الشارع المغاربي : أن يأتيك “الحراك الإصلاحي” متأخّرا بأكثر من ستّة عقود خير من أن لا يأتي أبدا. و”الحراك” أتى هذه المرّة من مؤسّسة عظيمة في العالم الإسلامي السنّي في حجم جامعة الأزهر المصرية، المؤسّسة الدينية العلمية الإسلامية العالمية الأكبر وثالث أقدم جامعة بعد جامعة الزيتونة التونسية والقرويين المغربية. جاء “الوميض” أو الرجّة على لسان شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب لمّا صرّح أخيرا في برنامجه الأسبوعي على الفضائية المصرية” أنّ تعدّد الزوجات “ظلم للمرأة” وليس “الأصل” في الإسلام وأنّه “مشروط ومقيّد”، مضيفا أنّ الحبيب بورقيبة كان على حقّ عندما جرّم تعدّد الزوجات لأنّه قانون يظلم المرأة. وفصّل قوله موضّحا أنّ مسألة تعدّد الزوجات تشهد ظلما للمرأة وللأولاد في كثير من الأحيان، وهي من الأمور التي شهدت تشويها للفهم الصّحيح للقرآن الكريم والسنّة النبوية، لذا وجب قراءة الآية التي وردت فيها مسألة تعدّد الزوجات في سياقها العام دون اقتصار على جزء مقتطع”مثنّى وثلاث ورباع” والتغاضي عن “فإن خفتم ألّا تعدلوا فواحدة”، وهو المقطع الذي يشير معناه في قراءة مقاصدية “سهمية” إلى أنّ القرآن الكريم يتّجه صوب العدل والحرية والكرامة للمرأة وينبذ “التعدّد” وهذا متوقّف على درجة الوعي وعلى مستوى التمدّن والرقيّ الاجتماعي.

لم يكتف شيخ الأزهر بقوله وتصريحه التلفزي بل أصّله فكريا معتبرا أنّ أولى قضايا التراث التي تحتاج إلى تجديد هي قضايا المرأة، لأنّ المرأة هي نصف المجتمع، وعدم الاهتمام بها يجعلنا كما لو كنّا نمشي على ساق واحدة. تصريح وتأصيل أحمد الطيب هو وميض قادم من مصر في مناخ عربي تسوده العتمة والتزمّت الديني، وهو أيضا اعتراف يأتي من رأس أكبر مؤسّسة “حارسة” للإيمان السنّي يؤكّد في أهمّ دلالاته أنّ الزعيم الحبيب بورقيبة لم يكن مناضلا تحريريا ومشيّدا لدولة فتيّة فحسب، بل هو الرجل الذي جمع بين قوّة الاستشراف السياسي وبعد النّظر والهمّ الإصلاحي، وأنّ إيمانه بتحرير “نصف المجتمع” أي المرأة كما كان يردّد في خطبه شرط ضروري وأوّلي للنهوض والتقدّم والتحديث، كما قال شيخ الأزهر بالضبط بعد أكثر من ستّة عقود.

كان بورقيبة مجدّدا ورائدا إصلاحيا بامتياز، وقوّته تكمن في خوضه المعارك التي لم يجرؤ أحد على مقاربتها والتي أثمرت توحيدا للقضاء وإرساءا لتعليم مدني عصري وتحريرا للمرأة جاء أشهرا قليلة بعد الاستقلال.

لقد وضعت مجلّة الأحوال الشخصية المدوّنة التقدّمية التونسية المرجع، المجتمع التونسي على درب التحديث الفعلي:ضيّقت أحكام الطلاق لتجعله من مشمولات القضاء فحسب، حدّدت سنّ الزواج لتقضي على الزواج المبكّر، كما منعت الزواج السرّي والعرفي وجرّمت تعدّد الزوجات…كان بورقيبة على حقّ فعلا، والتاريخ بصدد إنصافه بعد أن أنصفه التونسيون إخلاصا واعترافا بجميله الإصلاحي عليهم وتشبّثا بمنجزاته الحداثية …كان على حقّ لمّا منع “تعدّد الزوجات” في تونس في 56 بناءا على قراءة مقاصدية تجديدية للنصّ الديني الذي تمثّله بورقيبة كنصّ منفتح بل ومتّجه نحو القيم الإنسانية العليا كالحريّة والمساواة والكرامة الإنسانية… تعرّض بورقيبة حينها لهجوم حادّ من فقهاء الشرق وصل حدّ التكفير.

كان محرّرا ومصلحا ومجتهدا مكافحا ضدّ التخلّف والانحطاط والانغلاق الديني وعارفا بقيمة وأهمّية دوره التاريخي التحديثي…يقول الزعيم المؤسّس في إحدى خطاباته “هم يناضلون لقطع الأيادي والرؤوس ونحن نناضل لتبقى الرؤوس شامخة والأيادي مرفوعة” رحم اللّه بورقيبة.

صدر بأسبوعية الشارع المغاربي” في عددها 161.