الشارع المغاربي: اصبح الرئيس الباجي قائد السبسي بعد انتخابات 2014 في قلب المدار الفلكي السياسي المؤسساتي التونسي وذلك على الرغم مما وضع في الدستور للحد من الظاهرة الرئاسوية وعلى الرغم من الممارسات الدستورية للترويكا وكل الأليات التي وضعت لإحكام قبضة رئيس الحكومة على الهرم المؤسساتي.
هذا التنقيح الدستوري المقنع أصبح ممكنا لآنه وعلى خلاف فترة الترويكا وحتى فترة المهدي جمعة حين كان الوزير الأول مسنودا من الرباعي الراعي فان رؤساء حكومات ما بعد انتخابات 2014 نكرات لم يلعبوا أي دور في انتصار حزبهم في الانتخابات التشريعية مما جعلهم فاقدين لكل شرعية انتخابية تمكنهم من اتخاذ قرارات موجعة استنادا الى الوكالة العامة التي أعطيت اليهم من قبل الشعب.
ان هذه الحكومات أصبحت تبعا لذلك عرضة للتأثيرات الخارجية وتستند في خاتمة المطاف الى أحزاب لم ترشحها الى هذه المناصب وبالتحديد إلى شريكهم الثاني في الحكم حركة النهضة خاصة بعد الاندثار الرهيب لحزب نداء تونس تحت وطأة الانشقاقات والطموحات الغير الممكنة.
وقد مكّن هذا الوضع رئيس الدولة من افتكاك الدور الريادي في تسيير شؤون البلاد عبر آليتين تمثلت الأولى في التحالف مع حركة النهضة وتلبية رغبتها المعلنة في البقاء في السلطة رغم هزيمتها الانتخابية وذلك بتقديم التنازلات الجوهرية لها دون مقابل للقضاء على كل معارضة جدية. اما الثانية فتمثلت في تدمير نداء تونس وتطهيره من كل العناصر التي تناهض التحالف مع الإسلام السياسي واستبدالهم بعناصر انتهازية تحت اشراف نجل الرئيس الذي لا يعقل ان يكون بينه وبين ابيه خلاف سياسي جدي وجوهري.
هذا الجهد للتمكن من مقاليد الحكم وتطويع الدستور لفائدة رئيس الدولة وقع على حساب الجدوى والفاعلية الحكومية بحيث اصبح رؤساء الحكومات والوزراء بصفة اكثر جلاء جالسين على «مقاعد قاذفة» وعرضة لكل المساومات من قبل الأحزاب والمنظمات الوطنية. وأصبحت الحكومات ورؤساؤها في مهب الارياح لا تعمر طويلا ولا تستطيع ان تفرض تمشيا يتناغم مع المصلحة العليا للبلاد ويخرجها من الوضع التي تردت فيه. وهذا امر طبيعي جدا لان المواطنين وخاصة المنظمين منهم بمختلف اصنافهم رافضون لتقديم أية تضحيات لطبقة سياسية حاكمة فاسدة عموما لا تحركها الا الاهواء والمصالح الحزبية والذاتية الضيقة ولا ترتكز على أية فكرة صلبة تشحذ العزائم وتدفع بالبلاد الى الامام.
هذا الوضع يزداد تعقيدا اذا تبين عدم تمكن الملاحظين وحتى المقربين من رئيس الدولة ومستشاريه –اللذين لا نعلم بالضبط تأثيرهم الحقيقي على مدار الأمور– من حصر التوجهات الكبرى وتصوراته لواقع تونس ومستقبلها خاصة ونحن نعلم عبر رحلة الباجي قائد السبسي السياسية الطويلة انه ليس رجل فكرة او تمش عقائدي او مبدئي بل انه يتأقلم مع الأوضاع ولا يتردد في مغادرة سفينة مهددة بالغرق لركوب سفينة أخرى. هذه البراغماتية مكنته من المرور من العهد الملكي الى عهد بورقيبة فعهد بن على حتى نجح في بناء عهد خاص به كرئيس حكومة مباغت في مرحلة أولى و كرئيس جمهورية منتخب في مرحلة ثانية.
ان هذه الضبابية لمعرفة استراتيجية الباجي قائد السبسي للوفاء بعهوده الانتخابية تزداد كثافة لما نحلل تصريحاته التي تتسم في كل المناسبات بشيء من السطحية. بطبيعة الحال هذا لا يعني ان الرجل يفتقر الى العمق الفكري ولكنه محنك في المراوغة ويعلم كل العلم بالغريزة والتجربة ان كل تعمق في أي موضوع قد يغضب جزءا من أنصاره او حلفائه.
ان الباجي قائد السبسي يردد في كل مناسبة وآخرها في الاجتماع الأخير للجنة وثيقة قرطاج ان العالم (الشرقي والغربي) راض عن التمشي التونسي وعلى المسار الديمقراطي الذي انتهجته البلاد رغم ما جد فيها من انخرام امني واقتصادي واجتماعي. هذا يذكر بكل مرارة بممارسات بن علي الذي كان يفتتح نشرات انبائنا بتمجيد الأوساط والشخصيات الاجنبية لمناخ الانتخابات ونتائجها وهو يعلم جيدا ان الشعب التونسي واع بانها زيفت على أوسع نطاق.
فهل يمكن ان يعيش شعب غير راض بالمرة على أوضاعه الداخلية متكئا على فرحة الاخرين بتمشيه ومبتهجا بإعجابهم بما يفعل؟ وهل يمكن لرئيس الدولة ان يتبجح بذلك دون الوقوف عند الحالة الحقيقية للبلاد ومشاعر اغلبية أبنائها؟ هذا يذكرنا برضا القناصل عن إصلاحات البايات التي أدت في النهاية الى الحرب الاهلية وفقدان السيادة.
هناك شعار آخر يردده رئيس الدولة في كل مناسبة وهو شعار الالتزام باحترام المواعيد الانتخابية الذي يعتبره المسؤول الأول في البلاد هدفا في حد ذاته بغض النظر عن نتائج هذه الانتخابات وانعكاساتها العميقة على مستقبل البلاد. هذا الشعار خطير للغاية لأنه أولا غير صحيح باعتبار ان الانتخابات الأخيرة وقعت في غير مواعيدها وبعد تردد كبير ومناورات لا تحصى ولا تعد وثانيا لأنه تمسك بالشكل على حساب المحتوى. وان رجل الدولة الحقيقي يمكنه مخالفة المواعيد الانتخابية وتأجيلها اذا تبين له ان نتائجها العاجلة او الآجلة قد تؤدي بالدولة الى الاندثار وبالبلاد الى الهاوية.
هذه الثوابت في الخطاب الرئاسي قد توحي بأن المسار التونسي محكوم عليه بأن يكون رهينة للإملاءات الخارجية دون ان تجهد الأوساط المالية نفسها بتقديم دعم اقتصادي ومالي حقيقيين مثل ما فعلت الولايات المتحدة في أوروبا ابان الحرب العالمية الثانية عن طريق مخطط مارشال. فهل ان الباجي قائد السبسي استبطن العجز الداخلي والخارجي في «تقرير المصير» وهل يعتقد انه من غير الممكن لبلد ضعيف اقتصاديا مثل تونس ان يتصرف حسب إرادة ومشيئة مواطنيه هذا البلد الذي نجح منذ استقلاله سنة 1956 في فرض شخصيته وتمشيه على أصدقاء في الشرق والعرب.
ان عدم الوضوح والسكوت عن الحقائق وعدم الافصاح بها للشعب واتباع منهج البيداغوجيا والتفسير والتطرق الى جوهر المواضيع من قبل رئيس الدولة يهم تقريبا كل المجالات. فمثلا في الوقت التي تخرج من افواه كل الاخصائيين صيحات الفزع امام الإفلاس الاقتصادي يصر رئيس الدولة على تقديم نسبة النمو كمؤشر على النجاح الاقتصادي بينما يرى جل الملاحظين ان هذا الرقم لا يعكس الحقيقة وان الأرقام الاقتصادية مفزعة ولا تبعث على التفاؤل.
ان غض الطرف من قبل رئيس الدولة عن الوضعية القاتمة لكل القطاعات تقريبا (الإدارة العمومية التي دخلت بسرعة مذهلة في عصور الانحطاط واللامبالاة التامة والتقاعس – العدلية التي كانت خاضعة لإرادة واحدة فأصبحت خاضعة للحسابات والاهواء– مقاومة الفساد التي توقفت والسلطة عاجزة عن إيجاد حل سلبي او إيجابي للخروج من مخالب الفاسدين والحد من تأثيرهم على سلطة القرار– الاعلام الذي اصبح خاضعا لموازين القوى الاقتصادية ومن ورائها زمرة المنتفعين والمهددين والامن الذي لا يزال رغم تحسنه عرضة للنكسات). كل هذا غائب تماما – تشخيصا وحلولا – عن خطاب الرجل الذي امسك بين يديه بمصير الامة والذي اصبح تبعا لذلك مسؤولا امام الشعب والتاريخ عن الأمانة التي سلمت له سنة 2014.
ان محاولة استقراء التوجه الحقيقي للرجل الذي نجح في اعتلاء كرسي الرئاسة وفي تطويع دستور الجمهورية الثانية المليء بالفخاخ عملية عسيرة لان ظاهر تمشيه عملية انتحارية متواصلة. فبعد نجاحه في إعادة هيكلة الفضاء السياسي وفي ظرف وجيز بعثر كل أوراقه وأصبح رغم ظاهر نفوذه الادبي والسياسي عاجزا عن تطويع حزبه والتأثير في حلفائه وأصبح يسيّر الاعمال ويساير الاهواء والطموحات دون بوصلة حقيقية تدل على توجهاته العاجلة والآجلة ودون التعمق في جذور الازمة التي تعيشها البلاد والتي تحتاج الى نفس مغاير تماما للنفس الذي يتصاعد من قصر قرطاج ومن قصر الحكومة.
فهل هذا قصور ام تقصير؟ لا اعتقد ان الباجي قائد السبسي المعروف بفطنته وحنكته لا يلم بمعطيات الوضع الراهن لكن عدة عوامل داخلية وخارجية موضوعية ونفسانية تمنعه من مصارحة الشعب ومن العدول عن المسار المسدود الذي اختاره لتونس والتي بينت الانتخابات الأخيرة مدى يأس الشعب التونسي ورفضه المطلق لما آلت اليه الأمور وذلك باتخاذ إجراءات حاسمة تخرجنا من مسلسل الحكومات المتعاقبة الشبيهة بمستعملي الدراجات المنزلية الذين يديرون ارجلهم بكثافة وقوة دون التحرك ولو شبرا واحدا.