الشارع المغاربي – في وجوب النقد الذاتي/ بقلم: حمادي بن جاءبالله

في وجوب النقد الذاتي/ بقلم: حمادي بن جاءبالله

قسم الأخبار

22 مارس، 2021

الشارع المغاربي: يبدو أن التمايز السياسي في تونس بلغ اليوم درجة عالية من الوضوح هيئه إلى أن يتحول إلى فعل سياسي وطني، فكرا ووسائل وغاية. وهل لتونس اليوم إلاّ أبناؤها الخلص وقد أنشأتهم مدرسة الجمهورية على قيم الوطنية والحرية؟ وهل لتونس غير عرق جبينها لتواجه مصاعبها؟. وهل من غاية اليوم أولى –في ضمائر – من تحرير الوطن مما يعانية من ضروب الاستعمار، الداخلي منه والخارجي، والظاهر منه والخفي؟ وان أبطأ الوعي الشخصي عند البعض في إدراك تلك البديهيات الراهنة فلأنه على ما يبدو لم يمارس بعد على ذاته نقدا ذاتيا يرتقي به إلى مصاف الوعي الموضوعي الذي يقتضيه طلب الحقيقة في ذاتها ولذاتها ولمنافعها للناس، لاسيما حين يتعلق الأمر بحركة تحرير وطني.

وفي هذا المقام يكون النقد الذاتي – بما يوجبه من تبصر نظري وشجاعة عملية- من أولويات الفعل السياسي، لاسيما حين تختلط السبل على القاصد، وتلتبس القيم على الناظر، فتحوم الشكوك حول كل شيء، لتغرق الوجود الاجتماعي في شبهات لا تنحسم. فقلّ من يميز اليوم –في ما نسمع من قول – بين الانتهازية بما هي طلب المنفعة بكافة السبل المتاحة وبلا ضوابط أولية اخلاقية او نظرية، وبين البراغماتية بما هي التزام بالمصالح في غير تفريط في المبادئ، وبين الفردانية بما هي ايمان بالذات في غير استهتار بحق الاخرين، وبين الفردية بما هي انحباس الذات داخل جمجمتها، وبين حزب سياسي وزاوية دينية، وبين النظام الديمقراطي القائم على اعتبار الارادة الجماعية والحرية الشخصية معا قانون التعايش البشري، وبين نظام الخلافة أي نظام الحاكمية الإلهية الفرعوني -البابلي –اليهودي- المسيحي –الاسلاموي القائم على ما يسميه الفقهاء والمتفيهقون “القهر” وبالتالي على إلغاء الحريات باعتبار انه لا خيرة للرعية في ما اختاره الله. لذلك كنت على يقين أن الإسلام السياسي لن يقوم بنقد ذاتي، حتى وان فوض بعض خدمه للتمويه.فليس من اليسير التبرؤ من حركة نشرت جميع انواع التخلف بيننا مدة خمسين سنة كذبا على الله وعلى رسول الله وعلى عباد الله.فلا حياة للإسلام السياسي الا بالكذب والتمويه والخلط .

ومما يعمق هذا الخلط ويفسد الوعي الفردي والجمعي معا، إنشاءات معجمية للتعبير عن استحداثات دلالية، يراد لها ان تكون البديل عن ثقافة العصر وسنن الزمان، مثل ”الوسطية” و”الاعتدال” و”التوافق” في مقابل ”الحقيقة” و”الالتزام ”الواجب” الخ. ويصعب على المرء أن ينكر جودة حبك اللعبة اللسانية الاسلاموية لاسيما حين ترددها قنوات البيترو دولار لتجعل منها فضائل ”الفاتحين الجدد”.

فهل يصح القول بأن ”الفضيلة وسط بين رذيلتين” كأن تكون الشجاعة وسطا بين الجبن والتهور كما تحدد ذلك في الأدبيات الفرعونية والبابلية يوم كان النظام الاجتماعي يقوم على العبيد والأحرار إضافة إلى شريحة وسطى كان قدماء المصريين مثلا يسمونها “الموسكينوم”Muskenum فلا هي من العبيد ولا هي من الأحرار وإنما هي عوان بين هذا وذاك. والأقرب الى الحقيقة التاريخية أنها تضاهي مقولة “الرعية” عند المنظرين السياسيين يهودا ومسيحيين ومسلمين، في مقابل مفهوم ”الشعب” عندنا نحن اليوم وان جهة الحلم والأمل، وفي الدول الديمقراطية على جهة الواقع المعيش.

ولئن كان ذلك كذلك فلأن نظام ”الحاكمية الإلهية ”عند الجميع يقوم على اكراه الجميع على الانقياد. وليس أدل على ما ذهبنا اليه من أن معاجم اللغات العربية والألمانية والانقليزية والفرنسية لم تنزّل كلمة “شعب” على معنى موجب الا بعد الثورات الفرنسية والانقليزية والأمريكية، أما قبل ذلك فالشعب هو –في هذه المعاجم كلها الى عهد غير بعيد، ”الهمج” و”الرعاع” و”العامة” وهو-في جميع هذه الثقافات –غير مؤهل ”بالطبع” ليحكم نفسه بنفسه.

صحيح ان الثقافات ”الغربية” المشار اليها قد تجاوزت ذلك الوضع الفكري وان بدرجات متفاوتة من التوفيق، غير ان الثقافة العربية والإسلامية لم ترتق بعد الى مصاف ما يوجبه البر بذاتها، فتجعل من الحرية بجميع أبعادها ركنها الاوثق. فقد قامت الحضارة في مصر القديمة، وفي بلاد الرافدين على قيمة ”العدالة” باعتبارها أساس العمران وشرط قيام الدول. وقد رددت العصور ذلك الشعار، سواء مع أفلاطون في “الجمهورية”، أومع ابن خلدون في “المقدمة”. وليس مما يحتاج إليه البحث في معاني العدالة في مجتمعات قائمة على التمييز الجذري بين العبيد والأحرار مثل المجتمعات اليونانية والمسيحية واليهودية والإسلامية. وليس علينا بيان انه لا يمكن إحراز تقدم يذكر في اتجاه الجمع بين الحرية والعدل وبالتالي المساواة في حكم حزب سياسي بشرنا يوم فوزه في انتخابات 2011 بـ ”الخلافة السادسة” اي بعودة نظام الرعية ظنا منه انه النظام الإسلامي الخالص. والحق ان المجاز البلاغي القاضي بقياس علاقة الحاكم بالمحكومين على علاقة الراعي بالرعية تداوله الفراعنة والبابليون ودوّنه العهد القديم وافلاطون وفقهاء المسيحية والإسلام على حد سواء .

ولما كان الأمر، كذلك تبين لكل ذي بصيرة أن الإسلام السياسي الذي يطالب اليوم بالمشاركة في ”الحوار الوطني” المرتقب، ليس له ما يقدم للوطن الا حطام التاريخ، بعد أن بذل مايكفي من الجهد –في غياب وعي وطني غيور –لتحطيم ما حققت دولة الاستقلال. ولئن لم أعد في حاجة الى بيان مخاتله بعد ما قاله فيه ”كباره” أنفسهم، فانه يبدو لي ان ما يهدد مسيرة المقاومة الوطنية وافد من جهة اليسارالذي بليت بحبه فما لي صبر عليه رغم علاته، وأخشى اليوم ان ابتلى بفقده وما لي طاقة على قدر الرزية.

ولا ريب ان ما يستحث اليسار الوطني على النقد الذاتي ما وقع فيه اخيرا من خلط شنيع حين ماهى بين الحزب الحر الدستوري وبين كتائب الاسلام السياسي، بين من يصارع من أجل انقاذ الوطن، ومن يسعى سعيا محموما لتحطيمه تربويا وأخلاقيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. ويقيني ان معركة انقاذ مدرسة الجمهورية من براثن فقهاء السوء ناشري الظلمات من اخطر المعارك وأنبلها .وما كان لاي وطني في أي موضع أن لايشارك فيها على طريقته. فالغياب عن معارك الشرف لا يشرف احدا، فضلا عن أن يقف عائقا أمامها.

لذلك بدا لي ان جميع الوطنيين في أمس الحاجة اليوم الى النقد والى النقد الذاتي، الاول لتجاوز مانشره الاسلام السياسي من فكر زائف وما تبثه وسائل الاتصال العالمية من ثقافة فاسدة ،مماهية وغاية، والثاني لتجاوز ما في الفكر الوطني من عوائق تعطل ارتقاءه الى مستوى الواجب الوطني.

نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 16 مارس 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING