الشارع المغاربي: شاهدت المنجي الرحوي في القناة “التاسعة” وهو بصدد الدفاع عن حكم 25 جويلية مقيما تناقضا بين جماعة هذا التاريخ وما قبله داعيا الناس إلى المشاركة في الدور الثاني لانتخابات يوم 29 جانفي منعا للسابق من العودة، وفي الغد ظهر رفيق له للردّ عليه قائلا بأنهم فصلوه من المجموعة التي ينتسبان إليها مذكرا بأنه أصدر بيانا في انتخابات 2019 يدعو فيه إلى التصويت لنبيل القروي.
في تقديري أن هذه المواقف التي قد تبدو متضاربة في ظاهرها لا تحمل أي اختلاف جدي لأنها في نهاية الأمر تصطف في معسكر خصوم دولة الاستقلال ومدنيّة الدولة من ناحية وتؤشّر من ناحية أخرى على وجود أزمة كبرى يعيشها اليسار في تونس خصوصا بعد ظهور الحركة الإسلاميّة ودخولها الساحة السياسيّة تارة بإعانة من السلطة أيام حكم مزالي وأخرى بإعانة من المعارضات بمختلف ألوانها في فترة المرحوم ابن علي.
انخرطت في الحزب الشيوعي سنة 1981 معتقدا أن ما جاء في أدبيّات اليسار من نقد للفكر الديني ولمختلف مدارسه سيظهر في سياساته غير أني وجدت حزبا يفصل بين الفكر والسياسة ويعطي الأولويّة للمواقف الظرفية اليوميّة. ففي مسألة الحركات الإسلامية ومن خلال جريدة “الطريق الجديد” وبيانات الحزب والكراس الذي أصدره لبيان موقفه من الإسلام اقتنعت بأنه لا يُقدّر تقديرا سليما مدى خطورة هذا النوع من التنظيمات التي تخلط الدين بالسياسة لقصور في فهمه للمسألة الدينيّة من مصادرها الأصلية، إذ يذهب في اعتقاده أن الأديان جميعها متشابهة يمكن التعامل معها بمسطرة واحدة، والحال أن نتائج إدراج الخطاب الديني في العملية السياسية تختلف من دين إلى آخر فتجد الحزب يستعير مفاهيم الآخرين عن المسيحية والمسيحية الديمقراطية أساسا ويلبسها الإسلام معتقدا أن ما يصحّ على الأولى يصحّ ضرورة على الثانية والحال أن الفرق بينهما شاسع. فالمسيحية تقوم على التبشير أما الإسلام فإنه يقوم على فكرة الجهاد والدعوة التي تحمل قدرا من الإكراه الى بجانب أحكام الردّة وأهل الذمّة وهو ما يفسّر تفرّد الإسلام من بين الديانات جميعها بأنه الدين الوحيد الذي يفجّر فيه منتسبوه أنفسهم لقتل المخالفين لهم،اعتقادا منهم أنهم مأمورون بذلك شرعا ويثابون عليه في الآخرة. هذه الفوارق تغيب لدى مدّعي اليسارية في تونس. ومن غرائب ما وقع فيها خلال سبعينات القرن الماضي وما بعده أن أسماء وتنظيمات يساريّة أشادت بما سُمّي اليسار الإسلامي والثورة الإيرانيّة وكتبوا في ذلك من المدحيّات ما لا عدّ له ولا حصر في جرائد “الرأي” و”المستقبل” و”الطريق الجديد” و”الصباح” وفي مجلة “أطروحات” و”التقدم” وفي غيرها .
لم تكن المواقف التي اتخذها اليسار بمختلف “حوانيته” من الإسلام دينا وتراثا في تونس مؤسّسة على فهم سليم لطبيعة الإسلام وارتباطه بالمسألة الاجتماعيّة. ذلك أن اليسار لدينا فصل بين المسألة الاجتماعية ونسيجها الذي هو بالضرورة بنيتها الفكرية التي يحضر فيها الإسلام معتقدا وعادات وتقاليدا حضورا قويا، هي بنية تقليدية لا أفق لها لأن المستقبل فيها موجود في الماضي أي في الرجوع إلى سيرة السلف الصالح.غياب نقد الفكر الديني لدى اليسار منعه من الخروج من الموقف الآني اليومي وهو ما مكّن الإسلام السياسي من التراجع حتى عن بعض المواقف الإصلاحية التي خرجت من تحت عمائم رجال الدين كالدعوة إلى فتح باب الاجتهاد وإلغاء الخلافة وتحرير المرأة لنجد أن هذه المحاولات أُجهضت ووقع الارتداد عليها إلى مواقف أشد انغلاقا وتطرّفا ويُبسا وليس أدل على ذلك من خطاب وممارسة حركة النهضة طوال العشريّة الماضية.
