الشارع المغاربي – في العلاقة بين بروتوكول الاستقلال وانخراط تونس المُبكّر في منظومة التبادل الحرّ / بقلم : أحمد بن مصطفى

في العلاقة بين بروتوكول الاستقلال وانخراط تونس المُبكّر في منظومة التبادل الحرّ / بقلم : أحمد بن مصطفى

24 مارس، 2018

الشارع المغاربي : في هذا المقال سنطرح قضية العلاقة بين بروتوكول الاستقلال واتفاقيات الحكم الذاتي من جهة وانخراط تونس المبكر في منظومة اقتصاد السوق من جهة أخرى وتأثير هذه المنظومة السلبي على جهودها للتخلص من مخلفات الاستعمار الاقتصادي والتخفيف من الأعباء الثقيلة الناجمة عن توسيع علاقات التبعية الاقتصادية والأمنية إزاء مجموعة السبع وتحديدا فرنسا وايطاليا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

والجدير بالذكرأن تناول مسيرة الاستقلال من هذه الزاوية التحليلية لبروتوكول الاستقلال واتفاقيات الحكم الذاتي وعلاقتها بالواقع الاقتصادي الحالي لتونس وما يتصل به من اتفاقيات دولية لا يعني التشكيك في المسيرة النضالية للرموز التاريخية لتونس المستقلة  ودورهم  في بناء أسس الدولة الوطنية التونسية الحديثة بعد قيادة المسيرة النضالية للشعب التونسي من اجل التخلص من الاستعمار الفرنسي ونيل الاستقلال بموجب بروتوكول 26 مارس 1956.

ذلك  أننا نعتقد في أهمية  تسليط الأضواء  على  تلك الوثائق التاريخية التي يجهل جل التونسيين طبيعتها ومضامينها وأبعادها والسياق التاريخي والدبلوماسي المرافق لها وتأثيرها الكبير على تاريخ تونس المعاصر وعلى سيرورة العلاقات بين تونس وفرنسا وكذلك بين ضفتي المتوسط على الصعيدين الثنائي والمتعدد الأطراف.

ولعل الهدف الاسمى لهذه القراءة هو دعوة المسؤولين التونسيين الحاليين لإستخلاص العبر من تاريخ العلاقات مع فرنسا والمجموعة الأوروبية منذ الاستقلال مع  عدم المراهنة على حسن نوايا هذه الأطراف التي لا تفكر في غير مصالحها  وتجنب تكرار أخطاء الماضي في المفاوضات ذات الطابع المصيري بالنسبة لتونس على غرار اتفاق  توسيع التبادل الحرالآليكاباعتبار تبعاته الوخيمة على مستقبل تونس واستقلالها وهويتها  ومصالحها واستقلالية قرارها.

مضمون بروتوكول الاستقلال وأسباب تعثر  تطبيقه

لا شك أن مجرد الإمضاء على بروتوكول الاستقلال لم يؤد إلى تخليص تونس من تبعات الاحتلال الفرنسي الممتد لثلاثة أرباع القرن وما ترتبت عنه من هيمنة اقتصادية فرنسية مطلقة على مفاصل الاقتصاد ومقدرات تونس وثرواتها خاصة أن وثيقة الاستقلال لم تكن سوى إعلان مبادئ يتضمن التزاما بإجراء مفاوضات لاحقة بداية من 16 افريل 1956  لنقل مقومات الاستقلال إلى تونس في المجالات السيادية وإمضاء الاتفاقيات الضرورية لذلك.

غير أن هذه المفاوضات تعثرت بسبب بروز خلافات في تأويل محتوى وثيقة الاستقلال وأولويات التفاوض  حيث كانت فرنسا  تعطي الأولوية لضمان عدم المساس بمكانتها الاقتصادية المهيمنة  وحقوق الفرنسيين والأوروبيين المكتسبة إبان فترة الاستعمار مثلما نصت على ذلك اتفاقيات الحكم الذاتي التي ظلت سارية المفعول بموجب البوتوكول مع الاتفاق على تعديل بنودها التيقد تكونمتعارضة مع وضع تونس الجديد كدولة مستقلة.

كما ينص البروتوكول على مفهوم التكافل بمعنىالتبعية المتبادلةفي المجالات ذات المصلحة المشتركة وخاصة في مجال الدفاع والعلاقات الخارجية وقد اشترطت فرنسا إعطاء الأولوية لتنظيم هذه العلاقات المميزة بموجب معاهدة خاصة مع الإشارة إلى الاتفاق الموقع في 15 جوان 1956 والذي تعترف فرنسا بموجبه بالسيادة التونسية في مجال السياسة الخارجية وهو الوحيد الموقع تنفيذا لبروتوكول الاستقلال.

والملاحظ ان إقرارالتكافل  في المجالات الإستراتيجية بين قوة احتلال كبرى ودولة محتلة لا يعني سوى إعادة علاقة التبعية الاستعمارية الاقتصادية والسياسية والأمنية والدبلوماسية بأطر قانونية جديدة خاصة أن هذا المفهوم يعني في بعده الاقتصادي إبقاء تونس في منطقة  للتبادل الحر الشامل التي تجمع فرنسا بمستعمراتها السابقة في إطار منطقة  الفرنك الفرنسي والوحدة القمرقية مع فرنسا وفقا لما ورد باتفاقيات الحكم الذاتي التي ظلت نافذة بسبب عدم إجراء المفاوضات المقررة لتعديلها أو إلغائها.

وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم التكافل سيدرج لاحقا في الوثيقة التأسيسية لمجموعة السبع التي  تم إحداثها سنة 1975 بمبادرة فرنسية في أعقاب الأزمة البترولية الأولى الناجمة عن الحظر النفطي العربي، التي اتخذتها الدول الغربية ذريعة لبعث هذا الهيكل الجديد وذلك بهدف فرض الرؤية الاقتصادية الغربية الانفتاحية على العالم والتصدي لطموحات مجموعة عدم الانحياز التحررية  المطالبة بإقرار نظام  اقتصادي عالمي جديد أكثر عدلا وإنصافا لدول العالم الثالث.

وهكذا تبين أن فرنسا كانت معنية فقط بضمان استمرار هيمنتها على تونس بصيغ وأدوات جديدة كما أكدته العديد من  البحوث والدراسات التاريخية والجامعية وهو ما أدركه الرئيس بورقيبة الذي رفض الخضوع للمناورات الفرنسية وتأويلاتها لبروتوكول الاستقلال حيث اعتبر أن تونس تحصلت بموجبه على استقلال حقيقي وغير منقوص وأضحى يتصرف على هذا الأساس مما أدى إلى دخول العلاقات في سلسلة متتالية من الأزمات بلغت في مراحلها الحالكة حد القطيعة الدبلوماسية والعدوان العسكري على تونس والصدام المسلح  الذي فرض نفسه  لاستكمال الجلاء العسكري الفرنسي عن الأراضي التونسية .

لكن فرنسا لم تقتصر على الإطار الثنائي لفرض سيطرتها على تونس والمنطقة المغاربية حيث سارعت بإقحام تونس منذ بداية الستينات في مفاوضات مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية لإدماجها  في منظومة التجارة الحرة الأوروبية وهو ما حصل بالفعل بمقتضى اتفاقيةالمشاركةالموقعة مع هذه المجموعة سنة 1969.

وللوقوف على الخلفيات الإستراتيجية لهذا الموقف الفرنسي الأوروبي الذي ظل ثابتا إلى يومنا هذا، يجدر التذكير بأن أوروبا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية  وهي مدمرة وفاقدة لهيمنتها على العالم، لم تكن مستعدة للتفريط في مناطق نفوذها التقليدية في المتوسط وإفريقيا خاصة  بعد إن تحولت هذه  المناطق في ظل الحرب الباردة والصراع العربي الإسرائيلي  وبروز القوى الصاعدة الجديدة إلى ساحات للصراع والتنافس على النفوذ والأسواق

الإستراتيجية التونسية لإزالة الاستعمار الاقتصادي في مواجهة تحديات العولمة الاقتصادية

بعد أن تأكد الرئيس بورقيبة أن فرنسا لم تكن مستعدة لمفاوضات جادة لنقل مقومات الاستقلال إلى  تونس وأنّها عازمة على تكريس احتلالها الأبدي للجزائر كجزء من إستراتيجية طويلة الأمد في المنطقة، شرع في اتخاذ العديد من الخطوات  السيادية الأحادية من ضمنها تأميم بعض القطاعات الحيوية كالكهرباء والماء والبنوك والتجارة وغيرها التي تحولت إلى مرافق عامة تابعة للقطاع العمومي.

لكن التأميم لم يشمل الثروات الباطنية والطبيعية بسبب القيود الواردة باتفاقيات الحكم الذاتي وقوانين الاستثمار التونسية المثيرة للجدل التي تسمح للمستثمرين الأجانب باستغلال الثروات الوطنية وتحويل الأرباح بشروط مجحفة بحق تونس ومضرة بالمصلحة الوطنية.

وأقدمت تونس أيضا على استعادة سيادتها المالية بإحداث البنك المركزي والعملة الوطنية التونسية، كما غادرت منطقة الفرنك الفرنسي والوحدة القمرقية في إطار سعيها لتنويع علاقاتها التجارية الخارجية.

وفي مطلع الستينات شرعت تونس في تنفيذ إستراتيجية الآفاق العشرية للتنمية القائمة على إزالة الاستعمار الاقتصادي وتأميم الأراضي الفلاحة والتحكم في المديونية والنهوض بالإنسان التونسي وتعصير القطاع الزراعي لتحقق الاكتفاء الذاتي الغذائي وبناء أقطاب  صناعات وطنية موزعة على الجهات وهي قائمة على التثمين الصناعي للثروات الوطنية.

لكن هذه الإستراتيجية فشلت في تحقيق أهدافها لعدة أسباب منها التخلي عن التخطيط الاستراتيجي وإهمال قطاعات الإنتاج الوطنية والتخلي عن الدور الاقتصادي والتعديلي للدولة والعودة المبكرة إلى سياسة الانفتاح العشوائية من خلال الامتيازات المفرطة الممنوحة للأجانب واتفاقيات التبادل الحر غير العادلة والخضوع  للقروض المشروطة لصندوق الدولي.

نتائج الخضوع لسياسة الهيمنة الفرنسية الأوروبية الغربية

بعد الثورة تحركت فرنسا ومجموعة السبع بسرعة للحيلولة دون تحرر تونس من هذه السياسات المدمرة وخروجها عن دائرة السيطرة الغربية وذلك باللجوء إلى نفس هذه الآليات والأدوات وهو ما أوصل تونس إلى حالة من الإفلاس غير المعلن  نتيجة العجز المالي والتجاري المتفاقم والمديونية المفرطة مما أدى الى مصادرة سيادتها النقدية واستقلالية قرارها وتدمير نسيجها الصناعي وفلاحتها المحتضرة ومؤسساتها  ومرافقها العمومية المفلسة المهددة بالخصخصة.

وكنتيجة حتمية لهذه السياسات  تشكو تونس اليوم من التبعية المطلقة للغرب في كافة المجالات الحيوية ومن ذلك استيراد أكثر من نصف حاجاتها من المواد الغذائية الأساسية وارتباطها بتحالفات مع مجموعة السبع لتامين حدودها ومطاراتها ومواقعها السياحية.

يبقى أن نشير إلى انه  في ظل هذه الظروف تتفاوض الحكومة تحت الضغط على اتفاق الآليكا  الذي يفتح البلاد على مصراعيها أمام الغزو الاقتصادي الأوروبي وهو يشكل اكبر تهديد لكيان الدولة التونسية واستقلالها  والهوية الوطنية للشعب التونسي وانتمائه إلى محيطه العربي والإسلامي والمغاربي.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING