الشارع المغاربي – قراءة أولى في تقرير الحريات والمساواة: إذا تجنّبنا المواجهة فإن الدّمل لن يجفّ قيحه بقلم: نائلة السليني

قراءة أولى في تقرير الحريات والمساواة: إذا تجنّبنا المواجهة فإن الدّمل لن يجفّ قيحه بقلم: نائلة السليني

28 يونيو، 2018

الشارع المغاربي : واليوم ، وبعد أن أنهيت قراءتي الأولى لتقرير الحريات والمساواة، أتساءل: بأيّة مقاربة أحلّله؟ هل أسلك المقاربة العلمية والأكاديمية التي لا تركّز سوى على ما يدفع بالتقرير إلى الارتقاء إلى مستوى التقارير الدوليّة؟

أم أخضع لضغوطات خارجية سُلّطت عليّ منذ صدور التقرير؟ وهي ضغوطات تعمل على أن أتراجع عن تقديم رأي فيه؟ وهي جميعها تركّز على سبيل التخويف وعلى عامل الردع والتهديد النفسي من أن أكون في صفّ الرجعية، مثل الكثيرين منضوية تحت سقف  انصر أخاك ظالما أو مظلوما “.

فعلا هي حيرة، لكنّها أخذت منّي وقتا قصيرا، والسبب واضح: فمسألة المساواة والحرية هي قضيّة المرأة التونسية بصفة خاصّة، والتراجع أمام الضغوط يعني قبول المعروض والقناعة به، القناعة

في معنى الاكتفاء والزهد.. ولكن هذه صفات لا أعرفها بل أرفضها وأقصيها من منهج تفكيري، ولو قبلت بها لما كان حالي مع الرجعيين من سبّ وشتم وثلب.

لذا ، فأنا سأدلي بدلوي في قراءة هذا التقرير كما عرض علينا، وسأحلّله بعين من ناضلت لأجل أن تكون المرأة إنسانا، وبفكر من صبرت على مناهج القدامى في تحطيم شخصية المرأة وجعلت منها كبش فداء لتكريس الذكورة، فألبسوها أثواب القداسة ، والقداسة منهم براء.

لذلك ، أرى أنّه علينا ألّ تستوقفنا صراخات البعض ممّن نصّبوا أنفسهم علماء علينا، وما هم بالعالمين، وحتما إذا احتدم بيننا النقاش الصريح والرصين فإنّ أصواتهم ستتلاشى، فقد حان الوقت حتى ننكبّ على التقرير بالتحليل والشذب والتنقيح قبل أن يتحوّل إلى ورقة عمل في مجلس الشعب:

وأنبّه بدءا إلى :

صفة هذا التقرير: إذ لا ينكر احد أنّه ليس وليد لحظة سياسية أو تاريخية معيّنة، وإنّما كان حيّا في وجدان كلّ امرأة كانت تعي بأنّ مكانتها في مجتمعها ما زالت تخضع لقيود القوامة التي تعوقها

عن المساواة التامّة. ولدت الفكرة العامّة لهذا التقرير غضّة، وحلم به نسوة ورجال منذ التسعينات، وأذكر الإرهاب البوليسي الذي كنّا نواجهه في كلّ جلسة للنظر في المساواة والحريات بمقرّ النساء الديمقراطيات. وأذكّر بالعنف الذي واجهناه أيضا من الرجعية التي وظفت جميع الوسائل لمحاربتنا، ولولا فطنتنا، وأقولها بتواضع، لوئدت فكرة المساواة، لأنّهم حاربونا بالتكفير والزيغ عن الدين، مستعملين مقاربات نابعة من الانتقائية والتعميم وبناء حججهم على مسلّمات فقهية سرعان ما بيّنا تهافتها.. إذن، يمكن القول إنّ لفكرة التقرير من العمر ما يناهز الربع قرن..

ولولا نضالنا لما كان له وجود في المشغل العام التونسي اليوم. ومهما سعى البعض إلى إنكار هذا الدور النضالي فإنّه لا يستطيع ردّ تأثيرنا في الناس الذين تحرّروا من قيود الظلاميين ومكنّاهم من آليات الحيل الفقهية حتى يدرؤوا عن بناتهم ونسائهم الظلم المقدّس. بحثت عن تاريخ الفكرة وأصل النشأة لهذا التقرير في جميع صفحاته فلم أجدها، ولم أقف سوى على ثلاث محطّات تاريخية هي: محطّة التراث، ثمّ قفزة إلى موقف الحداد من الميراث، وثالثة هي مبادرة رئيس الجمهورية سنة 2017 . وسألت أين نحن؟ وهل كنّا مثل الببغاء طيلة ربع قرن؟ لماذا يعترف التقرير بدور الحداد وينكر دور المناضلات وخاصّة المدرسة التونسية التي قدّمت مقاربات حداثية واجتهادية في النصّ الديني تتجاوز ما كتب الحدّاد.

وحذار ، فأنا لا أنكر معاناة الرجل وحداثيته، لكنّ مركب الحداثة انطلق في تونس، وجلّ العرب ينتظر هذا التقرير وخاصّة أولئك الذين صدّروا أنفسهم نيابة عن جميع المسلمين…. لهذا أعتبر أنّ التقرير وهو بين يديّ أنا التونسية، هو كالغريب عنّي، يحاكي تقارير صودق عليها في عهد غير بعيد، وتبدأ مهمّتي عندما اكتمل نصّا، وليس لي سوى الدفاع عن اللجنة.. عفوا يا سادتي، ما لم أجد اعترافا بنضال الكثيرات والكثيرين مثلي فإنّي لا أقدر على اعتباره منّي.. لأننا نحن من زرع البذرة الأولى للفكرة التي ولدت في أوت 2017 خلال التسعينات وحفظناها من أعين الشرّ، وإن انطلق النظر فيها اليوم فلأنّ المجتمع صار يقبل على الأقلّ الحديث فيها، ولأنّنا وفقنا في زرع بذرة الشكّ في وجدانه وحفزناه على التفكير. هذا الكلام ليس من باب تكريس الذات بقدر ما هو تدعيم للتقرير.. فلا تولد الفكرة أبدا زنيمة.

المقدّمة النظرية : وهي مسألة مقاربة واختيار، ولن أقف عند حيثيات قد لا تهمّ الرأي العامّ، وإنّما أبقيها لأعضاء اللجنة، إن طلبوا منّي أن أمدّهم بها، ولكن هناك مسألة عامّة ، أعتقد أنّه كان لها تأثير في بنية التقرير : ركّزت المقدّمة على قراءة، أعتبرها ذاتية للتراث، ولأنّها ذاتية فستكون منفتحة للجدل، بينما المنطلق، حسبما أعتقد ، هو تقديم ردّ شاف في ما يخصّ التراث. وفيما أعتقد هو تقديم نظريّ لبيان أن لا قداسة فيما اعتبر أحكاما فقهية على وجه العموم؟ وليس بالنسبة إلى المواريث فقط. وأوضّح: فإن قام الجدل حول قداسة الأحكام في الفرائض فلأنّ الطرف المحافظ أثار المسألة.. والسؤال: هل سنظلّ في موقف دفاعيّ كلّما أثار المحافظون قضيّة؟ أم يجب أن نغلق باب النقاش مرّة واحدة وفي جميع القضايا؟ لقد تحدّث التقديم عن المواريث، بينما سكت عن الحريّات ومرجعياتها التراثية التي يحلو لهم تسميتها بمرجعية

النصّ. وكانت شبه قطيعة بين القسم النظري والفصل الخاصّ بالحريات.. حتى كأنّ من كتب القسم الثاني فريق آخر، ولم يلتق الأعضاء مع بعضهم بعضا البتّة.. وقُدّم لنا تحليل في الحرّيات، مقبولا في عمومه، ولكنه يفتح باب الطعن فيه، ويسمح لهؤلاء بترديد مسلّمة القداسة، فلا أحد ينكر في ما يخصّ الحديث عن حريّة المعتقد ما يعانيه المجتمع من تكفير بجميع ألوانه، تكفير عمّ مثل الطوفان الحريات الأكاديمية والإبداع وحريّة الممارسة العقدية.. ما سكت التقرير عن هذه النقطة فلا يفهم سوى من منظور اجتناب الخوض في المسألة وافتقار أعضاء التقرير إلى الآليات التي بها تغلق أبواب التأويل المغلوط.

لذلك أرى أن تخضع جميع الفصول إلى مقاربة تنظيرية واحدة ، مقاربة تحمل جميع الآليات التي تدحض مقالة المفترين. وهي مقاربة معروفة حتى عند القدامى. ولا يفوتنا التنبيه إلى أنّ هذا التقرير جدالي بالأساس، ويحثّ على التفكير والنقاش، ويكون قادرا على إقحام المجتمع في الشواغل التي يطرحها.

تندب على راجلها وعينها لاسماعيل/  عدوى التوافق، عفوا إن ذكّرتكم بهذا المثل، فهو خير ناطق بما شعرت به وأنا أقرأ التقرير: فقد تملّكني إحساس وأن أقرأه ، قد أخطئ، ولكن على اللجنة أن تطرده من تفكيري: شعرت كأنّ أعضاء اللجنة وهم يتناولون القضايا المتصلة بمفهوم القِوامة على وجه الخصوص يكتبون وأعينهم على ما يمكن أن يصدر من المحافظين من ردود فعل. فكان التنازل في المواقف، والسعي إلى التوافق الذي سيؤدّي بنا إلى المجهول سياسيا، فإذا به حاضر تشريعيا، وإذا به يطمس معالم الحداثة في التقرير: وأوضّح.

فكلّما اصطدم أعضاء اللجنة بإمكانية معارضة في مسألة ذات مرجعية فقهية/ دينية تنازلوا وقدّموا فرضيات حلول: وفي ذلك خطر ينمّ عن افتقار اللجنة إلى اقتناع بصحّة مبدإ القطع مع التراث، والرقي بالتقرير إلى مراتب القانون الوضعي. ولعلّ أوّل عدول نشهده في مقاربة التقرير انطلاقه من مسلّمة التقليديين في اعتبار مقاصد الشريعة جالبة للمصالح. وفي هذه النقطة أتساءل عن أيّ مصالح يتحدّث التقرير؟ في تكريس ولاية الرجل على المرأة ؟ واعتبار أنّ المساواة هي العدالة الإلهية ؟ وإذن فلنرم بكامل الاقترحات ، و لا فائدة في ما تضمّن من دعوة إلى إنسانية المرأة؟ أذكر هذه الملاحظة في مرارة، لأنّنا في 2011 وقفنا أمام اقتراح النهضة بإدراج الشريعة في الدستور، فإذا باللجنة تفتح لها الشبّاك لتتربّع على صدورنا، وتأكدوا لن تحذف هذه العبارة، بل سيبنى عليها الكثير الكثير. قس على ذلك اقتراحهم في العُدّة.

وكذلك الأمر بالنسبة للمواريث، فقد ورد الاقتراح الثاني ليجبّ الأوّل، وأوكلت مهمّة المساواة في

المواريث إلى المورّث، وحكّمت اللجنة اقتناعاته، بينما المنتظر أن تبني قوانين صلبة لا تحتمل تأويلا أو تأجيلا. ولنا عودة في مقالات أخرى. وكذلك بحثهم في الوَلاية و النسب .

أمّا بالنسبة للنفقة فقد ظنّوا أنّهم باقتراحهم يغازلون المحافظين في تحرير الرجل من النفقة ، ومع ذلك أبقوا في اقتراحهم على العدّة. بينما كان الأجدر أن تحذف العبارة التي في مجلّة الأحوال

الشخصية لا غير. أو إثراء الفصل 23 من تنقيح المجلّة لسنة 93.

وإن قيل لنا : تلك هي سياسة المراحل، أو إنّ اللجنة تعوّل على ردّة فعل المجتمع وتحرّكه، فإنّي اذكّرهم بتاريخنا مع الزعيم الحبيب بورقيبة الذي لم يقدّم حلّين في تعدّد الزوجات ، كما هو الحال اليوم في المدوّنة المغربية، ولم يعوّل على المجتمع ، وإنّما جذب المجتمع إلى قراراته. ونحن اليوم نغنم ثمار صلابته في فرض القانون الوضعي.

ذلك أنّه، إذا اجتنبنا المواجهة فإنّ الدمّل لن يجفّ قيحه، بل سيتراكم ويعفّن الجسد، وسيتحوّل جدالنا إلى حديث من أصابه

طرش.

مسألة أخرى أرى أنّها جديرة بالاهتمام، والتي من دونها لا يكون للاقتراحات جدوى: يجب أن نضيف قيدا آخر اعتبره عامّا يفيد بأنّ هذه الأحكام مرتبط بعضها ببعض وأن حذف اقتراح والإبقاء على آخر مخلّ بالمبدإ القانوني العامّ: كأن يصادق المجلس على الإبقاء على الاقتراح الثاني أو الثالث في المواريث وفي نفس الوقت يصادق على رفع حق الزوجة في النفقة، وهنا قضيّة أخرى، إذ ستحمل المرأة عبء نصف الميراث، هذا من جهة وعبء النفقة على أبنائها من جهة ثانية، ونكون من حيث لا نشعر دعمنا التمييز الإيجابي بالنسبة للذكر.

ولا يغيب عنّا أن ننبّه إلى المزلق الذي قد نقع فيه إذا صُودق على المجلّة في غياب محكمة دستورية، تسعى إلى نسخ القوانين القديمة بأخرى ترتقي إلى ما نرنو إليه من مجتمع حداثي: أذكر هذه الملاحظة وأنا أستحضر كل الفصول الواردة في البابين الخامس والسادس. لأنّنا نمرّ بظروف غير طبيعية، وأخشى من الانحرافات إذا ما صودق على البابين برمّتهما من غير التأكيد على أنّهما بابان لا يطبّقان قانونيا سوى بتغيير القوانين ذات الصلة بالممارسة الدينية وبالحقّ في نشر الدعوة؛ كم ترعبني هذه الاقتراحات وأن أستحضر ما نعاني منذ 2011 ، من مساجد تدعو إلى الثأر من المخالف، وكم أخشى على أبنائنا من دورات التكوين والدعوة التي ينظّمها اتحاد العلماء المسلمين، وإطلاق يده الطولى في بلادنا طولا وعرضا، وجمعيات أخرى مثل جمعية الدعوة والإصلاح ومن أعضائها شورو واللوز. فكيف إذا سمحت لهم هذه المجلّة بالحرية في الممارسة الدعوية ألخ.. من حقّ في النقاب، والصلاة في الشارع…. ولذلك أؤكّد مرّة أخرى على وجوب تحيين القوانين قبل تطبيق ما في المجلّة من اقتراحات.

ذكر التقرير عبارة نفيسة في الصفحة ص ” :172 المساواة في الحقوق ليست درجات ولا يمكن أن تكون في حالات مقبولة وفي حالات أخرى ملغاة “، فليتهم فعلوا ما قالوا. مع العلم أنّ ما أسهمنا به من ملاحظات هو مقاربة منّا حتى نرتقي بالتقرير إلى تطلّعاتنا نحن الحداثيين. ولا يفوتنا أنّه تقرير سيقّدم للنقاش، وبعبارة أخرى ل «المزايدات » ، وأنا أفضّل أن أتقدّم بعمل يزن أطنانا حتى إذا شذّ وقدّ بقي رصينا متماسكا.

يتبع_


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING