الشارع المغاربي: فوت رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم امس الاثنين في كلمته من بهو مقر ولاية سيدي بوزيد الفرصة للخروج من حالة الضبابية المتواصلة منذ يوم 25 جويلية بل وقد يكون زاد منها استنادا الى ما تضمنت كلمته المطولة والمشحونة من تناقضات في علاقة خاصة بتعليق العمل بالدستور من عدمه.
مرة اخرى، يباغت قيس سعيد الجميع ويختار بعد طول انتظار التوجه الى الشعب عبر كلمة بُثت مباشرة ولم تكن التلفزة الوطنية جاهزة لتأمينها وهي التي تم اعلامها ساعة ونصف تقريبا قبل انطلاق الخطاب حسب شهادات قدمها عدد من العاملين فيها ردا على انتقادات طالت هذا المرفق الاعلامي العمومي بسبب سوء التغطية التي ترتقي لفضيحة بكل المقاييس للرئاسة التي امعنت في الارتجالية.
العودة الى سيدي بوزيد التي شهدت ولادة مسيرة سعيد ودخوله معترك العمل السياسي بقبعة استاذ القانون الدستوري وكان له فيها اول خطاب ابان الثورة ،كانت بحثا عن رمزية اللحظة « الثورية» التي طبعت خطابه الحماسي تارة والمتشنج تارة اخرى وكانت هذه المرة مهد تفعيل مشروعه السياسي « اعادة التأسيس» الذي وضعه سعيد ضمن مسار تصحيحي ثوري لانفجار 17 ديسمبر ولاغلاق قوس « مرحلة الانتقال الديمقرطي» التي تأسست يوم 14 جانفي 2011 موعد « اجهاض الثورة» وفق القراءة التاريخية الخاصة بقيس سعيد .
احكام انتقالية
اعلن قيس سعيد يوم امس عن تواصل الحالة الاستثنائية 5 ايام قبل انقضاء الشهر الثاني من اقرارها عبر تفعيل الفصل 80 من الدستور يوم 25 جويلية 2021. لم يحدد سعيد اي سقف زمني لفترة التدابير الاستثنائية مع دخولها الشهر الثالث لكنه اكد في المقابل انه أعد احكاما انتقالية قال انه سيتم بمقتضاها تكليف رئيس حكومة جديد. سياسيا ودستوريا يُحيل الاعلان عن اقرار احكام انتقالية، حسب عدد من خبراء القانون الدستوري، الى تعليق العمل بالدستور وهو توجه كان سعيد نفسه قد نفاه منذ اسبوعين ليلا ايضا من امام مقر وزارة الداخلية بعد الجدل الذي اثارته تصريحات مستشاره وليد الحجام.
غير ان سعيد نفى في نفس الوقت اعتزامه تعليق العمل بالدستور من خلال تأكيده على ان هذه الاحكام الانتقالية التي قال انها ستستجيب لتطلعات الشعب، سيتم اقرارها من رحم الفصل 80. ايا كان من امر فان سعيد المتمسك بهالة الغموض والضبابية التي تمثل جزءا من هويته السياسية، سيعلن « قريبا او خلال ايام او في القريب العاجل» عن نظام مؤقت للسلط العمومية او دستور صغير تضبط فيه الصلاحيات في اتجاه نظام رئاسي وسيكون ذلك اول التغييرات السياسية الكبرى. وهذا التوجه قد يكون السبب الرئيسي وراء التأخير الحاصل في تكليف رئيس حكومة جديد .
ومن المرجج ان تتضمن الاحكام الانتقالية تعليقا جزئيا لبعض ابواب الدستور المتعلقة بالسلطتين التنفيذية والتشريعية وربما القضائية مع عدم المساس بباب الحقوق والحريات. وسيكون بذلك سعيد مستاثرا بمختلف السلطات عبر حكومة مسؤولة امام الرئيس بصلاحيات محدودة فيما ستحال صلاحيات المجلس النيابي للرئيس بما قد يمكنه من تمرير عدد من القوانين في شكل أوامر وقد يطرح القانون الانتخابي الجديد على الاستفتاء تمهيدا لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها رغم انه لم يشر اليها بأية اشارة في خطابه يوم امس.
وعن القانون الانتخابي الجديد يقول سعيد في خطابه يوم امس ان النائب سيكون بمقتضاه مسؤولا امام ناخبيه بما يحيل الى التصور الذي كان قد قدمه في حملته التفسيرية ومن ذلك سحب الوكالة. ونذكر في هذا السياق بتصور سعيد للقانون الانتخابي من خلال حواره الشهير مع اسبوعية «الشارع المغاربي» في جوان 2019 قال فيه «اقترح انشاء مجالس محلية في كل معتمدية وعددها 265 بحساب نائب عن كل معتمدية ويتم الاقتراع بالأغلبية على الافراد ولا يتم قبول الترشح من قبل الهيئة المعنية الا بعد تزكية المترشح من قبل عدد من الناخبين والناخبات مناصفة حتى يكون مسؤولا امامهم وأيضا حتى يتم تجنب الترشحات الهامشية وهذا في اعتقادي المعنى الحقيقي للتناصف والمجلس المحلي يتكون مثلا من 10 اعضاء الى جانب الاعضاء المنتخبين يضم تمثيلية لاصحاب الاعاقة ويضم مديري الادارات المحلية ان وجدت في المعتمدية بصفتهم ملاحظين لانه ليس لهم الحق في التصويت الى جانب هؤلاء المشرف على الامن في المعتمدية لا يتم تعيينه الا من قبل الادارة المركزية وبعد تزكيته من الاغلبية المطلقة من الاعضاء المنتخبين في المجلس المحلي الذي يتولى وضع مشروع التنمية في المعتمدية. بعد ذلك يتم الاختيار بالقرعة على من سيتولى تمثيل المجلس المحلي في المستوى الجهوي. مثلا ولاية تعد 10 معتمديات 10 اعضاء عن كل مجلس محلي يتم الاختيار عليهم بالقرعة ولكن يجب ان تكون المدة محددة حتى يكون هناك نوع من الرقابة الداخلية والمجلس الجهوي في مستوى الولاية بخلاف الاعضاء المكونين من المجالس المحلية يتكون أيضا من كل مديري الادارات دون ان يكون لهم الحق في تصويت يقدمون برامج ويتم التأليف بين مختلف المشاريع التي تم وضعها على المستوى المحلي يعني ما يوضع من مشاريع ينبع من الارادة الشعبية ووكالة النائب على المستوى المحلي يجب ان تكون وكالة قابلة للسحب».
ويقترح سعيد ايضا الغاء الانتخابات التشريعية ويقول في هذا الصدد «يتم التصعيد من المجالس المحلية الى الجهوية ثم الى البرلمان.» ويبرز في نفس الحوار ان» المركز سيكون تأليفا لمختلف الادارات المحلية التي يتم التعبير عنها بالشكل الذي اقترحت … بالنسبة للمجلس التشريعي بباردو أقترح ان يكون به 265 عضوا، بالنسبة للخارج يتم الاقتراع على ما يسمى بالقائمات المفتوحة.». وسعيد مع انتخابات من المحلي الى المركزي مفسرا ذلك بالقول» هناك انتخابات محلية تنتخب منها مجالس محلية وبالاقتراع يتم تشكيل مجلس جهوي ويتم اختيار نواب باردو من المجالس المحلية ولن تكون هناك انتخابات مباشرة لبرلمان باردو هناك تصور جديد».
نهاية البرلمان والمرور الى الجمهورية الثالثة
اكدت كلمة قيس سعيد يوم امس نهاية برلمان انتخابات خريف 2019 وسقوط المنظومة الدستورية والقانونية المؤسسة له وان كان ذلك سيعني خروجا عن الشرعية الدستورية ويضعه مثلما اشار عدد من المختصين امام اشكال في علاقة بشرعيته كرئيس للجمهورية فان ذلك لا يبدو مُهما بالنسبة لسعيد الذي يستند الى شرعية شعبية حرص على ابرازها عبر تقديم كلمته امام حشد من الجماهير من سيدي بوزيد كرمزية للعودة الى الشرعية الشعبية الثورية لاعادة البناء الديمقراطي استنادا مثلما يقول هو الى «سيادة الشعب»›.
هذه الخطة اثارت توجس جزء واسع من الفاعلين والنخب ممن اعربوا في ردود فعل اولية عن مخاوفهم من دخول البلاد مرحلة «الجماهيرية الشعبية» او «الجمهورية الثالثة القيسية». وان كان مشروع التعديلات التي طرحها سعيد يوم امس بضبابية من بين المطالب المطروحة والتي تسمى بـ«اصلاحات سياسية جوهرية»، فان فرضها بسياسة الامر الواقع ووفق تصور احادي هو اصل المشكل. وقد يفتح ذلك على سعيد اكثر من واجهة في الداخل والخارج الذي توجه له في مناسبتين بشكل مباشر في خطابه يوم امس ردا على ما سمي بالتدخل والضغوط الدولية التي مورست عليه للعودة للمسار الديمقراطي وللرد ايضا على خصومه الذين اتهموه في مسيرة «المسرح البلدي» وسط العاصمة بالعمالة .
من حيث المضمون كانت كلمة سعيد مفاجئة لغياب الوضوح خاصة ولإيغالها في التناقضات من ذلك الاعلان عن العمل بالأحكام الانتقالية والتمسك في نفس الوقت بانه يتحرك من داخل الدستور بالاضافة الى توجيه اتهامات خطيرة مع التعهد بعدم رفع اية قضية علاوة على التبجح باحترام القانون والدستور و«التكرم» بعدم التشديد في الاجراءات بما يتيح له وفق قوله وضع «اشخاص بعينهم» في السجون واخيرا السب والشتم واستعمال ألفاظ غير لائقة مع التشديد على ان «الحياء» حال دون الرد على «الاساءات التي طالت شخصه».
واللافت ان الاهم بالنسبة لسعيد ليس توضيح الرؤية او على الاقل الملامح الكبرى لمرحلة ما بعد 25 جويلية وانما الرد بأسلوب لا يليق برئيس جمهورية يقود عملية انقاذ على مسائل هامشية مقارنة بالاستحقاقات التي تنتظر البلاد. الرد بالتخوين والزبونية والانتهازية شمل هذه المرة خصومه التقليديين وايضا حلفاء الامس القريب الذين يبدو ان قيس سعيد لم يغفر لهم مخاوفهم من الدخول في المجهول أو حتى التحذير من تحول المؤقت الى دائم.
كلمة يوم امس ستضع مشروع قيس سعيد على طاولة النقاش وهو الذي يستعد لتفعيله بحذافيره رغم انه يوصف بالطوباوية والشعبوية ويُصنف بكونه اعادة رسكلة للنظام المجالسي. عديدون يُشبهون سعيد شكلا ومضمونا بالعقيد الراحل معمر القذافي وعديدون استغربوا اسقاطه التام للوضع الاقتصادي والمالي رغم خطورته ومحاولة استباق تعفن الوضع عبر اتهام اطراف لم يسمها كالعادة بافتعال الازمات واخرون يثمنون اصراره على «عدم الرجوع الى الوراء» مع اجماع على غرابة خطابه وحالة الغضب التي كان عليه.
ساعة الحقيقة اتية لا محالة على ضوء الصعوبات غير المسبوقة التي تعيش على وقعها المالية العمومية وهي وضعية تطرح فرضية مواجهة سعيد وحيدا نفس الشعب الذي حاول توظيف غضبه على عشرية الفشل لتمرير مشروع « اعادة التاسيس» عبر تحويل وجهة 25 جويلية من لحظة انقاذ الى لحظة سانحة للانقضاض ونسف كل الاشكال الوسيطة ، حسب سردية خصومه.
لكن يبقى سعيد عكس كل سابقيه، حالة سياسية استثنائية بغض النظر عن طبيعة مشروعه السياسي الغامض وغير قابل للتنفيذ وفق بعض القراءات. سعيد الرئيس الذي تمسك بوعوده الانتخابية شارك في 3 حملات انتخابية، سنة 2011 و2014 للحث على مقاطعة الانتخابات والثالثة سنة 2019 لاسقاط منظومة عشرية الانتقال الديمقراطي ولا يُعرف اليوم ان كان يمثل الحل لتونس ام انه يُشكل خطرا داهما على ما تبقّى من مؤسساتها.
نشر باسيوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 21 سبتمبر 2021