إن الدفاع عن الجماهير الشعبية في مطالبها الحياتيّة اليومية مطلب أساسي ولكنه لا يعني مناطحة البنك الدولي وشروطه أو الدعوة إلى الإبقاء على الدعم وعدم التفريط في المؤسّسات العموميّة بالبيانات والتصريحات وكفى الله المؤمنين شرّ القتال، إنما يعني بالأساس ترشيد الجماهير ومساعدتها على امتلاك حسّ نقدي يمكنها من الفرز بين أوّلا الأعداء الحقيقيّين الذين يستهدفون أخونة المجتمع والعودة به إلى عصر أهل الذمة والردّة وقطع الأيدي والأرجل بخلاف وثانيا المنافسين الذين قد يختلفون حول قضايا ومسائل جزئية في التوقيت أو في الأولوية ولكنهم يلتقون حول مشترك وطني جامع يقوم على الحفاظ على الدولة المدنيّة ومفهوم المواطنة بما يشمل من حقوق وواجبات يتساوى فيها الجميع بصرف النظر عن أيّ من المحدّدات الأخرى والإعلاء من حقوق الإنسان كل ذلك حتى تتمكن الجماهير الشعبيّة من الفرز بين الخصوم والمنافسين دفاعا عن نفسها.
والمؤلم حقا أننا نجد النخب المدنيّة والعلمانيّة التي كان من المفروض أن تتقدّم وتحتلّ موقع الطليعة في هذه المعركة الحضاريّة تتعامل مع المسألة الدينيّة بتكتّم واحتشام رافعة شعار “إذا عصيتم فاستتروا” متخفّية وراء بيانات سياسيّة مراوغة لا أثر لها في الواقع.
هذه الاستقالة التي اختارها “اليساريّون” والهروب من المعارك الأساسيّة أدت بهم إلى انتهاج أسهل الحلول للبقاء في ساحة سياسيّة لا تأثير لهم فيها فتجدهم يسارعون إلى الارتباط بمن يعتقدون أنهم يمكن أن يوفّروا لهم مقعدا في السلطة أو في المعارضة لمجرد الظهور. حدث ذلك قبل سنة 2011 وبعدها لمّا انخرط بعضهم في التجمّع الدستوري الديمقراطي والتحق قسم آخر بجبهة 18 أكتوبر واتجه نوع ثالث إلى مساندة الشاهد وحزبه ورابع لم يتورّع عن الوقوف في صفّ الإخوانجية بصفاقة ما لها نظير وخامس يقف اليوم في خندق قيس سعيد، وهو ما يؤشر على أن ما سُمّي يسارا لدينا لا يقف على أرضيّة فكريّة ونظريّة صلبة وانما تتراوح مواقفه حسب ما يظهر من مصلحة آنيّة ظرفيّة لنجد الانقلاب من الموقع إلى نقيضه دون تفسير أو تبرير، والأمثلة على ذلك تندّ عن الحصر آخرها انخراط وجوه يساريّة تاريخيّة في ما سُمي بجبهة الخلاص الوطني التي تحرّكها حركة النهضة لخدمة أغراضها.
إنّ ما ظهر من خلاف بين العلوي والرحوي لا يعتدّ به. فمساندة أحد الطرفين أو رفض الآخر لا تعني أن هناك موقفين متعارضين لأن قيس سعيد وحركة النهضة يصدران عن نفس الأرضيّة الفكريّة المذهبيّة والخلاف بينهما لا يتجاوز التموقع السياسي لهذا الطرف أو ذاك ضمن نفس السياق الفكري والمعرفي وتذكروا مليّا أن مشروع دستور حركة النهضة لسنة 2012 جاء حاملا سعيها إلى تطبيق الشريعة وهو ما نفّذه لهم قيس سعيد في دستور جوان 2022 في فصله الخامس. كما أن الجمعيّات الدينيّة وعلى رأسها بؤرة القرضاوي التي أسّستها الحركة تجد الحماية كاملة من طرف حكم 25 جويلية هذا فضلا عن أنه لم تتم مقاومة الفساد الذي استشرى طوال حكم النهضة. كما لم يتم فتح ملفات الإرهاب والتسفير والجهاز السري والأموال المشبوهة بجدية وبقيت تراوح مكانها. والمستفاد ممّا ذكر أن اليسار اليوم يتخبّط خبط عشواء ولم يتبيّن الى حد الآن أن الخط الوطني الحقيقي لا تمثله لا حركة النهضة وتوابعها ولا قيس سعيد ومن سمّوا أنفسهم بالمفسرين بل هو الخط الذي يمثله اليوم الحزب الدستوري الحر الذي يرفض وجهي العملة الواحدة قبل وبعد 25 جويلية والذي أثبت صدقه وثباته وصلابته في مقاومة الإخوانجية وعملائهم حيثما وجدوا.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 جانفي 2023