الشارع المغاربي – على وقع الثالث من أكتوبر: هل شرعت تونس في استرجاع أنفاسها ؟/ بقلم: معز زيّود

على وقع الثالث من أكتوبر: هل شرعت تونس في استرجاع أنفاسها ؟/ بقلم: معز زيّود

قسم الأخبار

9 أكتوبر، 2021

الشارع المغاربي: بعد المظاهرات العارمة، ليوم الأحد 3 أكتوبر 2021، التي أثبتت غلبة الرافضين لعودة هيمنة منظومة الإسلام السياسي، هل يمكن القول إنّ تونس استعادت أنفاسها؟ يبدو هذا التساؤل جداليّا ومتشعّبًا جدّا، إذ تبقى الإجابة عنه رهينة لاتّضاح الصورة على أكثر من صعيد، كيف ذلك؟

تصاعدَ الخطاب الإطلاقي (Discours absolu) في تونس خلال الفترة الأخيرة. فالكلّ يدّعي امتلاك الحقيقة والتمسّك بـ”الشرعيّة” والتعبير عن إرادة هذا الشعب الذي ينصّ الدستور في بابه الأوّل، غير المعلّق، على أنّه “صاحب السيادة ومصدر السلطات”. نُلامس هذا الخطاب الشعبوي، أي اختزالا المتحدّث باسم الشعب، سواء على لسان رئيس الجمهوريّة والمساندين لقراراته المتتالية منذ 25 جويلية أو على ألسنة خصومه من الفاعلين السياسيّين وأساسا من حركة النهضة التي بذلت كلّ ما في وسعها من الضغوط داخليّا وخارجيّا أملا في استعادة المنظومة السابقة أنفاسها واستئناف هيمنتها السياسيّة على مقدّرات البلاد. وفي نطاق عمليّة “جسّ” لردود الفعل والتفاعل، جاءت الخطوة الثانية المتمثّلة في مراهنة الجانبين على الشارع لاستعراض القوّة الكفيلة بإحراج الخصم اللدود ودفعه إلى التراجع. وفي المحصلة، وجد المتابع المستقلّ نفسه يُردّد العبارة الكرويّة القائلة إنّ “العبرة بالنتيجة”…

اختبار الشارع وحرب الشعارات

خلال المظاهرة الحاشدة، يوم الأحد قبل الماضي، التي نظّمها بنجاح أنصار حركة النهضة أساسا وحلفاؤها بدا للعيان حينها أنّ جماعة الإسلام السياسي لا تزال قوّة ضاربة من حيث حجم التحشيد وإحكام التنظيم والانضباط الحركي، لكن سريعًا ما اضمحلّت هذه الصورة بعد نجاح المظاهرات العارمة التي غمرت أمس الأوّل الأحد شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة والشوارع الرئيسيّة بعدد من المدن التونسيّة الكبرى. وبذلك بدا واضحا تفوّق مظاهرات هذا الأسبوع على مستوى الحجم الهائل للحضور الجماهيري المتزامن في اكثر من مدينة دون الحاجة إلى الحافلات وسائر المحفّزات، وذلك على الرغم من وجود قيادة حزبيّة حشدًا للمظاهرة الأولى واقتصار مظاهرات يوم 3 أكتوبر على تواتر الدعوات على صفحات الميديا الاجتماعيّة.

بات “الشارع” إذن سلاحا أساسيّا حادّا يعكس إلى حدّ كبير موازين القوى القائمة. ومن الواضح في هذا السياق أنّ كفّة الزخم الشعبي تميل حتّى الآن إلى صالح رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد الماسك بزمام السلطة بمختلف دواليبها. ومع ذلك فإنّ “حرب الشعارات” زمن الاحتجاجات الكبرى قد بدأت تفقد ألقها. فمن المفارقات ما يُلاحظ من شعارات متشابهة يرفعها أنصار هذا الشقّ وذاك، إذ أنّ كلاهما يشترك في رمي الآخر بتهم الخيانة والغدر والعمالة للخارج.

وفي المقابل، يمكن أن نتبيّن بيُسر بعض الشعارات التي تُميّز هذا الشقّ عن ذاك. فالمساندون لرئيس الجمهوريّة لا يتردّدون في توصيف خصومه بـ”المرتزقة” و”الفاسدين” و”تجّار الدين”، في حين يُواجههم خصومهم بنعوت “الانقلابيّين” و”عبيد الاستبداد” بل وحتّى بـ”الكفرة”. ولا نبالغ هنا في القول إنّ الكثير من أنصار حركة النهضة يعتبرون أنّ مناصري قيس سعيّد والملتفّين حوله يشنّون حربًا على الإسلام والمسلمين، مستخدمين بذلك معجمًا اصطلاحيّا يعود إلى عصور غابرة، وكأنّ الرئيس قيس سعيّد المعروف بكونه شخصيّة محافظة قد أمسى بين ليلة وضحاها شخصيّة يساريّة أو تقدّميّة، رغم أنّ مواقفه الرافضة لبعض قيم المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان مسألة غير خفيّة. ولِيَسعد هؤلاء ويهنؤوا بالًا بأنّ خصمهم اللدود الذي لا يرجون له سوى الاندثار لن يسمح، مثلما فعلوا قبله، بتمرير قوانين تحرّريّة على غرار المساواة في الميراث وإلغاء عقوبة الإعدام، وذلك من باب عدم الإيمان الكامل بمقوّمات الدولة المدنيّة الحديثة والحداثيّة…

نهاية أم فشل مؤقت!

في كلّ الإحوال فإنّ المظاهرات الحاشدة الأخيرة كشفت مجدّدا، كما حدث ليلة 25 جويلية الماضي، ما شاب المنظومة السياسيّة السابقة من تراجع شديد إلى حدّ الآن. ولا يخفى أنّ هذا التراجع الهائل ليس وليد اللحظة أو نتيجة فوريّة مباشرة لقرارات الرئيس قيس سعيّد. فعلى الرغم من فوز حركة النهضة في معظم الاستحقاقات الانتخابيّة السابقة، فإنّ الواقع كشف مدى انكماش حجمها وتراجع انتشارها شعبيّا. ولا أدلّ على ذلك من أنّها حازت في انتخابات 2019 ما يقلّ عن 500 ألف صوت، في حين أصاب الانهيار الشامل سائر حلفائها على غرار حزب “قلب تونس” الذي انتهى أصلا بهروب رئيسه خلسةً إلى الجزائر وقبوعه في أحد سجونها. ولا ننسى كذلك النهاية غير المعلنة لحلفائها السابقين كحزب “نداء تونس” وحزبي المؤتمر من أجل الجمهوريّة والتكتّل الديمقراطي من الحريات والعمل… ومع ذلك يبدو من السابق للأوان الحديث عن نهاية الإسلام السياسي في تونس، وخاصّة بوجود أرضيّة خصبة للاستقطاب الأيديولوجي في الأوساط الشعبيّة. وهو مجال لن تُسلّم حركة النهضة مفاتيحه، وإن اضطرّت لتغيير المسمّيات الحزبيّة تحت أيّ عنوان…

تغيّرت إذن كافّة المعادلات السياسيّة، فخطاب “المظلوميّة” الذي أتاح لحركة النهضة تصدّر القائمات الانتخابيّة لم يعد يُجدي نفعًا، بعد أن شكّل طويلا رأسمالها الرمزي. فلم تلبث أن احترقت بنيران مدّ شعبويّ طحن كافّة الخصوم والمنافسين. والغريب أنّ العديد من قياديّي حركة النهضة أثبتوا إلى حدّ اليوم عجزهم عن استيعاب الدرس الشعبي، وهو ما يُفسّر أنّهم مازالوا يُمعنون في الاضطلاع بدور الضحيّة ويرفضون الاعتراف بالأخطاء الجسيمة المتواترة ويتغافلون عن ممارسة ما يتوجّب عليهم من مراجعات ونقد ذاتي بتعلّة أنّ حركة النهضة لم تحكم البلاد إلّا لفترة قصيرة.

وحين تجلّى فشلها في إدارة شؤون البلاد، بعد تجربتها على امتداد سنوات، عاقبها التونسيّون الذين سئموا شتّى الوعود الكاذبة بشأن تحسين أوضاعهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة البائسة. ومن ثمّة هبّوا بكثافة في احتجاجات ومسيرات يوم 25 جويليّة ومظاهرات يوم 3 أكتوبر للتعبير عن رفضهم الكلّي لعودة البرلمان السائب والتصدّي لاحتمالات إعادة استنبات موازين القوى نفسها التي كانت تحكمه وتؤبّد منوال ديمقراطيّة شكليّة فاسدة.

ومن العوامل التي قد تكون أضرّت بصورة حركة النهضة وجماعات الإخوان عموما ما أصبح يرتبط بها من جموح إلى استجداء القوى الأجنبيّة الكبرى للتدخّل في الشأن الوطني ومحاولة الاستقواء بها من أجل ممارسة أشدّ الضغوط على رئيس الجمهوريّة بهدف التراجع عن قرارات 25 جويليّة. فعلاوة على أنّ الدول الكبرى، والولايات المتّحدة الأمريكيّة في مقدّمتها، قد تغيّرت أولويّاتها الإقليميّة وباتت تولي جلّ اهتمامها لكيفيّة مواجهة التنين الصيني المتعاظم. كما أنّها تيقّنت بعد من أنّ دعمها لجماعة الإخوان لم يحُل دون فشلهم في تجربة الحكم حيثما حلّوا. فباتت تُرجّح نهج الواقعيّة السياسيّة (Realpolitik) الذي يدعم من يمتلك القوّة على الأرض ولا يستهدف مصالحها الحيويّة. وهو ما يُدركه الرئيس قيس سعيّد جيّدا، ما جعله يُركّز في لقاءاته مع الشخصيّات الأجنبيّة على الحديث عن اتّساع التأييد الشعبي العام لقراراته.

توظيف الدين في السياسة والاستقواء بالقوى الأجنبيّة والدفاع عن الشرعيّة الانتخابيّة بات له إذن تأثير عكسي في استقطاب التونسيّين وحشدهم للدفاع عن مصالح حركةٍ لم تقدّم إليهم شيئا، بقدر ما رسّخت في الأذهان أنّ سياسة الغنيمة وحماية الفاسدين تقف وراء تعكّر أوضاعهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة المتهالكة أصلا!.

استثناءات تونسيّة

هكذا انكسرت حواجز الخوف والتردّد لدى التونسيّين، وباتوا ملقّحين نسبيّا، لا من فيروس كورونا فحسب وإنّما أيضا من شتّى الفيروسات السياسيّة المضنية. وإن لفظَ معظمهم الإسلام السياسي هذه الأيّام، فإنّهم على استعداد للتخلّص ممّن يُناصرونه اليوم في حال كُتمت أنفاسهم ولم تصطلح أحوالهم غدا. ففي الماضي تمرّدوا على تجربة التعاضد التي انتهت دون رجعة. وحين أزاح الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الزعيم الحبيب بورقيبة من سدّة الحكم خرج التونسيّون مُهلّلين لصاحب السلطة الجديد، ثمّ انقلبوا عليه زمن الثورة بعد أن ساءت أحوالهم وفاحت رائحة الفساد المتعاظم لأصهاره.

ومع ذلك، كثيرا ما أثبت التونسيّون أنّهم شديدو الحرص على الحفاظ على أركان دولتهم، وخاصّة عندما يستشعرون أخطار الانقسام الداخلي أو العدوان الخارجي. وعبر مراحل تاريخيّة متلاحقة ثبت مدى تعلّق التونسيّين بمختلف نحلهم بسلطة مركزيّة قويّة تبسط نفوذها عمليّا أو حتّى رمزيّا على كامل البلاد.

وعلى هذا الأساس، تشرئبّ أعناق معظم التونسيّين اليوم نحو قصر الرئاسة بقرطاج، انتظارا لإيفاء رئيس الجمهوريّة بما تعهّد به من محاسبة للفاسدين والعابثين بالمال العام وإصلاح الأحوال في أقرب الآجال.

هذا الدعم الشعبي لا يعني أيضا أنّهم قد يقبلون، بعد كلّ التضحيات والمعاناة وسقوط الشهداء، بعودة نفوذ المستبدّ العادل أو “الأخ الأكبر”، وفق التوصيف التاريخي الشهير للكاتب البريطاني جورج أورويل لقادة الأنظمة الكليانيّة والاستبداديّة.

متى نتجاوز الأوهام؟!

من الوهم اليوم أيضا الترويج لصلاح الأحوال المنهكة للبلاد لمجرّد تغيير النظام السياسي وانتهاء منظومة سياسيّة أثبتت فشلها الفظيع. فرغم ما يجمع التونسيّين من حرص على الدفاع عن وحدة الدولة وتماسكها، فإنّه لا يخفى أنّ المصالح الذاتيّة الضيّقة أمست محرّكا أساسيّا في ظلّ ما يسود من إفلات من العقاب وانتقائيّة في تطبيق القانون. فقد تسبّب ذلك في إضعاف مؤسّسات الدولة وإنهاكها بالفساد والرشوة والمحسوبيّة. وهذا ما لا يمكن إصلاحه بمجرّد تراجع هيمنة طائفة سياسيّة معيّنة على دوائر الحكم. وحتّى في حالة وجود إرادة سياسيّة فعليّة للإصلاح فإنّه يصعب أن تؤدّي أغراضها على مدى زمني قصير، وخصوصا إذا استمرّ الانفراد بسلطة القرار وإقصاء مختلف الفاعلين السياسيّين ومكوّنات المجتمع المدني. ولا ريب أنّ البلاد في أمسّ الحاجة اليوم إلى مراكمة الممارسات الفضلى والتزام مؤسّسات الدولة بردع التجاوزات بشدّة وبقدر المساواة على الجميع، وليس فقط باستهداف منتقدي رئيس الجمهوريّة…

وإذا قلنا إنّ البلاد استرجعت أنفاسها، بعد سبعين يوما من الإعلان عن قرارات 25 جويلية، فهذا يفترض أن تكون الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة على ما يُرام وعلى الأقلّ قد تحسّنت بعض الشيء. والحال أنّ الحدّ الأدنى من مقوّمات النماء والاستقرار في كافة المجالات لم يتوفّر بعد، ولا يزال الغلاء الفاحش للأسعار يُقضّ مضجع معظم الأُسَر… يبدو إذن أنّ هناك مسافة غير هيّنة تفصلنا عن استعادة الدولة التونسيّة أنفاسها، لأنّ الهواء الذي تتنفّسه لم يبلغ بعد الدرجة المطلوبة من النقاء…

ولا شكّ كذلك في أنّ تونس ستستعيد أنفاسها حقّا حين تخرج من الاستثنائي والمؤقّت إلى الدائم، ومن الضبابيّة والغموض إلى الواضح والثابت، وحين تضع حدّا للإفلات من العقاب وتُطبّق القانون بعدل على الجميع على غرار فرض قرارات المنع من السفر والإقامة الجبريّة بمقتضى أحكام قضائيّة ودون انتقائيّة كما هو الحال اليوم، وحين تُبنى مؤسّساتها السياديّة على أسس صحيحة تُتيح فصلا فعليّا بين السلطات وتُرسّخ الإيمان بقيم الديمقراطيّة وتتجنّب السقوط في تهويمات المدينة الجماهيريّة الفاضلة التي تُكمّم أفواه معارضيها وثبت فشلها حيثما جُرّبت…

نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 5 اكتوبر 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING