الشارع المغاربي – رغم انتهاء أشغال هيئتها : بن سدرين تُريد تأبيد امتيازاتها ..إنّه الفساد ! بقلم معز زيود

رغم انتهاء أشغال هيئتها : بن سدرين تُريد تأبيد امتيازاتها ..إنّه الفساد ! بقلم معز زيود

18 يناير، 2019

الشارع المغاربي : جيل جديد سيمسك البلاد بعد عقدين أو ثلاثة من الزمن، قد ينسى حينها معظم ما مرّت به تونس خلال هذه العشريّة من أحداث هوجاء، لكنّه سيذكر حتمًا رموزَ ملحمةٍ دفع من أجلها بعض أجداده حياتهم، على رأسهم محمد البوعزيزي وشكري بلعيد… في المقابل سيلتهم النسيان سريعا سياسيّين أوغلوا في تقسيم التونسيين، على غرار سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة التي رغم النهاية المتكرّرة لأشغال هيئتها وصلاحيّاتها مازالت تصرّ على إطالة أنفاسها والمحافظة على امتيازاتها إلى ما لا نهاية…

 

هيئة الحقيقة والكرامة شكّلت إحدى الآليّات الأساسيّة للعدالة الانتقاليّة التي كان من المفترض أن تُعالج الجراح وتُنصف ضحايا الاضطهاد والديكتاتورية وتخطو خطوات ثابتة في مسار كشف الحقيقة والمحاسبة والمصالحة. الحصيلة بعد إنهاء أشغالها كانت مخيّبة للآمال على كلّ المستويات. فقد خسرت الهيئة رهان الحقيقة والكرامة، ولم تنجح للأسف سوى في مزيد تقسيم التونسيّين وفرض سياسة التشفّي، باستثناء خدمة مصالح فئة معيّنة وتكويم فوائدها وامتيازاتها إلى تاريخ غير منظور، في مقدّمتها رئيسة الهيئة سهام بن سدرين.

تمديد الامتيازات هو الأهمّ!
أقرّت هيئة الحقيقة والكرامة انتهاء عملها يوم 31 ديسمبر 2018، لكنّه نظريًا وقانونيًا انتهى منذ يوم 31 ماي 2018 بعد رفض مجلس نوّاب الشعب التمديد للهيئة بانتهاء فترة الأربع سنوات إعمالا للفصل 18 من قانون العدالة الانتقاليّة. ومع ذلك فرضت سهام بن سدرين سياسة الأمر الواقع، مستفيدةً من المساندة المطلقة من حركة النهضة بقيادتها وكتلتها البرلمانيّة وأعضاء مجلس الهيئة الموالين للحركة في معظمهم. وهو ما أوضحناه بالدليل والبرهان وحتّى الأسماء والمهام في مقالة سابقة.
عاودت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة اليوم نسج خيوط الحيلة ذاتها، معتمدةً على بعض الغموض والإشكالات الكامنة في قانون العدالة الانتقاليّة. فقد أعلنت الهيئة من جهة نهاية عملها وعدم أحقيّة مجلسها في إصدار القرارات، واتّخذت من جهة أخرى قرارًا بتعيين رئيستها بن سدرين مُشرفةً على إجراءات التصفية بعد انتهاء عملها، بدلا من الحكومة. ومع ذلك يبقى الأمر الأكثر غرابة وتجاوزا صارخا للقانون والأعراف تنصيصها في قرارها على إمكانيّة مواصلة انعقاد مجلسها متى اقتضت الضرورة، بمعنى في أيّ وقت ترتضيه، فضلا عن مواصلة رئيستها وأعضائها التمتّع بالامتيازات نفسها، وهنا طبعا يكمن مربط الفرس.
أنهت هيئة الحقيقة والكرامة عملها إذن يوم 31 ديسمبر 2018 بملء إرادة رئيستها، لا بمقتضى القانون باعتبارها قد أثبتت سابقا عدم اعترافها بالسلطة الأصليّة فهي فوق البرلمان الذي رفض قرار تمديد عملها، وهي كذلك فوق القضاء الذي لا تعترف بأحكامه على غرار ممارساتها إزاء قرارات المحكمة الإداريّة. ورغم هذا الإقرار الذاتي باختتام أعمالها، فإنّ هيئة بن سدرين قد بلغ بها هوس المصالح الذاتية أن أعطت لنفسها الحقّ في مواصلة عقد اجتماعات مجلسها متى شاءت. وهو ما يؤدّي طبعا إلى المحافظة على طميم امتيازاتها.
إنّه “الفساد”، وفق تصريح صحفي للمحامي والقاضي الإداري السابق أحمد الصواب الذي اعتبر مُطالبة هيئة الحقيقة والكرامة بمواصلة أعمالها والمحافظة على الامتيازات الماديّة لأعضائها من قبيل “إلزام الدولة بتسديد أموال غير مستوجبة قانونا، وهو على معنى قانون حماية المبلّغين على الفساد يعتبر فسادا”. أحمد الصواب ذهب في هذا التقدير إلى حدّ اتّهام هيئة بن سدرين بـ”اغتيال العدالة الانتقالية”، لاسيما بعد أن أضحت الهيئة تُشرّع رسميّا وجهارا نهارا للفساد المالي عبر اغتنام أموال دافعي الضرائب دون وجه حقّ بعد إنهاء أعمالها، وعبر تأويل لقانون العدالة الانتقاليّة لا يتغاضى عنه سوى الحمقى أو الانتهازيين.

هل ستُشرّع النهضة الفساد؟!
بعيدا عن الكلام الشعبوي والنهج الإقصائي تعدّ حركة النهضة جزءا في غاية الأهميّة من المشهد السياسي التونسي، لكنّ هذا المعطى لا يُبرّر أن يكون النهضويون المستفيد شبه الأوحد من هيئة الحقيقة والكرامة ورئيسة أعمالها. وهو ما يُفسّر أنّ كتلة حركة النهضة تُمثّل “القوّة” البرلمانيّة الرئيسيّة المساندة لبن سدرين وهيئتها في مجلس نوّاب الشعب، فضلا عن إعطائها تفويضا حزبيّا شبه مطلق نظير خدماتها المعلومة المتعدّدة. والواضح أنّ بن سدرين بدورها قد بحثت وارتضت أن تكون ورقة ضغط في يد حركة النهضة، وبإمكان قيادتها أن تُحرّكها متى شاءت ضدّ خصومها.
ومع ذلك فقد بلغ السيل الزبى اليوم، بعد أن أضحت الاشتراطات الرامية إلى الالتفاف على قانون العدالة الانتقاليّة أكثر من مكشوفة. وبالنظر إلى التوازنات القائمة حاليّا في مجلس نوّاب الشعب، وجّه رئيس الحكومة يوسف الشاهد مراسلة إلى المجلس، داعيًا إيّاه إلى النظر في قرار هيئة الحقيقة والكرامة المتضمّن لأحكام تخوّل لرئيستها وأعضاء مجلسها مواصلة المهام الأصليّة للهيئة واستمرار التمتّع بامتيازاتها الماليّة وغيرها. كما طالب رئيس الحكومة البرلمان باتخاذ القرارات المستوجبة إزاء ذلك قانونا. وهو ما يعني أنّ الشاهد قد رمى الكرة في ملعب البرلمان تجنّبا للوقوع في خطأ التغاضي المحظور. ومن ثمّة عمد ضمنيّا إلى تخيير مجلس نوّاب الشعب بأحد أمرين، وهما: إمّا التدخّل لإنهاء امتيازات بن سدرين وأعضاء هيئتها أو تحمّل مسؤوليّة مخالفة القانون وتبديد المال العام رغم إنهاء أعمال هيئة بن سدرين رسميّا وقانونيّا.
وأمام هذا الإجراء الذي يبدو أنّ رئيس الحكومة قد اتّخذه احترازيّا، سارعت كتلة حركة النهضة بمجلس نوّاب الشعب إلى عقد اجتماع موسّع ضمّ نوابا من الكتلة وأعضاء من المكتب السياسي للحركة ومن لجنته القانونية للنظر في “مشروعية تداول البرلمان في قرار هيئة الحقيقة والكرامة”، وفق ما أكّده رئيس كتلة النهضة نور الدين البحيري. والواضح أنّ الإشكال الكامن هنا لا يتعلّق بمدى السلامة الإجرائيّة لطرحه على المجلس وبمدى صلاحيّة البرلمان للنظر فيه، كما يُروَّجُ له. فالبرلمان هو السلطة الأصليّة التي أحدثت هيئة الحقيقة والكرامة بمقتضى القانون، وهو الذي يُشرف على تقويم أعمالها ومناقشة ميزانيتها. ومن ثمّة يبدو أنّ حركة النهضة قد فوجئت بقرار رئاسة الحكومة بالتنصّل من توريطها في التغطية على تجاوز وصفه بعض خبراء القانون بأنّه يرتقي إلى درجة الفساد. وقد نضطّر في هذا المضمار للتساؤل إن كانت سهام بن سدرين قد نسجت قرارها المشتهى بعد التشاور مع قيادة حركة النهضة أصلا. وهنا تكمن خطورة هذه الأجندات الذاتيّة التي برّرتها إلى حدّ اليوم المصالح المتبادلة.

الأنفاس الأخيرة
هكذا يبدو أنّ محاولات بن سدرين للالتفاف على قانون العدالة الانتقاليّة لتحقيق أجندات ومصالح معيّنة غير مستغربة إطلاقا. وقد انطلقت أصلا في اختلاق المبرّرات لتأبيد هيمنتها، فضلا عن كيْل الاتّهامات لمؤسّسات الدولة، على غرار ادّعائها بأنّ مؤسّسة الأرشيف الوطني غير قادرة على القيام بمهمة “حفظ الذاكرة” الناتجة عن أعمالها على أساس أنّ ما جمعته الهيئة من وثائق وشهادات لا يُعتبر أرشيفا بل “ذاكرة”. وهو ما فنّده مدير عام الأرشيف الوطني الهادي جلاب الذي شدّد على أنّ رئيسة الهيئة “تتعامل بالكثير من التشكيك في مؤسّسات الدولة الوطنيّة”. كما ذهب إلى أنّ الهيئة بما توفر لها من أرشيف ومساعدة وتسهيلات لم تتوفر لأيّة مؤسّسة مماثلة في العالم، حسب الدراسات المقارنة التي أُجريت في هذا الخصوص. وكان بإمكان الهيئة، حسب تقديره، أن تُنجز تقريرا نادرا عن حقبة مهمّة من تاريخ تونس، “لكنّها انشغلت بالمشاكل الجانبية بدلا من ذلك”…
وإجمالا فإنّه باستثناء ما سيُسطّر في وثائق الأرشيف بشأن عمل الهيئة، وما سيحتفظ به أعضاء مجلسها من بطاقات زيارة تُظهر مهامهم السابقة، فإنّ هؤلاء سيُنسوْن تمامًا بعد فترة لن تكون طويلة. فكما يقول المثل الشعبي التونسي، لم يكن هؤلاء سوى خواتم طيّعة في أصابع رئيسةٍ تُوجّههم حيث تشاء، باستثناء أعضاء اكتشفوا منذ البداية هول المطبخ الداخلي للهيئة وشقّوا عصى الطاعة وكشفوا التجاوزات، فاستُبعِدوا أو اضطرّ بعضهم للاستقالة منذ الفترة الأولى لعمل الهيئة. ورغم أنّ المحكمة الإداريّة قد أنصفتهم فإنّ بن سدرين لم تأخذ بقراراتها، وهو ما سيُدرج في السجلّ الأسود لتاريخ القضاء التونسي بعد الثورة. فقد جعلت نفسها فوق القضاء، كما البرلمان، بمباركة حركة النهضة التي لم تنبش بحرف إزاء ضرب أحكام المؤسّسة القضائيّة. ولا ندري أيّ موقف قد تتّخذه حركة النهضة حين تُمسك دائرة المحاسبات بالملف المالي لهيئة بن سدرين وحين تُراجع ملفّات “المصالحة” عندما يحين موعدها.
قد يستمرّ هذا الكابوس المماثل للمسلسلات التركيّة المطوّلة إلى حين، لكنّه سينتهي حتما آخر المطاف. فتاريخ تونس المستقلّة الحافل سيلفظ تخمةً من الشخوص عسيرة الهضم انقلبت سريعًا على تاريخها، ولم تحتفظ من زمن معاناتها بغير أورام الحقد والانتقام والتشفّي، لأنّ هذه البلاد لا تُخلّد إلاّ أسماء وحّدت ولم تُفرّق…


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING