الشارع المغاربي – سجون‭ ‬للإصلاح‭ ‬أم‭ ‬بؤر‭ ‬للأوبئة‭ ‬والأمراض؟

سجون‭ ‬للإصلاح‭ ‬أم‭ ‬بؤر‭ ‬للأوبئة‭ ‬والأمراض؟

قسم الأخبار

11 يونيو، 2022

الشارع المغاربي-تحقيق -محمد الجلالي: تؤكد شهادات قادمة من خلف قضبان الزنزانات تحوّل بعض المؤسسات السجنية والاصلاحية الى بؤر لاستشراء امراض جلدية وتنفسية مزمنة ولتفاقم أورام خطيرة لا تهدد فقط حياة النزلاء واعوان الهيئة العامة للسجون والإصلاح وانما تنذر بانتقال العدوى الى خارج أسوار “الحبس”.

وفي ظل وسط سجني موسوم بالاكتظاظ المتزايد باتت الخدمات الصحية المقدمة للمساجين والموقوفين تحديا صعبا أدى الى تعالي أصوات حقوقية تندد بضعف الرعاية الصحية للنزلاء.

“شديت الحبس لاباس” وخرجت بأربع أمراض

في منتصف سنة 2021 غادر أكرم أحد سجون الإيقاف بعد حصوله على حكم استئنافي بالتمتع بسراح شرطي مقابل تعهده بخلاص شيكات بقيمة 250 ألف دينار.

أكرم هو إسم مستعار لتاجر في العقد الثالث من عمره قضى 11 شهر موقوفا على ذمة التحقيق في قضية اصدار شيكات بلا رصيد قبل ان تقرر المحكمة تمكينه من فرصة تسوية وضعيته القانونية بدفع ما تخلد بذمته مقابل اخلاء سبيله ليكتشف انه غادر السجن “مُحمّلا” بما لا يقل عن 4 امراض.

يقول الشاب وهو يستعرض شريط ذكريات ليست بالبعيدة: “قبل أيام من إطلاق سراحي انضاف الى غرفة ايقافي سجين قادم من الحجر الصحي ثم سرعان ما قررت إدارة السجن تحويله الى غرفة العزل الصحي. لقد تبين انه مصاب بفيروس كورونا. ومن سوء حظي أنني كنت انام على بعد أمتار منه وسرعان ما تدهورت حالتي الصحية وارتفعت درجات حرارتي ثم بت اعاني من التقيئ والاسهال وهي كلها أعراض واضحة للكوفيد 19”.

ويواصل: “بعد يومين أفرج عني فنقلت العدوى الى 13 شخصا خارج السجن قبل ان تباغتني آلام حادة في رئتي اليمنى ربطها الأطباء بادئ الامر بفيروس كورنا لكن التحاليل أثبتت إصابتي بداء السل في نفس الرئة التي استهدفها فيروس كورونا. وباستفسار الإطار الطبي ربطوا اصابتي بالسل بالتقاط العدوى داخل أسوار السجن.

أكرم لفت أيضا الى ان تجربة السجن كلفته فقدان السمع بعد ان تأخر علاج أذنه طيلة فترة إيقافه.

كما ذكر الشاب انه خضع لتحاليل إضافية بعد اطلاق سراحه مباشرة وانها أثبتت اصابته بداء السكري منذ ثلاثة أشهر.

من جهته اكد بشير، وهو اسم مستعار لابن سجين متهم باصدار شيكات بلا رصيد منذ أواخر 2021 ان والده دخل السجن ماشيا وان حالته الصحية تدهورت سريعا ليجد نفسه ملازما كرسيه المتحرك ومقيما بمحل التمريض التابع للمؤسسة السجنية.

يبلغ أبو بشير 75 سنة وهو يواجه حكما استئنافيا بالسجن لمدة 25 سنة في انتظار تعيين موعد لأولى جلسات التعقيب.

يلاحظ بشير ان والده فقد إصبعا بساقه اليمنى بعد ان جرحه مسمار خلال استحمامه داخل السجن وانه صُدم خلال الأسبوع المنقضي عندما زاره ولاحظ حالة الهزال التي أصبح عليها بعد أشهر معدودة من الإيقاف.

بدورها ذكرت زوجة سجين اخر أنه بات مُقعدا بعد أربع سنوات من ايوائه بأحد سجون تونس الكبرى مشيرة الى ان اهوال “الحبس” عقّدت وضعيته الصحية باعتبار انه كان يعاني من مرض ضغط الدم وان اصبح يشكو ايضا من اضطرابات في نبضات القلب مع ازدياد وزنه بشكل لافت.

الهيئة العامة للسجون والإصلاح المكلفة بحوكمة السجون تصنف مراكز الاحتجاز الى اربعة أصناف هي سجون الإيقاف وسجون التنفيذ والسجون شبه المفتوحة ومراكز اصلاح الأطفال الجانحين.

وتشير إحصائيات الهيئة الى ان العدد الجملي لنزلاء السجون بلغ أكثر من 22 الف شخص منهم 12 الف موقوف والبقية محكوم عليهم.

أدوية ممنوعة

تشدّد الهيئة العامة للسجون والإصلاح على أنها “تعمل على توفير كل الوسائل من موارد بشرية وأدوية وتجهيزات طبية وتكوين مستمر للإطار الطبي وشبه الطبي قصد تنفيذ برامج العمل الصحي على أحسن وجه” وعلى انها “تحرص على تطبيق ما جاء بمجلة الأخلاقيات الطبية إضافة إلى مراقبة قواعد حفظ الصحة” وعلى انها “تتدخل لتذليل الصعوبات بالتنسيق مع المؤسسات الإستشفائية العمومية عند الإقتضاء ولتمكين المودعين المرضى من إجراء الفحوصات الطبية المعمقة وكذلك العمليات الجراحية والخدمات العلاجية”.

في المقابل نفي أكرم سهر إدارة السجن على توفير الرعاية الصحية اللازمة لافتا الى انها كانت تقتصر على عرض نصف المساجين المسجلين على الطبيب المقيم عوض تمكين كل الراغبين من العلاج.

وأشار الى انه فوجئ ذات مرة بأن الآلة التي يستغلها الإطار الصحي بالسجن لإجراء كشوفات على الاذنين تفتقد لبطاريات مبرزا ان أحد الممرضين أمره بعدم المطالبة بعلاجه حتى يقضي فترة إيقافه بلا مشاكل.

من جهتها شدّدت فضيلة على ان إدارة السجن حرمت زوجها الموقوف منذ اربع سنوات من الدواء وعلى انها حاولت إنقاذه بشراء الدواء وتسليمه للإدارة بلا جدوى.

فضيلة اكدت أيضا انها تلقت مؤخرا اتصالات هاتفية من طبيبة زوجها تستغرب فيها من عدم نقله الى المستشفى العمومي مثلما دأبت على ذلك المؤسسة السجنية منبهة من خطورة تعكر حالته في صورة تواصل حرمانه من العلاج.

وعاد أكرم على ظروف اقامته مؤكدا انه كان -مثله مثل 70 سجينا بنفس الغرفة- مجبرا على افتراش غطاء شتوي قديم والنوم معهم جنبا الى جنب في مجموعات تتكون من اربعة مساجين على كل سريرين.

يقول اكرم: “دفع الاكتظاظ المتزايد وضيف المساحة المساجين الى الاصطفاف نوما من باب الغرفة وصولا الى بيت الراحة. اما اذا أراد احدنا قضاء حاجته فما عليه الا ممارسة رياضة القفز حتى لا يدوس على احد النائمين”.

وعرّج المتحدث على جودة الاكل المقدم للمساجين مشيرا الى ان اغلبهم يعولون على قفاف عائلاتهم نتيجة سوء وجبات السجن .

اكرم قال “إدارة السجن ارادت عشية يوم 13 جانفي 2021 الاحتفاء بالنزلاء فقدمت “ساندويتشات تن” ومشروبات غازية لكننا اكتشفنا ان صلوحية المشروبات تنتهي يوم 14 جانفي من نفس السنة”.

في نفس الإطار تساءل بشير قائلا: “لم لا تحذف وزارة العدل مصطلح الإصلاح من تسمية إدارة السجون؟ الا يمكن توفير حد أدني من الإنسانية للسجناء؟ اين الهيئات والجمعيات الناشطة في مجال حقوق الانسان؟ الم يخطر ببال احداها عرض ما يقدم لنا من وجبات على التحليل؟

أسبوعية “الشارع المغاربي” تحولت في ثلاث مناسبات الى مقر الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان في محاولة لاستفسار رئيسها جمال مسلم عن المجهودات المبذولة لتحسين ظروف إقامة السجناء لكنها فوجئت بعدم وجود أي موظف بمقر الرابطة سوى بعض المعتصمين من العاطلين عن العمل او من جرحى الثورة ثم تحولت الى مقر الهيئة العليا لحقوق الانسان والحقوق الأساسية التي شدد مدير بها على ان “المؤسسة تشهد منذ اكتوبر 2021 شللا في عملها بسبب تواصل الشغور في رئاستها. كما حاولت الصحيفة الاتصال بالهيئة العامة للسجون والاصلاح لكنها لم تحصل على أي رد.

بيئة سجنية خطيرة

في ظل غياب إحصاءات وتقارير وطنية عن ظروف إقامة المساجين اكدت المفوضية السامية لحقوق الانسان في تقرير صادر عنها سنة 2014 ان ظروف أماكن الاحتجاز بالمؤسسات السجنية التونسية تختلف من حيث التهوئة والإنارة والسعة وتوفر دورات المياه من مؤسسة الى أخرى وان نسبة الاكتظاظ ساهمت في مخالفة القانون المنظم لعمل السجون.

واعتبرت المفوضية ان ظاهرة الاكتظاظ وغياب الفصل بين النزلاء هي الأخطر في السجون وان ذلك يعقّد الاصلاح والتأهيل ويساهم في رفع نسبة العود وانتشار الامراض.

وبينت ان غياب برامج التأهيل والادماج يجعل البيئة السجنية خطيرة ويساعد على انتاج مجرمين جدد فضلا عن انه يحولها الى مؤسسات عقابية.

وبما إن السجناء الثلاثة المتضررين صحيا من السجون يشتركون في تهمة اصدار شيكات بلا رصيد توجهت “الشارع المغاربي” الى الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تجندت خلال الفترة الأخيرة للتنديد بمخاطر استغلال العقوبة السجنية لردع مرتكبي جنحة اصدار شيكات بلا رصيد فاستغرب المتحدث باسمها عبد الرزاق حواص من تواصل اعتماد سياسة جزائية سالبة للحرية في هذا المجال على خلاف اغلب الدول.

حواص اكد ان “السلطة تصر على عدم اعتماد جوازات السفر البيومترية لأنها تتعارض مع المنظومة التشريعية التي تجرم الشيكات بلا رصيد وان ذلك لا يتوافق مع المعايير الدولية”.

من جهة أخرى ذكر حواص ان إحصاءات منظمة العفو الدولية تفيد بان 90 بالمائة من السجناء يعانون من امراض بالمعدة وأن لـ 80 بالمائة مشاكل في الاسنان و 0.5 بالمائة مصابون بالسيدا و8 بالمائة يعانون من داء الالتهاب الكبدي الفيروسي الذي يعد مرضا معديا..

وتابع:”على خلاف ما تنص عليه المعايير الدولية بتخصيص 4 أمتار مربعة لكل سجين تكتفي الحكومة بتخصيص متر مربع واحد فقط “.

وأضاف” ملف الشيك بلا رصيد يبقى عصا مسلطة على التونسيين ما دامت السلطة تصر على عدم تحيين قوانينها التي تعاقب بعض المرضى سواء كانوا متخلفين ذهنيا او مدمنين على المخدرات بسلب حرياتهم بدل ايوائهم بالمستشفيات على غرار ما حدث سنة 2016 لما تم سجن فتاة مختلة المدارك بعد ان أقدم والدها على اصدار شيكات باسمها.”

وختم بالقول: “حتى المرسوم الرئاسي الذي صدر مؤخرا في شأن ملف الشيكات بلا رصيد لم يأت بحل جذري بما انه اكتفى بالتنصيص على الغاء الخطايا المالية وفسخ جنحة اصدار الشيك من البطاقة عدد 3. هكذا اذن باتت بعض السجون بؤرا لاستشراء امراض جلدية وأخرى تنفسية تتراوح بين السل والسيدا والالتهاب الكبدي الفيروسي والجرب مما يعتبر تحديا صعبا تواجهه الإدارة العامة للسجون في ظل سياسية تشريعية قائمة على ان “المتهم موقوف حتى تثبت براءته” بغض النظر عن المخاطر الصحية والنفسية والاجتماعية التي تتهدّد القابعين وراء القضبان بل وحتى خارجها.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 جوان 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING