الشارع المغاربي : ستّون مؤرخا تونسيا بالتمام والكمال يعيدون الأمور إلى نصابها “العلمي” و“الأخلاقي” بعد شطحات رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة وإصرارها على ما تعتبره وجوب إعادة كتابة التاريخ لإدراج ما تكشفه هيئتها من معطيات أهمها “الاتفاقيات” مع فرنسا لاستغلال الثروات الطبيعية معتبرة أنّ استقلال تونس منقوص اضافة الى طعنها المتكرّر تصريحا أو تلميحا في مصداقية المؤرخين التونسيين وتبخيس إنتاجهم كما جاء في ردّهم على بن سدرين.
ستّون مؤرخا يعيدون ترتيب ما أحدثته بن سدرين من هرج وعبث بذاكرة التوانسة وبالتاريخ التي تحاول تكرارا إعادة صياغته على مقاس “هوى إيديولوجي” حاقد، وبذلك يكون المؤرخون قد ردّوا بن سدرين إلى الحجم الذي يليق بها وردّوا الاعتبار إلى قدسية الحقيقة التاريخية التي يجب أن تبقى بمنأى عن كلّ توظيف سياسي أهوج.
لا يكتب التاريخ تحت وطأة الشعوربالثأر ولا تعاد ترتيب ذاكرة الشعوب بروح مؤجّجة بلهيب الضغائن والانتقام، قراءة التاريخ لها ضوابطها المنهجية والموضوعية، كما لها مختصّوها من الأكاديميين والدكاترة القادرين على مصالحة الشعوب مع ذاكرتها وتعريفها بماضيها في وجوهه الموجبة والسّلبة.
إنّ الرمي بأنصاف الحقائق والكشف عن بيانات مقتطعة ومنقوصة والادعاء بأنّها حقائق فوق الشبهات هو مخاتلة غير بريئة للتاريخ ومغالطة وتزييف وهي في النهاية «حقائق كاذبة» كما وصّفها ردّ الستين مؤرخا الذي اعتبر بن سدرين بصدد المغالطة والترويج للترّهات والأكاذيب.
بن سدرين في مرمى سخرية المؤرخين
وصّف النصّ الذي أمضاه ستّون مؤرخا رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة بأنّها «في جهل شبه تام بالاستغرافيا التونسية المعاصر منها والراهن» على إثر تكرّر طعنها ـ إن تصريحا أو تلميحا ـ في مصداقية المؤرخين التونسيين، وعلى إثر تعمّدها التلاعب بالوثائق التاريخية ومغالطة النّاس عبر تقديم «حقائق كاذبة». لقد بيّن المؤرخون مجتمعين أنّ ما أسموه بـ«الكشف الوثائقي» الأخير الذي أتى مباشرة قبل احتفال التونسيين بالذكرى 62 للاستقلال، كان بمثابة الدليل والحجّة على أنّ سهام بن سدرين «تمضي في النهج الذي رسمته لنفسها بلوم أو مؤاخذة..». ويضيف ردّ المؤرخين «السّاخر» من حشر بن سدرين أنفها في اختصاص علمي دون دراية أكاديمية بالنواميس والضوابط المعرفية الموضوعية المتعارف عليه : « إنّ أنصاف الحقائق أكثر غشّا وأكثر ضلالا من الأكاذيب نفسها، وهي كما هو معلوم من الأساليب الأثيرة عند المتلاعبين بالعقول. خاصّة أنّه تبيّن من خلال الاطلاع على الوثائق المنشورة أنّ هيئة الحقيقة والكرامة تجهل كيفية قراءة الوثائق وهو أمر بديهي وهذا العجز عن الفهم أدّى بها إلى الوقوع في المحظور العلمي وهو تحميل الوثيقة التاريخية ما لا يمكن تحمّله والافتراء عليها، وهذا الأمر قد حصل فعلا».
هكذا جعلت بن سدرين نفسها محلّا لسخرية الأكاديميين والمؤرخين الذين أكّدوا أنّ رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة ومنذ تسلّم مهامها كانت «تصرّ على التجنّي على التاريخ بعامّة والسردية الوطنية بخاصّة»، في «جهل شبه تام» بأنّ ما جاء في اتفاقيات 1955 من بنود «مخلّة بالسيادة» حسب قولها، قد تجاوزت الدولة الوطنية أغلب ما جاء فيها وفي ملحقاتها قانونيا وديبلوماسيا بحكم الأمر الواقع ( de facto)، ونجحت بإصرار في استعادة معالم السيادة الوطنية (الجلاء العسكري والزراعي) وفق إجماع العشرات من المؤرخين التونسيين والعارفين بخفايا الأمور من رجال القانون والعلاقات الدولية.
ستّون مؤرخا تونسيا يجمعون على أنّ كتابة التاريخ الخاضعة لقراءات ثأرية له وللتوظيف السياسوي الحاقد لأحداثه وسيرة شخوصه يجانب الموضوعية ولا يضر بالحقيقة العلمية فحسب بل يضرّ بالذاكرة الجمعية للشعوب ويرمي بها في أتون الفتنة والتباغض والكراهية المنذرة بالاحتراب الداخلي. وهو مضمون ما خطّه المؤرخون في الجملتين الأخيرتين في نصّهم المذكور اللّتين كانتا واضحتين ولا تتحمّلان عناء التأويل، عندما أعلنوا صراحة بالقول: « لسنا في حاجة إلى كبير عناء كي نتبيّن أنّ للسيّدة سهام بن سدرين ( ومن ساندها ويساندها بلجّة وضجّة) جردة حساب مع الزعيم الحبيب بورقيبة وبناة دولة الاستقلال والدولة الوطنية عموما. كما لم يغب عن فطنة الناس أنّ خطابها مصبوغ بالكراهية والحقد الدفين والرغبة في الانتقام والتشفي. وليس بمثل هكذا خطاب يمكن التأسيس لعدالة انتقالية سليمة».
عندما يغرّد التميمي خارج أهل الاختصاص
اعتبر عبد الجليل التميمي أنّ نصّ الستين مؤرّخا «مهزوزا وغير مدروس وفيه الاعتباط وفيه الكذب وعدم الصدق وعدم النزاهة»، مضيفا أنّه يتأسّف لزملائه المؤرّخين الذين انساقوا حسب توصيفه وراء النص المهزوز و»الذي لا يمثّل شيئا في صدقية وأمانة التاريخ» حسب تقديره طبعا. هذه الصدقية والانضباط العلمي الرصين من «دكتور في التاريخ» لا يجد غضاضة في أن يصرّح بخفّة لافتة لا تمت للعلم أو المعرفة التاريخية الملتصقة بالوثائق والأرشيف والشهادات بأيّ صلة، أنّ «إدغار فو رئيس وزراء فرنسا في عهد الاحتلال « قد اختار بورقيبة « لأنّ «عيونه زرقاء» وليبني على ذلك استنتاجا علميا عظيما كاشفا حقيقة تسكن ذهنه، خافية على ستين مؤرّخا تونسيا مفادها أنّ في ذلك «نوع من التواطئ بين السلطة الفرنسية التي اختارت بورقيبة عن غيره من الشخصيات السياسية». يا الله ما هذا الهراء المتلبّس زورا بالعلم، ما هذا «الانخراط في السفسطة والمغالطات، وهذا «التغييب للدور الحقيقي للمؤرّخ» كما وصّف الستين دكتورا مؤرّخنا؟.
لقد غرّد فعلا التميمي خارج أهل الاختصاص، فكانت تصريحاته مهزوزة ولا قيمة لها في ميزان علم التاريخ الذي ينضبط للوثيقة أوّلا وآخرا ولا يهتمّ بزرقة العيون التي تبقى موضوعا يخوض فيه العوام وليس دليلا يؤسّس عليه المؤرّخون حقائق التاريخ. لقد كشف التميمي من حيث لا يدري هشاشة وضعفا بيّنا في تكوينه الأكاديمي، لاسيّما أنّ العارفين بسيرة الرجل الجامعية يشيرون إلى حصوله على شهادة في التاريخ بالعراق لمّا انخرط بحزب البعث، ورفضت معادلة شهادته في لجنة يرأسها د. محمد اليعلاوي، ولم تتم المعادلة العلمية إلاّ بتدخّل من محمد مزالي الذي ساعده و«توسّط» له ليتمّ منحه أرضا بولاية زغوان ليبني فوقها مركزه البحثي. إنّ تشكيك التميمي في بيان المؤرخين يجعلنا بالضرورة نسأل الرجل: هل نظر في صلابة وقيمة مسيرته العلمية قبل أن يندفع ويشكّك في ستين مؤرّخا ؟ وهل نسي أم في حاجة لأن نذكّره إلى منشورات وأشغال «مركزه البحثي» زمن بن علي التي صبّت جلّها في سياسة تقزيم بورقيبة وتضخيم دور خصومه؟.
أخيرا نقول لمعارضي بروتوكول 20 مارس والسابحين في الجهل بالتاريخ والحاقدين على بناة الدولة الوطنية والباثين للفتنة والتباغض، ما استنتجه عميرة عليّه الصغيّر بعد أن استعرض مراحل اتفاقات الاستقلال في المغرب الأقصى والجزائر التي جاءت في تدرّج زمني سواء بإبقاء المغرب ضمن منطقة الفرنك الفرنسي في مرحلة أولى أو على بضرورة الاستغلال المشترك للثروات الطبيعية للمنطقة الصحراوية في الجزائر، وقبولها بمنح فرنسا على وجه الكراء لمدة 15 سنة متجددة للقاعدة البحرية «المرسى الكبير» والسماح للجيش الفرنسي باستعمال بعض المطارات والمنشآت التي يراها ضرورية.
لقد تجاوزت تونس كما شقيقتيها الاتفاقات وملحقاتها بحكم الأمر الواقع ونجحت فعلا بإصرار في استعادة سيادتها كما بيّن بيان مؤرخيها الصادقين.
كتب عميرة في استنتاج موجز ومكثّف «إنّ تحقيق استقلال مثالي، كما يتصوّره معارضو بروتوكول 20 مارس، بمعنى القطيعة التامة مع المستعمر القديم وانتفاء حضوره الاقتصادي أو العسكري أو السياسي أو الثقافي في الدولة المستقلّة واكتساب هذه الأخيرة كلّ مقوّمات السيادة الناجزة «دفعة واحدة» هو افتراض غير تاريخي ومثالي»…استنتاج عميرة هذا لا يفقهه إلّا الراسخين في العلم وفي حب تونس…