الشارع المغاربي: بتوقيع / احمد بن مصطفى (سفير سابق) – جنات بن عبد الله (إعلامية)- جمال الدين العويديدي (خبير اقتصادي):
يشرفنا أن نتوجه إليكم بفائق التحية والتقدير وأن نستسمحكم، من منطلق إحساسنا بواجب المواطنة وبدقة الظرفية التي تمر بها تونس، بتقديم بعض الآراء والمقترحات مساهمة منا في إثراء النقاش العام حول سبل معالجة الأزمة الخانقة التي تواجهها بلادنا والخروج من حالة الجمود التي تردى فيها المشهد السياسي التونسي، وذلك من خلال تسليط الأضواء على التداخل القائم بين أوضاعنا الداخلية السياسية والاقتصادية المتدهورة وطبيعة العلاقات المختلة القائمة بين تونس وشركاءها الرئيسيين في مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي.
وقد ارتأينا إن تكون هذه المبادرة في صيغة عريضة مفتوحة للمواطنين والمهتمين بالشأن العام، وهي موجهة إليكم، بحكم المسؤوليات السامية المناطة بعهدتكم، راجين أن تساهم في توسيع دائرة النقاش العام في القضايا الوطنية و الملفات الاقتصادية والدبلوماسية الحساسة المغيبة عادة عن الحور الوطني.
كما نأمل من هذه الخطوة الصريحة المساعدة على تشخيص الأسباب الحقيقية للازمة وبلورة النقاش حول الحلول الممكنة لقضايانا الوطنية مع حفظ حق الشعب التونسي في الإطلاع على خفايا هذه الملفات المصيرية وتمكينه من الفصل فيها عبر الآليات الديمقراطية بمناسبة المواعيد الانتخابية المقبلة. لقد تعود التونسيون منذ اندلاع الثورة على التعايش مع حالة من عدم الاستقرار السياسي والحكومي المزمن الذي تزامن مع تفاقم المشاكل الاقتصادية والمالية بالتوازي مع بروز التهديدات الأمنية والإرهابية وتعثر الانتقال الديمقراطي والاقتصادي نتيجة احتدام الصراعات الداخلية وتدهور الأوضاع في محيطنا الأمني والإقليمي فضلا عن التدخلات الخارجية في شؤوننا الداخلية وسعيها للتأثير في خياراتنا الإستراتيجية الكبرى بما يتماشى مع مصالحها.
وفي هذا السياق جاء الحرص الأوروبي الغربي المبكر على ضمان استمرارية السياسات الاقتصادية للنظام السابق والأطر والاتفاقيات الدبلوماسية المرافقة لها مما اثر سلبا على الانتقال الديمقراطي لأنه اخرج هذه الملفات عن دائرة الحوار الوطني في المحطات الانتخابية وغيرها من الأطر الوطنية والحال أنها ذات تأثير كبير على الأوضاع الاقتصادية والحياتية للشعب التونسي وعلى المصالح العليا للبلاد.
وبعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، استعاد المواطن التونسي بعض الأمل المشوب بالحذر، في إمكانية تجاوز الأزمة وتحقيق الحد الأدنى من استحقاقات الثورة وتطلعاته المشروعة نحو بناء دولة عصرية وديمقراطية تسعى جاهدة لخدمته ولارتقاء بتونس إلى أفضل المراتب في كنف احترام الدستور و استنادا إلى أسس مؤسساتية متينة تقطع نهائيا مع أساليب الحكم البالية للنظام السابق وتعطي للشعب التونسي الكلمة الفصل في الملفات الحساسة التي تهم مصيره ومستقبله .
لكن أوضاع تونس استمرت في التدهور مما ضاعف من معاناة المواطنين وشعورهم بالإحباط والخوف على مستقبل بلادهم خاصة في ظل تعدد الأزمات الحكومية وتفاقم الصراعات على السلطة وتنامي المخاطر الداخلية والاختراقات الخارجية لأمننا وسيادتنا فضلا عن التدهور المشط للظروف الحياتية لأغلب التونسيين وانهيار التوازنات المالية الكبرى للبلاد وتفاقم المديونية الخارجية وما يتصل بها من تبعية وعجز تجاري ومالي خرج عن السيطرة وبلغ معدلات مفجعة وخطيرة لم يسبق لها مثيل منذ الاستقلال.
و في ظل هذه الظروف والمأزق الخانق الذي تردت فيه الحياة السياسية ، تطالعنا الأنباء أن الحكومة وضعت خارطة طريق مع الاتحاد الأوروبي لتسريع المفاوضات حول مشروع “اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق” المثير للجدل مع التعهد بالتوقيع عليه في غضون 2019 والحال أن هذا الملف خلافي بامتياز لأسباب عدة لا يتسع المجال لذكرها، مما يقتضي إخضاعه لحوار وطني وعدم انفراد الحكومة بالحسم فيه قبل المواعيد الانتخابية الرئاسية والتشريعية المقبلة وخارج دائرة التوافق الوطني الضروري في مثل هذه القضايا الحيوية.
سيادة الرئيس، ما نرجوه منكم هو الإذن بتعليق هذه المفاوضة وإتاحة الفرصة للمختصين والخبراء والحساسيات السياسية والمجتمع المدني التونسي لمناقشة مسيرة العلاقات بين تونس والمجموعة الأوروبية منذ الاستقلال بهدف إنارة الرأي العام حول حصيلة هذا التعاون المختل وتأثيراته السلبية على أوضاعنا الداخلية والخارجية والأسباب التي جعلت تونس غير قادرة على الاستفادة منه مع السعي للتوصل إلى رؤية تونسية مشتركة حول سبل بناء شراكة تونسية إقليمية موسعة تعطي الأولوية لتحقيق الاندماج ألمغاربي كأساس لتحقيق شراكة حقيقية ومتوازنة بين ضفتي المتوسط.
هذا الاقتراح لا يعني تعطيل التعاون مع الاتحاد الأوروبي بل تصويبه وتعديله وإعادة بنائه على أسس صحيحة تراعي الواقع الاقتصادي التونسي والتفاوت الشاسع بين الجانبين في مستويات التنمية ومتطلبات تونس التنموية وطاقاتها الإنتاجية المحدودة وتخلفها التكنولوجي مما يجعلها عاجزة عن إقامة علاقات تجارية متكافئة وتعاون مجدي مع المجموعة الأوروبية وهو الأساس الوحيد الذي بنيت عليه العلاقات منذ الاستقلال كما هو القاعدة الأساسية لتوسيع المبادلات من خلال اتفاق “آليكا” المشار اليه الذي يحرص الاتحاد الأوروبي على توقيعه قبل الانتخابات لإخراجه عن دائرة الحوار الوطني.
و تقتضي هذه المراجعة إجراء حوار استراتيجي مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى تصور مشترك ومتوازن لمستقبل العلاقات شامل لكافة الإبعاد السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية ولا يقتصر على الإبعاد التجارية وعلي بعض المسائل الأمنية الضيقة التي تحظى بالأولوية لدى الجانب الأوروبي على حساب مصلحة تونس والمصالح المشتركة للدول الإفريقية ولدول جنوب المتوسط.
هذا ويفترض أن يفتح حوار ثنائي متزامن مع الدول الرئيسية الشريكة لتونس صلب الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع ومنها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وايطاليا وخاصة فرنسا باعتبارها الطرف الأساسي والمستفيد الأكبر من المبادلات الأوروبية التونسية المختلة مما جعلها المحرك الأساسي للسياسة الغربية إزاء تونس منذ الاستقلال وبعد الثورة. كما أنها من أكثر الدول الأوروبية حرصا على الدفع باتجاه توسيع الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بقطع النظر على مدى قدرة تونس على تحمل تبعات هذه السياسة.
ولا شك إن هذا الواقع يحمل فرنسا مسؤولية تاريخية خاصة في ما آلت إليه الأوضاع بتونس وانهيار توازناتها المالية ولجوءها للبرامج المشروطة لصندوق النقد الولي وذلك بسبب مساعيها المتواصلة منذ الاستقلال للتحكم في السياسة الاقتصادية التونسية والحفاظ على هيمنتها الاقتصادية على تونس وهو ما تجدد بعد الثورة حيث كانت الدبلوماسية الفرنسية وراء القرارات والوعود والإغراءات غير المنجزة الصادرة عن قمة دوفيل التي كانت مشروطة ببقاء تونس في إطار منظومة التبادل الحر وتوسيعها. وهذا هو الذي مهد للمفاوضات الحالية حول “آليكا” وكذلك ما يسمى باستراتيجية إعادة بناء تونس التي شاركت فرنسا مباشرة في إعدادها، في ظل حكومة المهدي جمعة، في تدخل علني صارخ في شؤوننا الداخلية.
وهكذا يبدو واضحا أن التأثيرات الخارجية ساهمت بشكل كبير في مزيد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس وإلحاق الضرر البالغ بالمسار السياسي والانتقال الديمقراطي وذلك بمساعيها المحمومة وضغوطها المتواصلة لدفع الحكومات المتعاقبة بتونس منذ الثورة إلى التمسك بنفس السياسات والخيارات الفاشلة للنظام السابق التي يخشى الجانب الأوروبي من إمكانية مراجعتها لأسباب إستراتيجية من أهمها إبقاء تونس والضفة الجنوبية كسوق ومنطقة نفوذ ومصالح حصيرية للغرب.
وبالتالي فان الخروج من المأزق الحالي الذي تردى فيه الحوار الوطني يتطلب عدم الاكتفاء بإجراء التغييرات الضرورية في تشكيلة الحكومة بل القيام بإصلاح جوهري للسياسات الداخلية والخارجية التي أوصلت تونس إلى هذا المستوى من التردي مع مراجعة سلم الأولويات الوطنية التي يفترض أن تتركز على استرداد تونس لتوازناتها المالية واستقلالية قرارها في رسم سياساتها وذلك من خلال إعادة التوازن لعلاقاتنا الخارجية مع شركائنا الاستراتيجيين و إعادة النظر في الأسس التنظيمية لهذه الروابط.
كما يؤمل أن تشرع الهيئة المستقلة للانتخابات منذ الآن في التحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة من منطلق الحرص على استعادة ثقة المواطن في المسار الانتخابي واسترداد السلطة الحاكمة لمصداقيتها المتضررة بفعل التأخير الكبير الحاصل في إرساء المؤسسات الدستورية مما يطرح تساؤلات حول مدى حرص الائتلاف الحاكم على إنقاذ الانتقال الديمقراطي باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق التداول السلمي على السلطة في كنف احترام الدستور.
وحرصا على تهيئة الأرضية الملائمة للانتخابات القادمة و حتى لا يكون التداول المنشود على السلطة شكليا بل جوهريا ومؤثرا في صلب السياسات لا بد من إدراج القضايا الوطنية في النقاش العام من خلال وسائل الإعلام العمومية وعبر تفعيل المجلس الأعلى للحوار الوطني مع العودة للآليات الديمقراطية للفصل في الملفات المصيرية المذكورة التي يفترض أن تكون أيضا صلب البرامج والحملات الانتخابية للأحزاب والقوى السياسية المشاركة ليتسنى لها تقديم البدائل التي تراها للسياسات الحالية بعد ثبوت فشلها في معالجة أزمات تونس والدفاع عن مصالحها.
وإذ نجدد لسيادتكم فائق التحية والتقدير، نرجو المعذرة عن الإطالة آملين أن تتفهموا الدوافع الوطنية لهذه المبادرة وما ورد فيها من اقتراحات نأمل أن تحظى بعنايتكم السامية لما فيه خير تونس ومناعتها.
العريضة نشرت في صحيفة الشارع المغاربي بعددها الصادر يوم الثلاثاء 3 جويلية 2018