الشارع المغاربي – في استغلال النهضة «الباندية» والمهمشين/ تحقيق: محمد الجلالي

في استغلال النهضة «الباندية» والمهمشين/ تحقيق: محمد الجلالي

قسم الأخبار

19 فبراير، 2022

الشارع المغاربي: بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدق طبول الحرب على العراق في 2003 تفتقت قريحة صقور إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن عن استغلال قرابة 40 ألف جندي من غير الأصول الأمريكية في معركة احتلال العراق. لجأت أمريكا إلى دفع عشرات الآلاف من المنساقين خلف «الحلم الأمريكي» من ذوي أصول لاتينية إلى أتون الحرب مقابل تمكينهم من الجنسية في صورة عودتهم أحياء.

إستغلال المهمشين لم يكن حكرا على صقور الإدارة الأمريكية في شن حروبها الإقليمية بل امتد ولو بشكل آخر إلى مشهد تونسي لم تسلم عوالمه الخلفية من قاع مزدحم بالجريمة والفقر والتهميش واستغلال وتطويع واستقطاب لمآرب مختلفة.

وكان لحركة النهضة وبصفة اقل أحزاب مثل نداء تونس والحزب الدستوري الحر والبديل نصيب في مراودة بعض «الباندية» واستخدامهم في مهمات خاصة.

شبيحتهم و»بانديتنا»

لم تسلم أغلب الثورات العربية التي اندلعت سنة 2011 من استغلال الأنظمة الحاكمة بلطجية وخريجي سجون ومجرمين للتصدي التحركات الشعبية. يوم 2 فيفري 2011 لم يجد نظام حسني مبارك من حل لشق صفوف المعتصمين في ميدان التحرير بالقاهرة سوى شن هجوم بالجمال والبغال والخيول في مشهد شبيه بمعارك عصر الجاهلية. كان على متن الدواب بلطجية مسلحين بالسيوف والعصي والسياط، معززين بـ «مُشاة» يلوحون بالعصي والحجارة والسكاكين وقنابل المولوتوف. وكان من بين المهاجمين مُجرمون تم إخراجهم من السجون للتخريب ولمهاجمة المتظاهرين. وفي سوريا استغل نظام بشار الأسد عصابات «الشبيحة» المختصة في تهريب السلاح والمخدرات والسجائر للتصدي للمظاهرات العارمة.

بدءا ببلطجية مصر مرورا ب»شبيحة» سوريا والقبعات الصفراء في ليبيا وصولا إلى «بلاطجة» اليمن، كان خزان المجرمين ومهمشي العالم السفلي وقودا لمعارك وحروب أهلية لدى وزرات الداخلية بينما كان الأمر مختلفا كليا في تونس. فقد بقي «الباندية» يتحركون في فضاءات سفلية وعوالم مظلمة طيلة عشرية كاملة ولم تتمكن الدولة بمختلف أجهزتها من السيطرة عليهم ولنا كأمثلة احياء شعبية بالعاصمة ظلت لسنوات عصية على دخول رجال الأمن أو تحالفات بين «باندية» وبعض المتنفذين لاستغلالهم في مهمات قذرة فيما عملت أحزاب على الاقتراب منهم والتعامل معهم وتوظيفهم وأحيانا التضييق عليهم.

«باندية» النهضة

يوم 9 ديسمبر 2021 شهد مقر حركة النهضة بمونبليزير انتحارا راح ضحيته شاب يدعى سامي السيفي. حدث هز مقر الحركة ولم يمر دون ظهور تفاصيل جديدة عن عالم النهضة الخلفي. كمال الحوكي احد أبناء الحركة كتب تدوينة مطولة على صفحته بموقع «فايسبوك» متحدثا عن «تشبث المتحكمين في زمام الحركة بالتموقع والهيمنة والسيطرة رغم أن منظومتهم قد اهترأت وبليت وسقطت» مذكرا بحادثة تعود إلى زمن نظام بن علي.

يقول كمال الحوكي: «جاء احدهم إلى صديق نهضوي باكيا وشاكيا ضيق الحال. وبعد ان طلب منه مساعدته ماليا لخلاص معاليم الكهرباء المقطوع عن منزله كانت إجابة صديقه: فلتتنصت على فلان ولك مني 100 دينار».

وكتب كريم عبد السلام المنشق عن الحركة في نفس الإطار: «لمَ لا يزالون متعطشين لنهش اجسادنا حتى بعد حصولهم على اللجوء والجنسيات والمراكز والمناصب؟ لمَ لا نسقط إلا نحن كضحايا وهم أبديون لا يسقطون كآلهة الحرب والسلم؟»

يقول كريم عبد السلام في تصريح لـ «الشارع المغاربي»: «تحولت حركة النهضة الى آلة عمياء لا تتوانى عن استغلال المستضعفين والمهمشين وأصحاب السوابق خدمة لأغراضها. ومن يقف في وجهها أو يرفض الانصياع لها يكون مآله التهميش والمضايقة. وهذا التمشي كان نتاج تمرّس اغلب قادتها داخل السجون لسنوات طوال.»

يذكر ان كريم عبد السلام كان قد أشار في شهادة نشرها على موقع المفكرة القانونية إلى أن الحركة استقطبته في ثمانينات القرن الماضي مستغلة صغر سنه ووضعه الاجتماعي الصعب بقوله «انخرطت رغم طفولتي في العمل السياسي ولم أكن في هذا استثناء إذ أن كل الحركات السياسية المعارضة كانت في تلك السنوات تستقطب الأطفال في نشاطها ليكونوا ضمن أدوات تحريك الشارع في إطار ما كان يصطلح على تسميته بالحركات التلمذية».

الإخوة في «الكرّاكة»

تسبب احتدام الصراع بين حركة الاتجاه الإسلامي ونظام بن علي خلال ثمانينات القرن الماضي في عمليات كر وفر وارتكب النهضوين عمليات حرق وجرائم قتل منظم فزج بالمئات منهم في السجون. داخل السجن أصبح النهضويون بعد مدة ليست بالطويلة قوة لافتة تتحكم في اغلب منظوماته.

يقول لطفي الجلاصي، وهو سجين سابق جمعته الزنازين ببعض قيادات الحركة: «في بداية عهدهم بالسجن مر النهضويون بلحظات ضعف وخوف بما جعلهم يحتمون بكبار المجرمين فكنا نذود عنهم في مرات عديدة.»

ويتابع: «حاول نظام بن علي كسر شوكتهم بتحريض بعض المثليين على التحرش بهم ودفع البلطجية إلى الاعتداء عليهم فما كان منهم إلا التكتل والتحرك بصفة جماعية لرد كل اعتداء. ومع مرور الشهور والسنين باتوا يشكلون قوة ضاربة داخل السجون ويفرضون نواميسهم وأحكامهم.»

في ذات السياق يؤكد كريم عبد السلام ان مساجين الحركة لم يكتفوا بتشكيل قوة دفاعية داخل الزنازين وأنهم  تمكنوا من امتلاك قوة مالية وتسييرية مشيرا إلى أنهم كانوا يتحكمون في عمليات بيع مواد التموين والسجائر للمساجين وحتى في كميات المخدرات التي تصل للنزلاء بطرق خفية.

ويضيف عبد السلام: «تمكن أبناء الحركة من التعرف على عوالم السجن واقتربوا من أخطر المجرمين وربطوا علاقات صداقة معهم ثم استغلوها إثر خروجهم من السجون وخاصة بعد ثورة 2011 التي أوصلتهم إلى سدة الحكم.

ويلفت الى ان النهضة استغلت «الباندية» في أكثر من مناسبة معتمدة على سياسة قائمة على الترغيب والترهيب والى أن لطفي الجلاصي هو أحد المساجين الذين كانوا عرضة لهذه السياسة منذ 2011.

الماخور ونكث الوعود

يؤكد لطفي الجلاصي ان قربه من بعض قادة الحركة خلال سنوات السجن (حمادي الجبالي وعبد الكريم الهاروني ورضا البوكادي وسمير ديلو..) أتاح له الاشتغال مع الحركة سنة 2012 ملاحظا انه تم تكليفه من الحزب لجمع امضاءات التجار والسكان المجاورين لماخور العاصمة للمطالبة بإغلاقه مقابل تكفل الحركة بجلب تمويلات خليجية لتوفير موارد رزق للعاملات به.

ويواصل الجلاصي: «بعد جهد ومثابرة تمكنت من جمع اكثر من 4 آلاف إمضاء لكني فوجئت بمماطلة النهضة في الايفاء بوعودها رغم يقيني بحصولها على تمويلات من جهات خليجية فما كان مني إلا مواجهة قيادتها ولومها على نكثها بعهدها، حينها كانت القطيعة التي استغلتها الحركة لهرسلتي ومحاولة تركيعي.

الجلاصي يشدّد على ان النهضة كانت وراء ايقافه وتلفيق تهم كيدية له في أكثر من 20 مناسبة بين 2012 و2020 مبينا انها كانت تمارس عليه ضغوطها ثم سرعان تفتح معه بعض قنوات التفاوض سواء عن طريق بعض أصدقائه أو مباشرة عبر قادتها.

في هذا الإطار يشير لطفي الجلاصي إلى تنقل كل من نور الدين البحيري والصادق شورو في تمام الثانية فجرا من أحد أيام شهر جانفي 2013 إلى سجن المرناقية لملاقاته ومطالبته بالكف عن انتقاد الحركة مقابل إطلاق سراحه.

وأحزاب أخرى..

تواصل الشد والجذب بين السجين السابق لطفي الجلاصي وحركة النهضة ليبلغ حد المناوشات المتبادلة بينه وبين أحد الحراس الشخصيين لرئيس الحركة راشد الغنوشي أمام أحد النزل وينتهي باستدعائه لحضور تظاهرة سياسية من تنظيم الحركة على هامش الانتخابات التشريعية لسنة 2019.

يقول الجلاصي: «التحقت بالتظاهرة فجلب انتباهي تكفّل أحد المحسوبين على الحركة بتوزيع أموال على الحاضرين فما كان مني الا أن رفضت العرض متهما القائمين عليها بشراء أصوات المفقّرين للصعود على أكتافهم إلى سدة الحكم».

ويتابع: «في نفس السنة اتصل بي حزب البديل لدعوتي لاجتماع ببلدية سيدي البشير ثم طُلب مني تأمين حماية بعض الشبان المكلفين بالقيام بالحملة الانتخابية للحزب وعلمت أنهم قاموا بنفس الشيء بالنسبة لتحركاتهم في كل من مدينتي تونس والمرسى..

كما يؤكد الجلاصي تلقيه اتصالات من الحزب الدستوري الحر للاستعانة بخدماته في تحركاته السياسية.

واكد أنه ليس سوى عينة مما يتعرض له العديد من المنتسبين للعوالم السفلية مشيرا الى ان الحركة ما فتئت كغيرها من أحزاب أخرى تستنجد بـ «الباندية» لضمان دخول آمن إلى الأحياء الشعبية ولشراء الأصوات أو لتنفيذ مهمات أخرى.

يُذكر ان النهضة كانت محل اتهامات باستخدام «باندية» لارتكاب أعمال عنف أو قمع مظاهرات على غرار الهجوم على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل في 2012 أو الاعتداء على مظاهرة 9 افريل 2012 بشارع الحبيب بورقيبة أو أحداث حرق سيارات واعتداء على مشاركين في جنازة الشهيد شكري بلعيد.

كما لم يستبعد البعض وقوف النهضة خلف عمليات العنف التي طالت اجتماعا لحزب نداء تونس بأحد النزل في الحمامات سنة 2018، والذي شهد بدوره استخدام بعض البلطجية بدعوى حماية الاجتماع.

ولم يستغرب الجلاصي تعرض بعض «الباندية» لـ»التأديب» وحتى القصاص في صورة رفض التعامل مع الحركة او إيقاف التعامل معها بعد فترة من الاستغلال، مستشهدا بأكثر من حادثة غامضة تعرض لها بعض المنحرفين المعروفين بتقديم «خدمات جليلة» لها.

من جهته يذهب كريم عبد السلام إلى أن الحركة بقدر ما كانت تسيطر على المساجين بالاعتماد على العنف المفرط أصبحت قوة ضاربة خارج السجن بالاعتماد على نفس المساجين.

ويشير عبد السلام إلى تمدّد سياسة المتاجرة النهضوية من العالم السفلي إلى أبنائها لتطال سطوتها بعض مساجين «الانتماء» السابقين ممن باتوا يعانون من قلة ذات اليد.

يقول كريم عبد السلام: «حادثة انتحار المرحوم سامي السيفي هي واحدة من أمثلة عدة لشباب الحركة الذين طالبوا بمساعدات مالية أو التمسوا الوقوف الى جانبهم. وأمام حالة اللامبالاة التي قوبلوا بها من الحركة لجأ بعضهم إلى محاولة الانتحار وعمد آخرون إلى الاعتداء على المقر وتكسير بعض معداته. في المقابل تعاملت الحركة مع بعض المتسلقين وملبيي نداء المهمات الخاصة بكرم طائي وحفاوة فائقة».

وفي ظل عجز رسمي عن حوكمة عالم مترامي الأطراف من المهمشين و»الباندية» تمثل فيه نسبة العود إلى السجن 40 % وتكتظ فيه السجون بأكثر من 20 الف سجين وتغيب فيه أجهزة الدولة عن الأحياء الشعبية ويتفاقم الفقر ويتعمق الانقطاع المدرسي يبقى قاع المجتمع في مهب استغلال سياسي من أحزاب همها الوحيد ضمان مصالحها ولو على حساب ما تبقى من الدولة.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 فيفري 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING