الشارع المغاربي – ضحكٌ على الذقون،تزييف للوقائع،وتزوير متواصل للتاريخ:"إفلاس الدولة في القرن 19 ونفاق النُخب التونسية"/ بقلم عبد الحق الزموري

ضحكٌ على الذقون،تزييف للوقائع،وتزوير متواصل للتاريخ:”إفلاس الدولة في القرن 19 ونفاق النُخب التونسية”/ بقلم عبد الحق الزموري

قسم الأخبار

4 فبراير، 2023

الشارع المغاربي: تؤكد الصحائف القديمة والحديثة للباحثين التونسيين على أن مسار إفلاس الدولة التونسية في القرن التاسع عشر بدأ مع هروب القائد محمود بن عياد (ت 1880) (حاكم بنزرت وجربة برتبة وزير، ومُلتزم ضرائب الدولة لمدة خمس سنوات) بخزينة الدولة وبما حصّله من ثروات هائلة، وتُجمعُ الروايات منذ ذلك الحين على تفَاجُئِ النخبة الحاكمة وصدمتها مما أتاه ابن عياد، وما انجر عنه إعلان القطيعة معه، وتكليف خير الدين التونسي( ت1889) بمقاضاته أمام القضاء الفرنسي.
هرب ابن عياد إلى فرنسا في جوان 1852، ومُنِح الجنسية بمرسوم امبراطوري في سبتمبر من نفس السنة (كان قد تقدم – سِرًا – بطلب الحصول عليها منذ عام 1850). كانت كل الطبقة السياسية على علمٍ بما يُخطط له الرجل، بل إنّ أباه (محمد بن عياد) قد حذّر أحمد باي( 1837-1855) ووزيره مصطفى خزندار(ت1878) من خيانة ابنه، وحدد لهم بالتفصيل حمولة المركب التي ستنقله إلى فرنسا، ولكن الباي اعتبر صنيع الأب وشايةَ حسدٍ، وضرب خزندار تكتّمًا شاملا على تلك “الفضيحة”، حتى عجزت خزينة الدولة (الفارغة) عن الإيفاء بالحاجيات الأساسية، فاضطُرّ إلى مصارحة أحمد باي بالكارثة، بعد عام من الهروب (جوان 1852 – جوان 1853)، قبل أن يحشُر السارقُ الدولةَ في الزاوية بأنْ اشتكاها إلى فرنسا وطالبها بتسديد ما عليها له؛ لم يجد الباي بُدًا – عندها – من تكليف خير الدين بتمثيل الدولة أمام القضاء الفرنسي في القضية (1853 – 1857).

كانت كل الطبقة السياسية يومها على علم ودراية بفصول “المسرحية”، بل إنّ بعضهم كان متواطئا في تفاصيلها، ولكن الجميع (ممثلين ومخرجين وكومبارس ومشاهدين) أظهروا تفاجؤهم بما حصل، وأَلَمَهُمْ مما آلت إليه الأمور، وحُبِّرتْ الصفحات حول حالة الذهول والاعتراض عمّا أتاه محمود بن عياد، الذي حُمِّلَ الوِزْرَ الكامل لنفاق الطبقة الحاكمة آنئذٍ. كان خزندار يعلم تفاصيل هروب ابن عياد وحجم الكارثة التي تركها وراءه (بل وتثبت تقارير محاكمة هذا الأخير في فرنسا تورطه معه)، ورغم ذلك لم يتدخل لأشهر عديدة لمنع وكلاء ابن عياد من جمع ما بقي من أموال وراءه وإرسالها إليه “مع كل فابور”، بل إنه يراسله و”يلاطفه” (كما يقول ابن أبي الضياف( ت 1874))، حتى إذا ما أراد التنصّل من مصير صاحبه خاصة بعد رفض منحه الجنسية الفرنسية التي كان سعى له فيها ابن عياد، أرسل له قائلا (في حدود سبتمبر 1852): “كان ظني أنه لما يصلك الخبر بمرض سيدنا أن تترك كل شيء وتَقْدم لشدّ أزرنا وإعانتنا على الخدمة في هذا المضيق فإذا أنت أشدّ الناس مضايقة، وليس هذا من الوفاء”. (ابن أبي الضياف؛ إتحاف. ج 4 ص )

هل كان خزندار صادقا في موقفه ذلك؟
كل تصرفاته كانت تدلّ على العكس. فقد أرسل لابن عياد قبل ذلك رسالة يعزّيه فيها في فقدانه ابنه سليمان الذي تركه في تونس للإشراف على جمع ما بقي من أموال أبيه، ولم يستغرب فيها عدم قدومه.
وهذا فاعل آخر من دائرة السلطة آنذاك، أحمد بن ابي الضياف، الكاتب الشخصي للباي والصديق المقرب لابن عياد ولخزندار، لم يتوقف عن تبرير فعل صاحبه في تاريخه، يقول على سبيل المثال (ج 4 ص 155): “والحق أنه لا يعاب ابن عياد بنفس الهروب، لأن الخائف على نفسه وماله بمقتضى العقل والشرع له أن يتحصّن بما يراه مانعًا، وإلا كان مُلقيًا بنفسه إلى التهلُكة” !!!
هل كان هروب محمود بن عياد إلى فرنسا وحصوله على جنسيتها خوفا على نفسه وماله، وهو الذي تقدم بطلب الحصول على الجنسية منذ منتصف عام 1850؟ وفي رسائله التي لم تنقطع إلى ابن عياد بعد هروبه (رسائل أحمد بن أبي الضياف السريّة إلى محمود بن عياد 1850 – 1853. دراسة وتحقيق يونس وصيفي. تونس: مطبعة الشرق، 2005). يذكّره بما يقال عنه وعن هروبه في تونس:

*”هذا وإن كان من الهذيان الذي لا يحرّك أذنا ولا يعتبر به أحد، لكن مجرد المقال لا يرضاه العاقل، فتسَلَّ يا أخي واصبر” (28/08/1852)، *”واعلم أن سي حمدة بوكراع يُكثر الكلام في شأنكم بهذه الأراجيف التي أشرنا لكم بها (…) فعلى هذا يا أخي تكون حارسًا لنفسك وتتوقى من هؤلاء الأراذل الذين لا صناعة لهم إلا تحريك الأحناك فيما لا يعني” (20/09/1852)

*”الفصل المذكور في قازيطة الرّبا يتكلم عليكم أوقع هرجا وكلاما في باب البحر وعند المسلمين وذهبت الناس في فهمه كل مذهب ممكن بحيث أنه لا كلام في البلاد هذه الأيام إلا عليك” (20/11/1852)،

*”لأن الكلام في شأنك كثر جدا حتى على ألسنة الخواص يتحدثون به من غير استتار” (20/12/1852)

*”يقال في تونس إنه بلغ إلى إسلامبول أنك توجهت إلى باريس واشتريت فيها بخمسة وعشرين مليون فرنك أملاكا … وغير ذلك من الهذيان بتونس بشأنكم دأب من لا صناعة له ولا عرض ولا مروءة” (19/03/1853).
وكان ابن أبي الضياف يطلب من ابن عياد في كل مرة أن يحرق رسائله إليه، ويُذكّره “بالعهد الذي بينهما” !!

ومما يؤكد نفاق الطبقة الحاكمة وقتها، ونفاق كثير من الدوائر المحيطة أنّ الباي نفسه الذي كان يرفض تصديق كل ما يقال عن محمود بن عياد لقُربه منه، وتكدّره عند سماعه بخيانته له، نجده يرسل في فيفري 1853 وفدًا إلى فرنسا لتهنئة امبراطورها نابليون الثالث(ت 1973) باعتلائه العرش، يقوده الجنرال رشيد، ويُكَلَّفُ محمود بن عياد (وهو في باريس) بأن ينضمّ إليه في تقديم رسائله إلى الامبراطور. ويشير تقرير الرحلة الذي دَوَّنه الجنرال رشيد (بخط كاتبه مُراد) 1 أن ابن عياد تلقى رسالة من الباي، ورسالتين من خزندار بخصوص المهمّة، كما تحمل رسالة أحمد باي إلى نابليون الثالث تنصيصًا على اسم المبعوثَيْن ومكانتهما.
يذكر الجنرال رشيد في التقرير أنّ ابن عياد هو من استقبل الوفد في قصره الكائن في 25 رصيف أورسيه (Quai d’Orsay) على بُعد أمتار من مقر وزارة الخارجية الفرنسية، ووصف الثراء الكبير الذي يعكسه المبنى ذي الطوابق الثلاثة، وقد اشتراه بأكثر من 500 ألف فرنك، وجهّزه بحدود 170 ألف فرنك، وعدد العاملين فيه (16 خادما وخادمة)، وعن عدة دعوات للعشاء وحفلات في القصر في تلك المدة على شرف الوزراء والأمراء وعلية القوم في فرنسا (أيام 13 و 20 و 27 أفريل، و4 ماي)؛ 2 كما يتحدث عن زيارة الوفد (يوم الثلاثاء 29 مارس) لحقل بن عياد في شالومولينو (حوالي 60 كلم جنوب غربي باريس). 3 كل ذلك والباي لا يعلم بخيانة صاحبه له، وتسببه في إفلاس خزينة الدولة؟

  • هل كانت النخبة الحاكمة يومها ودوائر الأعيان المحيطة قد سكتت سنة بأكملها عن محمود بن عياد وتواصل سرقاته لأشهر عديدة خوفا على صحة أحمد باي، أم تورّطا – بمقادير – مع ابن عياد؟
  • وهل يمكن اعتبار نفاق النُخب ذاك، الذي يمكن أن يصل حد التضحية بالبلد وأهله، حالةً
    مُلازمة لِبِنْيَتها، التي تُواصل فعلها إلى اليوم ؟

1 ) Une mission tunisienne à Paris (Février – Mai 1853). Revue Africaine, vol 90, 1946,pp 58 – 98
2 ) نفسه. ص 82
3 ) نفسه. ص 90 – 91

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 31 جانفي 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING