الفوضوي عبر تعطيل الإنتاج المحلي. إنها مؤامرة في حق البلاد وفي حق العباد لابد من التفطن لها والسعي لإحباطها بكل قوة تنتفع منها لوبيات محلية وشركات أجنبية تابعة لدول إقليمية كما تبين من خلال الزيارات التي تداولت بين تونس والاتحاد الأوروبي وقطر وواشنطن أمام اعين الشعب التونسي.
في تعليق للسيد رشيد صفر رئيس الوزراء ووزير المالية الأسبق على صفحته الخاصة بالفضاء الاجتماعي كتب كلمات قصيرة ولكن معُبّرة حيث جاء فيها «على البنك المركزي أن يلعب دوره في إنقاذ الاقتصاد الوطني». من يعرف مدى وطنية السيد رشيد صفر ومدى كفاءته في هذا الموضوع وهو الذي عاش ملحمة الثمانينات بعد انتفاضة الخبز والذي يعلم مدى احترازه في الخوض في الشأن العام يعلم أنها في الحقيقة صرخة وطني يعلم من أين يأتي الضيم والظلم في حق البلاد ويعلم أن تفكيك عقدة البنك المركزي وإرجاعه إلى خدمة الوطن هو الحل الوحيد والاوحد في هذه الظروف الحالكة.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 22 جوان 2021