الشارع المغاربي – في ذكرى رحيل الهادي نويرة: رجل دولة كمن نفتقدهم اليوم /بقلم: محمد لطفي الشايبي

في ذكرى رحيل الهادي نويرة: رجل دولة كمن نفتقدهم اليوم /بقلم: محمد لطفي الشايبي

1 فبراير، 2019

 

الشارع المغاربي : تم يوم الجمعة الماضي إحياء الذكرى السادسة والعشرين لوفاة رجل الدولة الاستثنائي، أ. الهادي نويرة في صمت رسمي مقمع إذا استثنينا التظاهرات الثقافية والفكرية التي نظمت في مسقط رأس الفقيد الكبير بالمنستير تحت إشراف جمعية الوفاء للمحافظة على تراث الحبيب بورقيبة والحزب الدستوري الحر وجمعية ذاكرة المرحوم الهادي نويرة وجمعية قدماء المقاومين والمناضلين. والحال أن أعمال ومبادرات ولمسات الفقيد الاقتصادية والسياسية تتعدى الحزبية الضيقة لتغمر مفاصل الدولة في توقها للعصرنة و الحوْكمة الرّشيدة وفي رسم المناهج السليمة والطرق المؤدية للتنمية الشاملة. وكم “تُونِسُنٙا” اليوم في حاجة إلى منقذ من طراز أ. الهادي نويرة الذي قدّم مشروعا إنمائيا متكاملا في لحظتين حاسمتين من تاريخ تونس المعاصر : لحظة الشروع في بناء دولة الاستقلال خلال الخمسينات بصفته وزيرا للاقتصاد  (التجارة ثم المالية ) ثم منقذا للبلاد إثر تجربة التعاضد الفاشلة خلال السبعينات من القرن الماضي و متحملا أعباء الوزارة الأولى في ظرف عصيب (بداية معركة خلافة الزعيم الحبيب بورقيبة).
فقد أبدى الفقيد طوال المهام الوزارية ذات الصبغة الاقتصادية التي تقلّدها تباعا في حكومة الطاهر بن عمار التفاوضية (1954 – 1955) ثم في حكومة الزعيم الحبيب بورقيبة (1956-1957) قدرا من الجدّية والحنكة في التعاطي مع تحدّيات البلاد الإنمائية وإيجاد الحلول الملائمة لها جعله يرتقي إلى مهام الوزارة الأولى بعد فشل تجربة التعاضد سنة 1970 (1) .
وهو الذي مهّد لإنشاء البنك المركزي التونسي في نوفمبر 1958، وعُيّن محافظا لهذه المؤسسة النقدية الوطنية. واستمرّ في الاضطلاع بهذه المهمّة إلى أنّ عُيّن وزيرا أوّل في 2 نوفمبر 1970.
نستشف من خلال مسيرته السياسية ذات الصبغة الاقتصادية أنه كان صاحب رؤية بل مشروع إنمائي لتونس ما بعد الاستعمار مبني على اطلاع ميداني على إمكانات البلاد البشرية ورصد مثبت لثروتها الطبيعية والمعدنية. يقود هذا المشروع هاجس طالما أرّق الفقيد : كيف يمكن تعديل الاختلال والوصول إلى التوازن بين نمو السكان ونمو الثروات في البلاد (2) . ففي مقاله الصادر في ” تونس الاقتصادية” بتاريخ 20 ماي 1955، قدم مقاربته لحل مشكلة تونس الجوهرية والمتمثلة في تمويل برامجها الاقتصادية مركزا على ” أن حاجاتنا لا يمكن إرضاؤها إذا اعتمدت إلا على موارد ميزانيتنا المتواضعة. لذلك فإن البحث عن التمويل الخارجي يستوجب منا أكثر من ذي قبل العناية الكاملة والدرس المستفيض إذ بدونه لا يمكن إنجاز برامج توسيع اقتصادنا مهما بلغ إعداد تلك البرامج من إتقان وتحرّ. فهناك قاعدة في مادة الاعتماد معروفة جد المعرفة، وهي أن التمويل له ارتباط متين بالتقدير الفني والنفساني للأخطار التي يمكن أن تتعرض إليها رؤوس الأموال المبذولة. ولذا يجب على الدولة أن تواجه من الآن هذه
المسألة الحيوية بحزم و عزم. وينبغي عليها:
– أن تبين الطريقة التي تراها مثلى في توزيع المداخيل إذ لا يمكن إعطاء أي ضمان نفساني ناجع للمقرضين ما لم تعبر البلاد التونسية بوضوح عن نواياها في ما يخص هذه المسألة الأساسية.
– أن تتخذ مجموعة من التدابير التشريعية والقانونية تتعلق بالضمانات القضائية التي ينبغي منحها لرؤوس الأموال التي تبذل في سبيل تمويل المشاريع التونسية.
– أن تتخذ قرارات اقتصادية لتشجيع التمويل بالبلاد التونسية. وهذه القرارات تتمثل في منح المقرض بعض الامتيازات المالية والجبائية وحتى المادية تكون مع الضمانات النفسانية والقضائية عنصرا من أهم العناصر للبحث المادي عن أوفر ربح…”.
ألا نلمس في طيات النصيحة الثالثة تباشير قانون أفريل 1972 الذي انتصبت بفضله عشرات المؤسسات الاقتصادية الأجنبية في تونس؟ ثم يختم مقاله بالتوضيح التالي: ” فالمشروع التونسي يجب أن يسلك بدون تأخير طريق التكتيل والتجديد في وسائل العمل، وصاحب المشروع الذي له مؤسسات عظيمة يجب عليه أن يبذل المجهود اللازم لمراجعة تفكيره، فيفكر لا كقائد لخلية انتاج اقتصادية فحسب، بل كقائد أيضا لمجموعة بشرية تمثل العنصر الأساسي في متابعة الأهداف الاقتصادية التي يرمي إليها كل مشروع.
” إن المنظمات الحرفية تبدو مؤهلة أكثر من غيرها لتنظيم الحرفة وحمايتها وتحقيق ازدهارها. لذلك ستكون لها مهمة عظيمة. وهي مهمة إرشاد السلط العمومية، وخصوصا اقتراح التعديلات اللازمة لتنسيق الحسابات الاقتصادية للحرف مع الخطوط الرئيسية المسطرة من طرف السلط العمومية…”.
وسبق أن قدم الفقيد بصفة مستفيضة رؤيته لمعالجة التخلف الاقتصادي ونظرته الإنمائية في إطار اقتصاد السوق الذي عرج عليه في خطابه الافتتاحي (8 أفريل 1955) أثناء أشغال مؤتمر الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة ( تونس، أفريل 1955) قائلا : ” ودون أن نحاول إصدار أي حكم من حيث القيمة فلا بدّ لنا من الاعتراف بأن المملكة التونسية تعيش وستعيش مدّة لا بأس بها في نظام يمثل فيه المشروع الرأسمالي الخلية الاقتصادية والاجتماعية الأساسية.
“وحينئذ فإن مستقبل كامل مجموعتنا الاقتصادية والاجتماعية سوف يرتكز في نهاية الأمر على حيوية المشاريع الرأسمالية وعلى ما لقادة هذه المشاريع من ابتكار ومن إدراك لمعنى التنظيم العصري. وهذا ما يجعلني اليوم أحدّثكم بجدّية عن الواجبات الملقاة على عاتقنا جميعا، مؤكدا خصوصا الدور الرئيسي الراجع لكم أيها السادة بصفتكم مسؤولين بالدرجة الأولى عن مستقبل المشروع التونسي الفتي…”. وسعيا إلى تفادي النقص الحاصل في المنتوج القومي وإنجاح المشاريع الإنمائية، حث الفقيد منظمة الأعراف على :
“- المبادرة بإقرار مستوى إنتاجنا باتباع سياسة ريّ معمّمة تحفظ زراعتنا من تقلبات الطبيعة وبذلك نصون كامل اقتصادنا.
– الزيادة بقدر إمكانياتنا في قيمة منتجاتنا الزراعية والمنجمية بالبحث عن جميع الوسائل التي من شأنها أن توفّر أقصى ما يمكن من الشغل في معالجة كل ثروة من ثرواتنا.
– وأخيرا انتهاج سياسة ترمي إلى الزيادة في كميات إنتاجنا وذلك بالبحث المنظم عن موارد جديدة للثروة”
وتتجلى رؤية الفقيد الإنسانية لمفهومي الانتاج والتضامن وتلازمهما في قوله بأن “التفكير في الإنتاج تفكير المنتج والإدراك لمعنى التضامن الاقتصادي عنصران من أهم العناصر النفسانية الأساسية بل أقول إنهما يعبّران عن الاندفاع إلى الأمام والإيمان بمستقبل اقتصاد هذه البلاد. ..
نعم إنّ السّعي وراء الكسب للكسب وسيلة للتحصيل على شيء من الازدهار الاقتصادي للمشروع. ولكن رفاهية مجموعة العاملين في ذلك المشروع هي التي تبقى الهدف المنشود في نهاية الأمر..”..
و سوف يطبق الفقيد أهم ما مذكرفي خطبه ومقالاته بين سنة 1954 و1957 حين تقلده الوزارة الأولى عن جدارة بينتها ممارسته للخطة ذات المسؤولية الجسيمة ومبادراته الشجاعة والصائبة التي رسمت في مخيال تونس الإقلاع الاقتصادي ملامح الرجل الصارم في تطبيق القانون والحفاظ على التوازنات الاقتصادية للدولة .
” لم يكن الفقيد وزيرا أول عاديا بل هو الذي حط تونس على طريق الاقلاع الاقتصادي . أجل لقد صوتت له المطر(La pluie a voté pour moi ) ولكن الاصلاحات الهيكلية التي انجزت تحت إشرافه أرجعت الأمل إلى التونسيين” (3). و السؤال المطروح اليوم و في ظل الوضع الاقتصادي القاتم الذي تعيشه البلاد هو لماذا غيبت الاوساط الرسمية
(ندائية ونهضوية) ذكرى إحياء منقذ تونس وراسم توجهها الاقتصادي وباني أسسه ؟ لأنها زاغت عن مساره السليم و تورطت في معضلة الفساد.

الهوامش :
(1) راجع بالخصوص مقالات الأستاذ الهادي نويرة في صحيفة ” تونس الاقتصادية”، لسان الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة ، نذكر منها:
– الوضع الاقتصادي التونسي الر اهن، عدد1، 20 ماي 1955.
– القرض الوطني للتصنيع، عدد 44، 1 مارس 1957.
و خطبه التالية بصفته وزير التجارة و الصناعة:
– بمناسبة تدشين المعرض الدولي لتونس (16 أكتوبر 1954)
– في مأدبة معرض تونس (19 أكتوبر 1954)
ثم بصفته وزير المالية :
– في مأدبة لقاء بين الغرفتين الفرنسية والتونسية للتجارة ( ” لو بتي متان”، 29 سبتمبر 1955).
)2) Si Hédi Nouira a beaucoup lu et beaucoup retenu.
(3) شهادة الأستاذ الخبير الاقتصادي ، عبد الرحمان القفصي الذي عمل في تونس في الحقل البنكي خلال السبعينات بطلب من الفقيد الهادي نويرة.

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING