الشارع المغاربي – شجرة‭ ‬الحوار‭ ‬لن‭ ‬تُزهر‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬سقتها‭ ‬إضافات‭ ‬المفكرين‭/!‬ بقلم: ‬رافع‭ ‬الطبيب‭ ‬

شجرة‭ ‬الحوار‭ ‬لن‭ ‬تُزهر‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬سقتها‭ ‬إضافات‭ ‬المفكرين‭/!‬ بقلم: ‬رافع‭ ‬الطبيب‭ ‬

قسم الأخبار

18 مايو، 2022

الشارع المغاربي: حين تعجز الآليات الديمقراطية المعتمدة في نظام سياسي عن حلحلة الأوضاع أو حل عقدة مستعصية، يختار الفاعلون في الشأن العام من أحزاب وجمعيات اللجوء الى تعليق المرجعية الانتخابية وموازينها التمثيلية والاحتكام الى حلول وتوافقات عبر رافعات مستحدثة أو من الموروث الوطني وأبرزها الحوار الجامع لأوسع الطيف المجتمعي. الا ان اللجوء الى الحوار لا يمثل قاعدة أو محطة عادية بل هو لحظة نادرة في المسار السياسي باعتباره خروجا عن مبدإ التسيير العادي للدولة وتعليقا لنواميس الحكم المؤسساتي. لذا، نادرا جدا ما تنظم الديمقراطيات العريقة حوارات وطنية توازي في مساراتها عمل المؤسسات المنتخبة او الممثلة للأجسام المجتمعية.

في المقابل تتعدد في الانظمة التي عجزت عن بناء مؤسسات تحظى بتمثيلية حقيقية للواقع المجتمعي وتترجم تنوعه وديناميكياته العميقة محطات التعطّل والعجز عن حل الاشكالات وتجميع الغالبية الفعلية حول رؤى وسبل للتجاوز. ازاء هذا الفشل الهيكلي للهندسة السياسية، تتعدد الدعوات الى عقد الحوارات الوطنية وتتحول الى طقس من طقوس الفعل السياسي العادي ويؤرخ بعضها لمراحل الانتقال عوضا عن الاختيار الشعبي الحر والواعي ضمن آليات بناء وتجديد دوري للشرعيات.

ولأن البناء المؤسساتي وآلياته في تونس ولدت بعد مخاض الدستور في 2014 مشوهة على ايدي أحزاب لا تحمل اي مشروع مستقبلي يحكمه اطار مرجعي متناسق يؤسس لدولة تشبه شعبنا وتعبّر عن تنوعه واستقلاليته وسيادة قراره وانحيازه لمبدأ التداول السلمي على المسؤولية وتحييد المرفق العام واعتبار جهاز الحكم تجسيدا لفضاء العيش المشترك، مثّلت الحوارات الوطنية بشكل مكثف وبتواتر غير طبيعي البديل العملي للتسيير المؤسساتي وتعويضا له. فمن قرطاج I الى قرطاج II  الى دعوات المركزية النقابية تأسيسا على تجربة 2013، كان البحث عن مخارج للأزمات بعيدا عن الآليات التي ضمنها نظريا الدستور هو الأفق الوحيد امام طبقة سياسية لم يكن الخلق والابداع احدى مزاياها.

اما اليوم فبعد حل المجلس النيابي وتصفية التركة المؤسساتية للنهضة او بعضها من هيئات دستورية صورية وبناء على الحاح دول غربية فقدت مقومات هيمنتها في ساحات عالمية عدة ولم يبق لها سوى تونس وبعض شبيهاتها لممارسة “الدعوة والتبشير الديمقراطي” وتفاعلا مع رغبة المنظمات الوطنية التي صمدت امام الانجراف الشعبي، يبدو ان الرئيس قيس سعيد عقد العزم على تنظيم حوار وطني بهندسة لم تتوضّح معالمها بعد ولم تحدد حدود مجالها الحزبي ولم يبح بعد بمآلاته المرتقبة.

ان اي حدث سياسي لا يحلّل كفعل معزول بل يُقرأ ضمن سياقاته والحوار الوطني يندرج ضمن بنية المسارات التي انتهجت في تونس منذ 2019 وخاصة منذ ان نجح قيس سعيد في الارتقاء الى مصاف اللاعب الابرز في الساحة والمحرك الحصري للمبادرات داخلها على وقع انتفاضة 25 جويلية وما ترتّب عنها من اعادة رسم الخرائط السياسية.  من المؤكد ان الرئيس سعيد لن يتنازل عن المساحة التي استحدثها عبر الاستشارة الالكترونية وسيتمسك بنتائجها متجاوزا كل الأراء التي حاولت تنسيب تمثيليتها. كما سيعمل على حصر النقاشات داخل المبحث القانوني والدستوري وبشكل عرضي المعيشي والاقتصادي دون غيره مع الضغط للوصول الى نتائج تدعم السير السريع نحو المحطات الانتخابية والتي يعتبرها سعيد فصل المقال شعبيا لمشروعه وختما لمرحلة قبل فيها الاحتكام لغير الشعب.

والسؤال الذي يتبادر للذهن اليوم هو “ما الذي سيجعل هذا الحوار ناجحا ويتخطى اخفاقات سابقيه؟.”  ان الخطوة المنهجية الأولى للإجابة عن هذا التساؤل لا يكون بإنكار التجارب الماضية وحجب مراكماتها بل بتحليل مكامن الضعف وتحديد الانحرافات من لحظة التأسيس الى اعلان النتائج.  لن يقطع الحوار الذي دعا اليه الرئيس مع محطاته المماثلة في السابق الا باعتماد المنهج والتمشي والمبدأ والقيم التالية:

1-        لقد انحصرت كل الحوارات السابقة داخل اسوار الفعل الحزبي والنقابي والحقوقي وأهملت الفضاء الفكري واصحاب الرأي من النخب المثقفة والاكاديمية وحاملي المشاريع التي تهدف لبناء مجتمع التميز والابداع وانجاز حلم العبقرية التونسية في تصوّر نظام يعلي قيمة الذكاء والخلق. اذا استمر مسار الحوار باستثناء او استبعاد النخب الفاعلة في الحقل الفكري، فلا مجال للحديث عن قطع مع منظومة الخواء والفراغ وسيكون لقاء المتخاطبين اعادة رسكلة مفاهيم تجاوزتها الاحداث وأنساق الابداع محليا وعالميا.

2- ان هدف السياسي في التمثّلات الشعبية هو خدمة الناس وتوفير الخدمات وفي وضعنا الحالي، تحسين الظروف المعيشية الصعبة لأوسع المكونات الشعبية. لذا، لن يحظى الحوار بمتابعة من الناس الذين تسحقهم الازمة الاقتصادية ولن تحفزهم مخرجاته الا اذا اقترنت، على ارض الواقع، في الاسواق والمدارس والمستشفيات ومكاتب البريد وغيرها من فضاءات الوجع الشعبي بتحسّن ملموس وطفرة نوعية للخدمات وانخفاض متواصل للأسعار.

3- من المؤكد ان هذا الحوار لن يضمن مشاركة الجميع وانه سيضع جملة من الشروط الاقصائية لمجاميع حزبية اختارت القطيعة مع المسار السياسي الذي اطلقته انتفاضة 25 جويلية او التنظيمات التي لا ترى في الحوار بديلا عن حالة الانسداد المتعدد الابعاد الذي خلقته جملة من الظروف والمواقف. الا ان الحوار بطبيعته لا طائل من عقده اذا بني على تصور توافقي يلغي الجدل والتناقض والصراع. من المبدئي ان تكون قاعدة الحوار التمسك بالسيادة الوطنية والاستقلال والقطع مع فساد المنظومة السابقة ولكن لا بد من تقليص مساحات العزل والتهميش والاقصاء. يجب ان يسعى القائمون على هذه المبادرة لحشد كل ابناء تونس من حملة التصورات باختلافها وتناقضاتها دون احكام مسبقة.

4- ان المطروح على مائدة المتحاورين يتجاوز مجرد التفكير في مخارج للمأزق الحالي والحيني ومن المأمول ان يكون لهم الوعي بأن مجمل الحياة السياسية وما يترتب عنها مجتمعيا سيكون مادة النقاش والتفاعل والتأليف. فلا مجال لحصر الحوار داخل دوائر التشابه والتماثل في الوظيفة والاختصاص ومجال الخبرة والرأي السياسي ومركز الاهتمام. لن تُزهر شجرة الحوار الا اذا سقتها افكار الفلاسفة والفنانين وعلماء الانسانيات والمؤرخين وتحاليل الاستراتيجيين وتوجيهات رجالات الدولة الحقيقيين من كل الأجيال والنخب العلمية والأطباء وممثلي القطاعات المهمّشة وكل من يحمل مشروعا يخدم البلاد.

لقد لامس الفعل السياسي خلال الاسابيع الاخيرة القاع بكل صوره وقدم لنا أسوأ المشاهد عما آلت اليه الأمور داخل ساحة مفكّكة تحكمها الاشاعة والإثارة والفلكلور الحزبي وغياب الوازع الأخلاقي والقيم. هذا السقوط أسهم في تفشي النفور الجماعي من السياسة وخطاباتها. فعديد الأحزاب تحوّلت الى اجهزة تؤثث مشهدية مقرفة لصراع عبثي لا يستأثر باهتمام الناس ولا يغيّر مسارات الأحداث لفراغ المضامين وضحالة المحتوى الفكري والبدائل.

هذا الوضع يمكن ان يمثل فرصة اختراق امام الحوار اذا نجح في القطع مع بؤس المشهد السياسي والصراعات العبثية للبرلمان المُحَل وأسس لجدلية الفكر والفعل وقدم منصة تحظى باحترام الشارع لانها تعلي قيمة الابداع والتجديد.

افتتاحية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 17 ماي 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING