الشارع المغاربي – على هامش ألفيته الميلادية: محرز بن خلف، الحامي الرمزي لمدينة تونس بين خطاب الذاكرة وخطاب التاريخ / د.زهير بن يوسف

على هامش ألفيته الميلادية: محرز بن خلف، الحامي الرمزي لمدينة تونس بين خطاب الذاكرة وخطاب التاريخ / د.زهير بن يوسف

قسم الأخبار

10 مارس، 2023

الشارع المغاربي: “رأى في منامه الشيخ محرز بن خلف وقال له:  أدرك تونس، فإنّه قد حلّ بها العذاب الأليم” ابن يوسف، التكميل الشافي للغليل.

يكرس محرز بن خلف أنموذجا ولائيا جديدا وتجربة صوفية مغايرة للسائد في إطار التطور التاريخي للظاهرة الولائية المحلّية، ولعلّ هذا ما جعله يحظى بإجلال المجتمع ونخبه ويشرّع لنحت البلاد لنماذجها الولائية الخاصة تلك التي لن تمتد إلى المجال المغربي فحسب وإنما ستؤسس لها موطئ قدم راسخة داخل المجال الإسلامي العام، ومثلما تجاوز تأثيرها حيّز المكان سيتعدى حيّز الزمان إذ لن ينقطع رصيد هيبته لأحقاب زمنية متطاولة وداخل أنساق عقائدية متباينة.

1 – محرز بن خلف: سيرة أنموذجية تهفو إلى بناء مثل أسمى

مصدرنا في إعادة تشكيل تقاطيع محرز بن خلف (ت413/1022) مصنّف من الجيل الأول من المصنفات المنقبية المنحصرة في تصوّف الأفراد قد يكون ثاني مصنفين اثنين ظهرا ضمن نمط الأدب المنقبي بمجال إفريقية في نفس الفترة تقريبا. وضعه أبو الطاهر الفارسي(ت440أو450/1048أو1058) حفيد الوليّ للبنت سنة 430/1039 أي سبعة عشر(17) أو ثمانية عشر(18) عاما بعد وفاة الوليّ. فنحن إذن إزاء سيرة أنموذجية « تهفو إلى بناء مثل أسمى» وهو مثل أسمى روحي واجتماعي يتميز، إذا ما سايرنا ما يدعيه النص المنقبي، باختراقه المجال المحلّي ليهيمن قبل أبي مدين شعيب(ت594/1197) وابن مشيش (ت624/1227) على المجال المغاربي بأكمله.
فإلى أي حدّ بإمكاننا أن نذهب إلى أننا نشهد مع سيرة محرز بن خلف ميلاد أنموذج ولائي جديد، وإلى أي مدى يمكننا أن نزعم أنّ بلادنا قد انخرطت نهائيا مع « سيدي محرز» في إنتاج نماذجها الولائية الخاصة التي تستجمع مقومات المثل الأعلى الولائي الذي عرفه المجال الإسلامي العام؟ وما هي حدود التقاطع أو التقاطب بين الأنموذج الولائي الذي يجسده محرز بن خلف والأنموذج الولائي الذي ظل متغلبا في مجال إفريقية وتونس إلى منتهى القرن X/IV؟

2 – سلطان المدينة وبناء المكانة

«سلطان المدينة» هو اللقب الذي أطلق على محرز بن خلف، وما يزال حاضرا به في المخيال الديني السائد لدى سكان مدينة تونس إلى اليوم مما يدل على رصيد الهيبة الذي كان الوليّ يحظى به في الوجدان الديني الجمعي والشعبي منه على وجه الخصوص،  ومما يؤكد هذه المكانة  اتفاق خطاب المناقب، وفقا لما أورده الوزير السراج في «الحلل السندسية» ، في الجمع في القرابة الدموية  بين كل من ابن أبي زيد القيرواني، الفقيه، وأبي اسحاق الجبنياني(ت369/979)، الوليّ، ومحرز بن خلف من حيث الاشتراك في جدّهم للأم بحيث يجعل ثلاثتهم أبناء خالات، وتجمع بعض الروايات الأخرى على هذا النسب ذاته بين محرز بن خلف وابن أبي زيد القيرواني وأبي الحسن القابسي. ومهما يكن من أمر هذه القرابة سواء كانت قرابة دموية فعلية أو إرادة قرابة من شأنها أن تؤكّد القرابة الروحية وتدعمها، فإنها مما يدل على المكانة المتميزة والمتساوية  كانت تحتلها هذه الشخصيات لدى المالكية .
وهو، وفقا لما تواتر في جل المصادر، محرز بن خلف بن رزين التونسي، ويكنّي بأبي محفوظ، يتصل نسبه فيما تزعم مناقبه، حقيقة أو ادعاءَ، بأبي بكر الصدّيق، أول الخلفاء الراشدين، ولد في حدود سنة 340/951 بإحدى قرى إقليم سطفورة ( جهة بنزرت حاليا) في أسرة معروفة بالصلاح. لا تركز سيرته الأنموذجية على تكوينه العرفاني قدر تركيزها على تكوينه الفقهي حتى أنها أميل إلى حشره في زمرة «طبقات فقهاء تونس وأكابر علمائها»، ومهما يكن من أمر فإننا نعرف أنه:
* تلقى مبادئ تكوينه الأساسي على يد المؤدب أبي محمد يونس بن محمد، وهو”من أهل الزهد والورع والاجتهاد في العبادات”، وقد كان على حدّ تعبير الوزير السراج “أستاذه في الطريقة الباطنة”،
* ثمّ ارتحل في تاريخ غير محدّد إلى المشرق لأداء فريضة الحجّ وتعميق رصيده المعرفي، وإذا صحّ ما روي عنه من أنه «كان يخرج في أيام العشر من ذي الحجّة من تونس فيتوجه إلى الحجّ ويحج مكة ويعود»،  فإنّ تتلمذه المفترض بمصر على أيدي نخبة من حملة المعرفة بها مثل أبي بكر الأدفوي(ت 388/998) « المقرئ المفسّر»، وأبي إسحاق الدينوري، وأبي بكر الأبهري قد يكون تمّ على مراحل خلال رحلاته المتتالية التي تردد أثناءها كثيرا على المشرق.
* ولعلّ تردده على القيروان حيث كان يتصل بابن أبي زيد القيرواني (ت386/996) الملقب بـ «مالك الصغير» وأبي الحسن القابسي(ت403/1012) وعبد الله بن أبي عقبة، قد كان بمرامي الطموح ذاتها.

3. محرز بن خلف: مؤدّب أم شيخ درس؟

كانت بدايات محرز بن خلف بأريانة حيث تعاطى تدريس القرآن إقراء وتجويدا، ثمّ بمرسى الروم أي قرطاجنّة ليمارس المهام نفسها، ويبدو أنه اكتسب هناك من الإشعاع والصيت ما جعله ينتقل بالسكنى إلى مدينة تونس حيث سيكون مستقره النهائي ومركز نفوذه الروحي والاجتماعي وبها أسس، فيما يروي أبو طاهر الفارسي، «دارا للطلبة» وهناك كان يباشر «تعليم القرآن للولدان».
ولم يكن نشاطه لينحصر في «التأديب»، وإنّما كان متسعا لتدريس أصول الفقه والحديث النبوي، رواية ودراية، إذ كان يشرف على حلقة علمية بمسجد من مساجد مدينة تونس في العهد الزيري لم نتوصل إلى معرفته كان يعرف بمسجد المندوب،  وقد ذكر أحد مريديه وهو إبراهيم بن خلف أنه قرأ عليه «الموطأ» للإمام مالك، و»المدوّنة» للإمام سحنون و»الملخّص» لأبي الحسن القابسي، ممّا يدعم استجماع «سيدي محرز» لمقومات الشخصية الثقافية المثلى في تلك الفترة وقطب الرحى فيها الجمع وعلى مستوى واحد بين “العلم” و”العمل” ومن ثمة بين “علم الظاهر” و”علم الباطن”، ألم يقل القابسي:  “عَمَدُ الدين الذين يمسك الله بهم الأرض أربعة: محرز بن خلف الأول منهم( كذا؟). وشهد له المعزّ بن باديس الصنهاجي (406/1016 – 442/1051) في الظهير الذي أرسله إليه بأن «الله قد جعله من أهل خاصته بالعلم والعبادة والورع والزهادة”.

4. محرز بن خلف: جدلية الانقباض والانبساط

لعلّ أبرز ما يلفت الانتباه في سيرة هذا الوليّ الأنموذجية توفرها على المقومات البنائية النمطية للمثل الأعلى الولائي المتواتر في المجال الإسلامي مشرقا ومغربا، فقد مرّ في إطار تدرجه في سلّم الولاية بطورين:
طور ما يسمّى في الاصطلاح الصوفي بالانقباض أي الانقطاع عن الناس، وهو طور كان لا “يألفه فيه إلا أصحابه” وينسحب على فترة إقامته بقرطاجنة ( مرسى الروم )،
– وطور الانبساط والتحول “إلى غاية الألفة والارتياض” وقد اقترن باستقرار الوليّ بربض باب سويقة من مدينة تونس:” انبسط للفقراء وألفهم وصار يلقى كل من يرد عليه من الزوّار في المواسم بل يلقاهم قبل ورودهم عليه في كل وقت وكثروا حتى أن منهم من يصافحه ومنهم من لم يصل إليه «.
وهذا ما يشي بطبيعة الظاهرة الجديدة التي برزت في مجال إفريقية (تونس) في سياق تطور الظاهرة الولائية نعني بذلك التفاف الناس حول شخصية الوليّ وإقبالهم الشديد عليه تبرّكا، وتفاعل الوليّ مع هذا الإقبال إيجابا.
فعلى النقيض من أبي إسحاق الجبنياني الذي عوتب، بحسب اللبيدي(ت440/ 1048)، على عدم انبساطه للناس، كان محرز بن خلف عند «انتزاح الناس عليه وازدحامهم على مصافحته [يرى] وقد عرق وظهر عليه التعب فإذا قيل له إنهم أتعبوك قال: دعوهم، ما أحب أن يفوتني أحد منهم إنما أنا صياد عسى أن يقع في يديّ ما أنتفع به”. ولعلّنا نجد في هذا السلوك الانفتاحي على الناس وفي هذا التواصل الأفقي مع همومهم اليومية ما يبرّر ذلك الإقبال الشعبي المتزايد الذي كان الوليّ يحظى به.

5.  محرز بن خلف: “خامس الأربعة”؟

من حيث سلوكه الزهدي، كان الوليّ مدمنا على التعبد، رقيق الوجدان، شديد البكاء ورعا وتقوى، إذ تفيدنا مناقبه بأنه كان يتردد على قصر قربص للانقطاع والتفرّغ للرياضات الروحية، أما بكاؤه فمشهور حتى عُدّ “أرق الناس قلبا وأبكاهم عينا”، لا يرتدي إلا الرثّ من الثياب ولا يأكل إلا ما قلّ من الطعام فضلا عن إحيائه الليل واسترسال صيامه بالنهار، وهي المقومات النمطية للسلوك الزهدي الأنموذجي التي نستشفها من خلال بعض ما أثر عنه من حكم وأقوال سائرة من قبيل قوله: “المؤمن يأكل ما حضر، ويلبس ما ستر، ويأخذ ما صفا ويترك ما كدر”، أو قوله: “المؤمن من وجهه مصفار ودمعه مدرار يقوم الليل ويصوم النهار” أو قوله أيضا: ” كل من عشب الأرض ولا تستغن عن أداء الفرض ولا تأخذ من صدقة ولا قرض”.

  ويبدو أنّ الأنموذج الولائي الذي كان يجسّده محرز بن خلف لم يكن مقتصرا في مستوى ما يحظى به من إشعاع وما يتمتع به من صيت روحي على المجال المحلي وإنما تعدّى ذلك، قبل أبي مدين شعيب(ت594/1197) بكثير، إلى المجال المغاربي، بل إن من الشواهد ما يؤكد على مدى حيوية ولايته حتّى داخل المجال الإسلامي العام:
فقد ذكر أبو حامد الغرناطي (ت565/1169) صاحب «تحفة الألباب» أنّ ظاهرة التبرك بتراب قبر هذا الوليّ من قبل البحّارة ممّا كان شائعا ليس بافريقية فحسب وإنما بكامل بلاد المغرب ذلك أنّ «كل من مرّ على قبره يأخذ من ترابه شيئا فإذا ركبوا على البحر وهاج البحر وعصفت الرّيح وكثر الموج أخرجوا من تراب قبره شيئا وألقوه في البحر ودعوا الله… فسكن البحر وزالت الرّياح وسهُل السّفر وهذا معلوم في أرض المغرب»،
والملاحظ أن ياقوت الحموي (ت 626/1229) يستعيد الإشارة نفسها في «معجم البلدان» حينما يقول: وبتونس قبر المؤدب محرز يقسم به أهل المراكب إذا جاش عليهم البحر يحملون من تراب قبره معهم وينذرون له «
ومما يؤثر عن الباقلاني(ت 403/1013) صاحب كتاب «كشف أسرار الباطنية» أنه قال وهو ببغداد: « لو أدرك محرز [ بن خلف ] السلف لكان خامس الأربعة « ويظهر أنه يعني بأولئك الأربعة أئمة المذاهب السنية الأربعة نظرا إلى المكانة العلمية التي كان الوليّ يستأثر بها بين معاصريه من حملة المعرفة الشرعية مغربا ومشرقا. هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ النص المنقبي يرتفع بالوليّ إلى مقام الخلفاء الراشدين فيجعله خامس أربعتهم وهذه المرتبة في تقديرنا إذا كانت واردة عند الصوفية فصدورها عن فقيه سني مثل الباقلاني أمر مشكوك فيه.
وقد تتعدى دائرة نفوذ « سلطان الصالحين «الفضاء الإسلامي لتبلغ العالم المسيحي، إذ يشاء المخيال الصوفي أن يكون الوليّ «معروفا ومعظّما» لدى الروم أيضا، ومن هنا قدرته على إطلاق سراح الأسرى، وآية ذلك  الخبر المنقبي الذي أورده له حفيده مع « سلطان النصارى « بالقسطنطينية.
ومهما يكن من أمر وجاهة هذه الأخبار من الناحية الموضوعية فإنها تبقى دالة على مدى النفوذ الروحي الذي كان في رصيد الوليّ الأمر الذي يفسّر بوجه من الوجوه ما كان يتمتع به من إقبال شعبي مطّرد ويعطي الشرعية لتشعّب تدخلاته وتعددها في سائر مجالات الحياة اليومية وهي تدخلات يبرّرها واقع الأزمة السياسية والاجتماعية التي كان يعيشها المجتمع المحلّي في العهد الزيري، وهو ما كان ابن خلف فيما يشير إليه خطاب المناقب، على وعي تام به، فقد جاء في ديباجة بعض مكاتباته لباديس بن بلكين بن زيري (373/984-406/1016) ما نصّه: « أنا رجل عرف كثير من الناس اسمي، وهذا من البلاء… وربّما أتاني المضطر يسأل الحاجة فإن رددتها خفت، وإن التزمت ذلك كثر علي”.

6 – المقدّس والدنيوي في سيرة الوليّ

لعلّ هذا الموقع الجديد الذي انخرط فيه الوليّ هو ما سيجعل البعد الدنيوي في شخصيته وسيرته طاغيا على ما سيجسّده من خصال القدوة القيمية والسلوكية ومن ثمة فإنه سيضفي على الأنموذج الولائي الذي سيمثله أهمية خاصة ليس بحكم طبيعة المجال الذي تتنزل فيه دائرة نفوذه، فذلك ما عهدناه في إطار بعض التجارب الزهدية والصوفية المبكرة، ولكن بكثافة هذا المجال وثرائه النوعي والموقع القيادي الذي يحتله الوليّ فيه بحكم ما يتمتع به من زعامة روحية ونفوذ اجتماعي حقيقي خصوصا كلما تعلق الأمر بالعلاقة بين الوليّ والأمير وكلما تشعبت العلاقة بين «الروحي»  و«السياسي».

1.6 محرز بن خلف في أتون الصراع المذهبي
لقد استغل الشيخ محرز تنامي التناقضات الداخلية في صفوف الأسرة الحاكمة وخصوصا تفاقم خطر الانشقاق المتوقع بين بني حماد وبني زيري بعد تغير موقف الأمير حماد بن بلكين( 405/1015-419/1029) على الصعيدين السياسي والمذهبي باتجاه مناهض الفاطميين ومُوال للعباسيين ومن ثمة مُناد بالشرعية السنية لتأليب الرأي العام المالكي على الشيعة ونبذ طاعة الفاطميين وتصفية الحساب معهم جملة وتفصيلا، ويبدو أنه اضطلع بدور قيادي في تلك الأحداث الدامية التي اندلعت عام 406/1015 وأدت إلى قيام حملة إبادة حقيقية « للمشارقة « أي الشيعة بمختلف أنحاء البلاد ولاسيما بكل من تونس والقيروان وباجة والمهدية، قاد هذه الحملة هو بنفسه في تونس، وقادها بالقيروان في السنة الموالية أبو علي بن خلدون وبعد ذلك ببضعة أيام جدّت نفس الأحداث في باجة بمبادرة من أبي محمد منّ الله الكراني الباجي وهو من أصحاب المؤدب محرز وأحد تلاميذه،. حتى أن بعض الأخبار شبه التاريخية تزعم أنّ « أقواما من أهل البأس والنجدة « ممّن أشرفوا على تنفيذ تلك المجازر» قالوا: هذا الأمر( أي تقتيل الشيعة) منسوب إلينا وإلى المؤدّب»، وهذا ما يدعم الدور السياسي المتقدم الذي اضطلع به وهو دور زادته خطورة مشروعية القداسة التي استمد منها مبرراته وهي بدورها مشروعية تؤكد على دور ريادي آخر للوليّ هو الريادة الروحية، فقد كانت شهادته على أي مظنون فيه حكما باتا بالإعدام، مثلما كانت شهادته له حكما نهائيا بالبراءة إذ «كان يؤتى بالرجل منهم إلى حضرته فيشهد عليه فيقتل بشهادة الشيخ خاصة، لا يحضر غيره من العدول أو يترك إذا لم يثبت عليه شيء «.
ومثل هذه الأخبار المنقبية إن ثبتت تاريخيا فليس بالإمكان فهمها إلا بوضعها في إطارها من المثل الأعلى الولائي الذي تجسده وهو مثل أعلى ولائي سنّي وفي إطارها من الانتفاضة السنية آنذاك وقد كانت مناهضة للسلطة و للتشيع الإسماعيلي عقيدة الأثرياء و اصحاب النفوذ و الجاه. ولا ينبغي أن نغفل، في قراءتها، عن الوجه الآخر» لرجال السلطان» وطبيعة الاغتيالات التي نفذوها في الأوساط السنّية وفي صفوف قيادات هذه الانتفاضة بالتحديد: اغتالوا الشيخ علي بن خلدون البلوي « زعيم أهل السنة وشيخ الدعوة» منذ عام 407/1017 بالقيروان، واغتالوا معاوية بن عتيق بمدينة تونس عام 410/1019 فضلا عن محرز بن خلف نفسه الذي تقول المصادر إنه قد تمت تصفيته جسديا عام1022/413 بالاعتداء في جنح الظلام. هل كان محرز بن خلف رمزا من رموز التسامح كما نقول اليوم أو رمزا من رموز الغلوّ والتطرف؟ هذا بالتاكيد ما يحتاج الى المزيد من التروي خاصة أننا لسنا إزاء أخبار تاريخية و إنما إزاء أخبار منقبية.

2.6  محرز بن خلف وذاكرة الدفاع عن تونس
عندما كلف الأمير باديس قائده يعلى بن فرج بالزحف على تونس لتسليط عقاب رادع على أهاليها لتمردهم على مذهب الدولة الرسمي وجسيم ما ألحقوه من أضرار بعقيدة الأثرياء والمحظوظين وأصحاب النفوذ والجاه قام قادة الانتفاضة السنّية المناهضة للشيعة «ودخلوا على الشيخ محرز بن خلف… وجلسوا يدبّرون كيف يكون الأمر… وخرجوا من عنده وكل واحد منهم أقوى من الآخر»  بعد أن رفض بشكل بات اقتراحا بالرحيل بحرا عن تونس تجنّبا لردع السلطة وأرسل بالمقابل كتابا بواسطة الحمام الزاجل إلى باديس وقد بلغه قراره «بالقبض على من يشار إليه من أهل العلم والدنيا وأخذ أموالهم وضرب رقابهم» بسبب ما بلغه من «أنّ أهل تونس مبغضون فيه وفي دولته» جاء فيه: « قالت طائفة ليست من أهل العلم والكتاب إنهم ضعفاء من أهل تونس يؤخذون فيطلبون في أموالهم وأرواحهم وعلى السلطان النظر في ذلك فاحذر رأي الوزراء الذين يأكلون دراهمك ويقربون لحمك ودمك وعظمك من النار وأنت على سفر « اتخذ هذا الموقف بعد أن استقرّ رأي حملة المعرفة ونخب المجتمع على أنه « مالهم في ذلك الأمر إلا المؤدب محرز» مما يكرّس بلا جدال الأبعاد القيادية التي تختص بها شخصيته ويشي بطبيعة شبكة علاقاته بالسلطة الزيرية.
3.6 سلطان الوَلاية وولاية السلطان
رغم أن المخيال الصوفي يشاء أن يجعل سلطان الوليّ مطلق الهيمنة على «السياسي» فيروّج لتردد السلاطين عليه في كل الأوقات وتبرّكهم به وحضورهم مجالسه وسؤالهم إياه في الدعاء، فإنّ علاقة  الوليّ بالأمير قد تراوحت على وجه الحقيقة بين عدّين:
* عدّ متوتر انقطعت فيه جسور التواصل بين الوليّ والأمير بلغ ذروته، فيما تزعم أخبار المناقب، بهلاك الأمير باديس بدعاء سيدي محرز، يقول الوزير السرّاج: لما عزم باديس على تونس ونوى تخريبها… جاءها وعسكره… ونزل بالحريرية فبلغ ذلك الشيخ محرز بن خلف وكان بجبانته فلبس نعله وخرج من خلوته… وصعد على باب بنات إلى أن وقف غربي جامع الصفصافة… فنظر إلى المحلة ثم قال : تكون تونس ولا يكون باديس…
* وعدّ أفقي امتدت فيه جسور التواصل بين الطرفين تمثل أخيرا في اعتراف السلطة الزيرية بنفوذ الوليّ وسعيها إلى كسب ودّه وضمان ولائه:
ـ إذ من المعلوم أنّ الأمير باديس رغم علاقاته غير الودية « بأهل العلم « السنّيين بسبب ولاءاته المذهبية الشيعية قد منح بسجلّ خاص قبل سنة 396/1006، وربما كان ذلك استرضاء للرأي العام السني وكسبا لولاء الوليّ، بعض الامتيازات لطلبة محرز بن خلف ولاسيما منها إعفاءهم من الأداء الضريبي، وكان هذا السجلّ « لجميع الطلبة بالحفظ والرعاية وأن يصرف عن جميع طلبة الشيخ ما تسبّب إليهم من المظالم «.
ـ كما دعّم هذه الامتيازات ووسّع نطاقها الظهير الذي كتبه المعزّ بن باديس إلى الشيخ محرز، بعيد تنامي رصيد الهيبة الذي كان الوليّ يحظى به على إثر  اندلاع الأحداث المناهضة للشيعة، وهو ظهير من الأهمية بمكان باعتبار أنه قد يكون من أقدم الوثائق إن لم يكن أقدم وثيقة في إفريقية دالة على طبيعة المسار الذي ستتخذه علاقة المؤسسة السياسية الرسمية بالولاية وقطب الرحى فيها الحرص على احتضانها واستقطابها والسعي إلى كسب دعمها وتحييد علاقتها النقدية بها عبر الإغداقات المالية التي تخلعها عليها والإعفاءات الجبائية التي تمكنها منها ومن ثمّة الاتفاق الضمني على تقاسم فضاء النفوذ في إطار التكامل والتعايش وليس في إطار الصراع والتنابذ بحيث يكون للمؤسسة السياسية مجالها ولظاهرة الولاية ميدانها، ومما جاء فيه: فاقتضى النظر بهذا الظهير لجماعتكم بحفظكم ورعايتكم وحمايتكم وحسن عشرتكم وحفظ الأنصار السائرة إلى حضرتكم وحسم الأيدي الممتدة إلى إساءتكم وأهلكم وأموالكم ورباعكم بحاضرة تونس وباديتها وأعمالها وشركائكم وأتباعكم ومن عرف بكم وانتسب إليكم وأوى إلى جانبكم ورفع الأيدي عن زروعكم وحرم دياركم وفنادقكم وسويقتكم ورفع الأيدي عن الاعتراض عليكم في دخول النساء إلى حمامكم وحوانيتكم وتسريح أعشاركم وأجرائكم على رسمكم وجري عادتكم فمن وقف عليه من العمال وسائر الولاة فليعمل على ذلك الأمر».
         وإذا كان صحيحا أنّ في هذا المرسوم امتيازات أليس بإمكاننا أن نرى فيه اعترافا بالأحيزة التي تمتد إليها سلطة الولي يمهد بدوره لاعتراف الولي بدائرة نفوذ الأمير؟ ألا يمكن أن نحمله أيضا على أنه إقرار بجملة المطالب التي كانت وراء انتفاضة الرأي العام السنّي ضد الأرستقراطية الشيعية المتنفذة رغم الغطاء المذهبي لهذه الانتفاضة؟ ثمّ ألا يمكن أن نعتبر هذا الظهير الإطار المرجعي التأسيسي لما سيميّز في الأعمّ الأغلب علاقة السلطة السياسية بمؤسسة الولاية انطلاقا من العهد الموحدي إلى غاية صدر العهد الحفصي؟  والإطار المرجعي أيضا لما ستدعم به مؤسسة الولاية لاحقا رصيد هيبتها الروحي نعني اتساع مجال نفوذها الاجتماعي من خلال تشعب نطاقات تدخلها وامتداد فضاءات مواردها المالية وتضخّمها.

خاتمة

إنّ استجماع محرز بن خلف لصفات ذات محتوى يكرّس الوليّ زعيما روحيا ودنيويا في ذات اللحظة سيكون السبب المباشر في طبيعة النهاية التي آل إليها، استهدفته ردود فعل مناوئيه من نخب المجتمع الشيعيّة إذ قيل فيها «إنّما عرض له بالليل» وقيل «إنما دسّ عليه من سقاه السمّ»، وعلى أيّة حال فقد تمّت تصفيته جسديا عام 413/1022 إمّا بالاعتداء عليه في جنح الظلام وإما تسميما.
ومهما يكن من أمر فإنّ اكتمال المثل الأعلى الولائي في الأنموذج الذي يجسده محرز بن خلف لا يتمّ بتوفر هذه المقومات ذات الطابع الدنيوي في شخصيته وإنما أيضا عبر اتصال هذه المقومات بمقومات أخرى ذات ميسم روحي وأحيانا عجائبي.

*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 مارس 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING