الشارع المغاربي : كان لقرار البنك المركزي الأخير المتعلق بالترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية ب100 نقطة دفعة واحدة و ذلك للمرة الثالثة على التوالي في أقل من سنة وقعا صاعقا على كل الشعب التونسي و بجميع مكوناته الحزبية المعارضة و المنظمات الوطنية و الجمعيات المدنية.
هذه القرار بالزيادة في نسبة الفائدة الرئيسية إلى مستوى 7,75 بالمائة وهو الخامس من نوعه منذ سنة 2017 لم يفاجئ المتابعين لمجريات الوضع الاقتصادي المرتهن للخارج لأنه يأتي تنفيذا للتعهدات المبرمة بين كلا من البنك المركزي و الحكومة من جهة و صندوق النقد الدولي بضغط من الاتحاد الأوروبي و خاصة الطرف الفرنسي بالذات من جهة أخرى. وذلك بالرجوع إلى رسالة النوايا و مذكرات السياسات الاقتصادية و المالية الموجهة إلى المديرة العامة لصندوق النقد الدولي بتاريخ الثاني من شهر ماي 2016 و الموقعة من طرف محافظ البنك المركزي السابق و وزير المالية آنذاك. حيث جاءت هذه النقطة من ضمن التزامات الحكومة بتقريب نسبة الفائدة الرئيسية من نسبة التضخم.
الملفت للانتباه أن هذا القرار جاء اثر اتفاق الزيادة في أجور الوظيفة العمومية كما تزامن مع ما تردد من زيارة وفد صندوق النقد الدولي في شهر جانفي 2019. هذا القرار الذي يدخل في باب فرض سياسات التقشف التي يمليها صندوق النقد الدولي و كل من يقف ورائه سوف ينهك قدرة الشرائية للمواطن المكبل بالديون البنكية و سوف ينهك المؤسسات الوطنية الخاصة منها و العمومية و سوف ينهك أيضا و بدرجة كبيرة خزينة الدولة التي أصبحت تلتجؤ للاقتراض من البنوك الخاصة بنسبة الفائدة المتعامل بها في السوق المالية بعد ما كانت تقترض مباشرة من البنك المركزي بدون فائدة. و ذلك بمقتضى المادة أربعة من الفصل 25 للقانون عدد 2016-35 المؤرخ في 25 أفريل 2016 و المتعلق بتغيير القانون الأساسي للبنك المركزي بدعوى الاستقلالية.
و لكن الغريب في الأمر هو ما قدمه البنك المركزي من تبريرات لهذا القرار الجائر في حق الاقتصاد الوطني. حيث وصفه بكونه خطوة استباقية للتحكم في ارتفاع نسبة التضخم وهو تبرير غير صائب و يحتمل مغالطات كبيرة.
وللتوضيح فإن التضخم الذي يعرفه الاقتصاد التونسي هو ما اصطلح على تسميته اقتصاديا “بالتضخم المستورد” بالنظر إلى استفحال العجز الجاري في ميزان الدفوعات في علاقة باستفحال العجز التجاري الذي ارتفع إلى مستوى خطير في مستوى 29 مليار دينار في سنة 2018 في النظام العام أي بنسبة تغطية للواردات بالصادرات في حدود 27 بالمائة وهي نسبة خطيرة تبين مكمن الكارثة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد خاصة منذ 2012 إلى اليوم. و قد اعترف البنك المركزي في بيانه الأخير ما مفاده أنه “رغم التحسن الإيجابي في مداخيل السياحة و في تحويلات عمالنا بالخارج فإنه لم يمكن من تغطية العجز الخطير (و الوصف للبنك المركزي) للميزان التجاري الذي اثر سلبا على رصيد الدولة من العملة الأجنبية”.
وهذا اعتراف واضح في الحقيقة لما دأبنا على التنبيه عليه منذ عدة سنوات. حيث تُبيّن المؤشرات الرسمية أن عائدات السياحة و تحويلات عمالنا بالخارج التي لا تتعدى الثمانية مليار دينار سنويا في أحسن الحالات فهي لا تُمكّن من تغطية عجز تجاري في حدود 29 مليار في سنة 2018 و الذي يتعمق من سنة إلى أخرى في علاقة بتدهور قيمة العملة الوطنية مقارنة بالعملتين الأساسيتين اليورو و الدولار الأمريكي المتعامل بها في مبادلاتنا التجارية مع الخارج.
بمعنى واضح أن زعم الحكومة الحد من العجز التجاري و التحكم في نسبة التضخم المالي في وضع الحال عبر تنفيذ سياسة نقدية هو إجراء مجانب للصواب حمّال لمغالطة كبرى من شأنه الإضرار بالاقتصاد الوطني . و الدليل أن كل القرارات الممررة عبر السياسات النقدية التي اتخذتها الحكومة منذ عدة سنوات باءت بالفشل و أدت إلى مزيد تعميق نسبة التضخم و تعميق العجز التجاري للبلاد. من ذلك فقد تم الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية من 3,75 بالمائة في أواخر 2013 إلى 6,75 بالمائة في سنة 2018 غير أن نسبة التضخم استفحلت من سنة إلى أخرى و وصلت إلى حدود 7,6 بالمائة في سنة 2018 مما يثبت أن الزيادة في نسبة الفائدة لم تجدي نفعا بقدر ما أدت إلى نتائج معاكسة تماما لما ادعته الحكومة. و نفس الشيء بالنسبة للعجز التجاري الذي تعمق من سنة إل ى أخرى بصفة خطيرة حيث ارتفع من 20 مليار دينار في سنة 2016 إل ى 29 مليار دينار في سنة 2018.
الإضرار بالاقتصاد الوطني ممنهج و متواصل
ما يحصل من زيادات متتالية في نسبة الفائدة الرئيسية على مستوى البنك المركزي هو في الحقيقة سياسة ممنهجة لا يمكن فصلها عن الزيادات المُشطّة التي فرضتها الحكومة على أسعار الطاقة في السنة الماضية سواء على مستوى الاستهلاك العائلي بنسبة 13 بالمائة دفعة واحدة أو على مستوى المؤسسات التي ارتفعت بأكثر من 50 بالمائة بين شهر ديسمبر 2017 و شهر ديسمبر 2018. وهو قرار ضرب في الصميم القدرة التنافسية للمؤسسات الوطنية العمومية منها و الخاصة و سوف يكون له تداعيات خطيرة سوف تؤدي إلى مزيد إفلاس لما تبقى من قطاعاتنا الوطنية المنتجة و لمزيد تعميق نسبة البطالة ليتهيأ الأمر للشركات الأجنبية للاستحواذ على سوقنا الوطنية و الاستحواذ على ثرواتنا و مؤسساتنا الوطنية خاصة في إطار مفاوضات اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق الذي يضغط الاتحاد الأوروبي للتوقيع عليه بأسرع وقت ممكن.
كما يجب التذكير بتدهور سعر الدينار الذي فقد أكثر من 84 بالمائة من قيمته بين سنة 2010 و سنة 2018 وهو كذلك ضرب في الصميم للاقتصاد الوطني عمق نسبة المديونية و عمق العجز التجاري و أشل كل محاولة لدفع الاستثمار الداخلي المنتج نظرا لكلفة توريد التجهيزات من الخارج و لكلفة توريد المواد الأولية و النصف مصنعة الخاصة بالإنتاج. مما عطل المسيرة التنموية في البلاد و أدى إلى ارتفاع متزايد لنسبة البطالة مما دفع بهجرة غير مسبوقة للأدمغة الوطنية من شبابنا المثقف و العاطل عن العمل.
الحكومات المتتالية مررت تقريبا كل البنود المهمة لاتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق “الأليكا”
من هذا المنطلق نعتقد أن كل ما تم اتخاذه من إجراءات تشريعية و إدارية سواء من طرف الحكومة أو من طرف البنك المركزي تصب بالأساس في تمرير كل البنود و عددها 12 بندا المتعلقة بمشروع اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق حتى تصبح مسألة التوقيع على هذا الاتفاق مجرد إجراء يكرس واقعا ملموسا في البلاد.
و لمزيد التوضيح نلاحظ أن تمرير قانون الاستثمار في سنة 2016 و قانون الشراكة ين القطاع العام و الخاص و قانون الصفقات العمومية و قانون المنافسة و الأسعار و قانون البنوك و المؤسسات المالية و القانون الأساسي للبنك المركزي و أخيرا القانون المتعلق بالسلامة الصحية للمواد الغذائية و أغذية الحيوانات الذي تمريره مؤخر كلها تصب في خانة البنود الخاصة بتكريس مشروع الأليكا و التي تضم البنود التالية :
. 1/ تحرير تجارة الخدمات
2/ إقرار حق الانتصاب و حماية الاستثمارات
3/ تحرير تجارة المنتوجات الفلاحية و المنتوجات الفلاحية التي يتم تحويلها و منتوجات الصيد البحري.
4/ المطابقة للإجراءات الصحية و الصحة النباتية المعمول بها في الاتحاد الأوروبي
5/ تحسين جودة و أمن المواد الصناعية لتسهيل تجارتها في الاتحاد الأوروبي
6/ الصفقات العمومية
7/ الشفافية في الإجراءات التنظيمية
8/ الإجراءات الديوانية و تسهيل المبادلات
9/ السياسة المتعلقة بالمنافسة
10/ الملكية الفكرية
11/ الإجراءات الخاصة بالحماية التجارية
12/ التنمية المستديمة
يتبين إذا بوضوح أن كل البنود تقريبا تم تضمينها من طرف الحكومات المتتالية بواسطة قوانين تم تمريرها في نجلس نواب الشعب بطريقة تضليلية و في غفلة من عديد الجهات سواء كانت سياسية أو منظمات مهنية إلا القليل منها و ذلك في إطار صفقة مفادها تمرير اتفاق “الأليكا ” و تمكين الطرف الأجنبي من مفاصل البلاد مقابل التمكين من سلطة جوفاء.
لذلك يتبين اليوم بأكثر وضوح أن تونس أصبحت سيادتها مصادرة من الاتحاد الأوروبي بصفة خاصة و بتواطئ مع الأحزاب السياسية الفاعلة و بواسطة الحكومات التي تزكيها منذ 2011. و لم يبق إلا التعويل على الحس الوطني الشعبي لفرض تغيير جذري يمكن من إخراج البلاد من هذا المستنقع الرهيب.
صدر بأسبوعية”الشارع المغاربي” في عددها 160.