الشارع المغاربي – قراءة في مواقف القوى الغربية الكبرى إزاء قرارات سعيّد: زمن البرلمان المجمّد ولّى وتولّى/ بقلم: معز زيود

قراءة في مواقف القوى الغربية الكبرى إزاء قرارات سعيّد: زمن البرلمان المجمّد ولّى وتولّى/ بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

17 سبتمبر، 2021

الشارع المغاربي: بذل خصوم الرئيس قيس سعيّد، وأساسا حركة النهضة وأتباعها وحلفاؤها، كلّ ما في وسعهم من أجل دفع كبرى الدول الغربيّة إلى تشديد ضغوطها على تونس بهدف إلزام رئيس الجمهوريّة بالتراجع عن قرارات 25 جويلية. فكيف نستقرئ مواقف تلك الدول من خلال بعض بياناتها؟…

يصعب أن نقف على كلّ الدعوات التي وجّهها عدد من السياسيّين ونوّاب البرلمان إلى القوى الغربيّة الكبرى من أجل ممارسة ما أمكنها من ضغوط على الرئيس قيس سعيّد بهدف إلزامه بإعادة الروح إلى مجلس نوّاب الشعب المجمّد. وبغضّ النظر عن الجدل الذي أثارته، يمكن أن نشير إلى بعض ما بقي منها إلى حدّ الآن في أذهان المتابعين. فبتاريخ 30 جويلية الماضي، أدلى راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان المجمّد بتصريح لصحيفة «كورييري» الإيطاليّة هدّد فيه أوروبا وإيطاليا خصوصا بتدفّق موجات الهجرة السريّة وتنامي الإرهاب في حال عدم عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 25 جويلية، قائلا حرفيّا: «إذا لم تتمّ استعادة الديمقراطيّة في تونس قريبًا، فسننزلق بسرعة إلى الفوضى. يمكن للإرهاب أن ينمو وسيتمّ زعزعة الاستقرار الذي  سيدفع النّاس إلى المغادرة بأيّ شكل من الأشكال، ويمكن أن يحاول أكثر من 500 ألف مهاجر تونسي الوصول إلى السواحل الإيطاليّة في وقت قصير للغاية»…

وفي بداية شهر سبتمبر الجاري، أعلن رئيس البرلمان المجمّد عن تفويض النائبين المجمّدين أسامة الخليفي وفتحي العيادي لتمثيله في أشغال المؤتمر العالمي الخامس لرؤساء البرلمان الملتئم بالعاصمة النمساويّة فيينا من 6 إلى 9 سبتمبر 2021. وفي مداخلته في الجلسة العامّة لهذا المؤتمر، اعتبر الخليفي أنّ «تونس تعيش على وقع انحراف دستوري وقانوني خطير»، داعيا ما سمّاه بـ»النادي الديمقراطي الدولي» إلى «التحرّك بسرعة لمساعدة تونس على العودة إلى مسارها الدستوري».

المحاولات الحثيثة للتأثير في مواقف القوى الغربيّة إزاء ما يحدث في تونس، من أجل جرّها إلى إعلان مواقف متصلّبة حيال الرئيس قيس سعيّد وقراراته، تواترت أيضا كلّما زار البلاد وفد أجنبي مهمّ. وعلى سبيل الذكر، التقى وفد الكونغرس الأمريكي المكوّن من السيناتور كريس مورفي والسيناتور جون أوسوف أربعة نوّاب مجمّدة عضويّتهم، وهم سيدة الونيسي وسميرة الشواشي ومروان فلفال وحاتم المليكي، وذلك من ضمن مجموعة نواب وشخصيات أخرى دعتهم السفارة الأمريكيّة بتونس إلى هذا اللقاء. كما كان القيادي بحركة النهضة رضوان المصمودي (الذي استقال من مكتبها التنفيذي من أجل التفرّغ لحملته الدوليّة الشرسة ضدّ ما يسمّيه بـ»انقلاب» قيس سعيّد وليكون في حلّ من المواقف الرسميّة لحزبه) قد نشر تعليقا على تدوينة للسيناتور الديمقراطي الأمريكي كريس ميرفي بشأن زيارته إلى تونس، قائلا فيها: «نحن نعتمد عليك كي تُساهم في عودة المسار الديمقراطي في تونس»…

معلوم طبعًا أنّ منبين تلك المواقف مهما كانت وطأتها ما يندرج ضمن حريّة الرأي والتعبير، ولكن منها أيضا ما يدخل تحت طائلة القانون، وتحديدا بالنسبة إلى رئيس البرلمان ونوّابه المجمّدين. فلئن كان من حقّ هؤلاء الإصداع بآرائهم ومواقفهم المعارضة كليّا لقرارات 25 جويليّة، فإنّ الإشكال القائم في هذا الصدد يتعلّق بمدى استخدام هؤلاء لصفاتهم البرلمانيّة في فعاليّات رسميّة أجنبيّة. وهو ما يتعارض مع القانون، وتحديدا مع مضامين الأوامر الرئاسيّة الصادرة في الرائد الرسمي للجمهوريّة التونسيّة والمتعلّقة بتجميد عضويّة هؤلاء النواب، ممّا يعطيها قوّة قانونيّة نافذة…

المصالح أولا وأخيرا

بصرف النظر عن التوصيف السياسي والقانوني لدعوات بعض السياسيّين والنوّاب المجمّدة عضويّتهم الموجّهة إلى القوى الدوليّة الكبرى من أجل التدخّل في الشأن التونسي، عبر ممارسة ما يسعها من ضغوط على الرئيس قيس سعيّد، فإنّه من الأهميّة التذكير بأنّ شركاء تونس من الدول الكبرى -وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكيّة والاتّحاد الأوروبي- لا تبني سياساتها إزاء بلادنا وفق علاقاتها بتلك الشخصيّات السياسيّة التونسيّة. وحتّى إن كانت تأخذ أحيانا متطلّبات بعضها بعين الاعتبار في تحديد خياراتها الآنيّة أو المرحليّة، بالنظر إلى مدى قوّة نفوذ لوبيّات الضغط الغربيّة المرتبطة بها، فإنّ رسم سياساتها حيال تونس يتأسّس بالخصوص على مصالحها في البلاد وموازين القوى القائمة فيها وكذلك بارتباطاتها الإقليميّة. ولا يخفى أيضا أنّ تلك السياسيات الغربيّة تأخذ بالضرورة، ولو شكليّا، بإكراهات التزام شركائها على غرار تونس باحترام النموذج الديمقراطي الذي تعتمده مؤسّساتها الداخليّة.

وعموما، فإنّ مواقف الدول الكبرى تشترك إجمالا، وفق مختلف بياناتها وتصريحات مسؤوليها، في ضرورة عودة المسار الديمقراطي في تونس بأسرع وقت ممكن. ومع ذلك فإنّ حالة الاستقطاب السياسي الماثلة في البلاد والاصطفاف وراء قرارات رئيس الدولة أو معارضتها أمسى السبيل الأكثر رواجا لتأويل هذه التعبيرات المواقف الغربيّة، على الرغم ما تتسم به من دقّة في الطرح والبيان.

وعلى خلاف ما يروّجه مثلا خصوم قيس سعيّد فإنّ المقصود باستئناف المسار الديمقراطي لا يعني في منطوق البيانات الغربيّة ضرورة استئناف البرلمان المجمّد لنشاطه، بقدر ما يؤكّد على ضرورة وضوح الرؤية السياسيّة ورسم خارطة طريق كفيلة بالمحافظة على البناء الديمقراطي في تونس.

دقّة الخطاب!

إذا أردنا تبيّن مواقف القوى الغربيّة الكبرى من منعرج 25 جيليّة، لإنّه لا بدّ من الوقوف عند مضامين «بيان سفراء مجموعة الدول السبع بتونس بتاريخ 6 سبتمبر» نظرا إلى أنّه يختزل بدقّة المواقف الرسميّة للقوى الغربيّة الكبرى إزاء التطوّرات السياسيّة في تونس. فلئن اعتبر هذا البيان الذي هلّل له خصوم الرئيس سعيّد أنّ «مجموعة السبعة ستظلُّ ملتزمة بإبقاء القيم الديمقراطيّة المشتركة ذات أهميّة محوريّة في علاقاتنا المستمرّة» بتونس، فإنّه جدّد التأكيد على الالتزام المستمر لمجموعة السبع «بالشراكة مع تونس وهي بصدد تطوير الهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللازمة قصد الاستجابة للمطالب المشروعة للشعب التونسي حول تحقيق مستوى معيشي أفضل بالاضافة إلى إرساء حوكمة تتّسمُ بالنزاهة والفعالية والشفافية». وهو ما يكشف بوضوح تأكيد الدول المذكورة على «تفهّمها» و»تماهيها» مع دلالات قرارات رئيس الجمهوريّة وخلفيّاتها. كيف ذلك؟! لنلاحظ أوّلا الاستخدام الدقيق والمقصود للعبارات الثلاث التالية: نؤكّد مجدّدا الالتزام بالشراكة مع تونس «وهي بصدد تطوير الهياكل السياسيّة»، «الاستجابة للمطالب المشروعة للشعب التونسي»، «إرساء حوكمة تتّسمُ بالنزاهة والفعالية والشفافية». ألا تستبطن تلك العبارات ما أعلن عنه رئيس الجمهوريّة مرارا وتكرارا؟!. أفلا تعني العبارة الأولى أنّ الرئيس قيس سعيّد قد اتخذ قراراته في إطار رؤيته لتطوير مؤسّساتها السياسيّة، رغم عدم كشف خياراته وخطواته المقبلة بعد؟!، وهل من معنى لتأكيد مجموعة السبع على ضرورة «الاستجابة للمطالب المشروعة للشعب التونسي» سوى استحضار مقولات الرئيس المكرّرة بشأن «الشرعيّة الشعبيّة» وما نالته قراراته من «تأييد شعبي» منقطع النظير؟! ثمّ ماذا يمكن أن نفهم من التأكيد على «إرساء حوكمة تتّسمُ بالنزاهة والفعالية والشفافية» إلّا التلميح لمسألة الفساد المستشري في البلاد وفي البرلمان السابق تحديدا؟!

هكذا إذن يبدو خطاب مجموعة السبع دقيقا في اختيار عباراته، حتّى أنّه لم يتحدّث عن عودة «البرلمان المنتخب» وإنّما عن «برلمان منتخب» في صيغة نكرة دون التعريف بالألف واللام. ويعني ذلك أنّه لا يقصد عودة البرلمان المجمّد، بل العودة تحديدا إلى مسار الديمقراطيّة التمثيليّة. فلا يخفى أنّ القوى الغربيّة الكبرى تُدرك أكثر من غيرها معنى التأكيد المتواتر لقيس سعيّد على أنّه «لا عودة إلى الوراء».

ومع ذلك يبقى جليّا أنّ القوى الغربيّة ترفض رفضا قاطعا أيضا إعطاء صكّ على بياض لرئيس الجمهوريّة. ومن ثمّة أجمعت على «حثّ» رئيس الدولة على الإسراع بتعيين رئيس حكومة جديد والعودة السريعة إلى «نظام دستوري». وفي المقابل، أظهرت أنّها تسايره ألسنيًّا في تجنّب تضمين بياناتها بعبارات دأب على انتقادها. فقد تحدّث بيان مجموعة السبع مثلا عن ضرورة «تحديد توجّه واضح» بدلا من استخدام مصطلح «خارطة طريق» (Feuille de route) المعتمد على نطاق واسع دوليّا، مقابل الخريطة الجغرافيّة (Carte géographique) التي كال لها رئيس الدولة ما كال من نقد وسخرية.

ضغوط ناعمة

بدا أنّ معظم البيانات والتصريحات الصادرة عن ممثلي القوى الغربيّة الكبرى تصبّ في هذا المنحى للضغوط الناعمة. وفي هذا السياق نذكر التقرير الذي نشره مؤخرا كريس ميرفي السيناتور الأمريكي الديمقراطي (وهو أيضا رئيس اللجنة الفرعيّة للعلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ للشرق الأدنى وجنوب آسيا وآسيا الوسطى ومكافحة الإرهاب). فمن المعلوم أنّ ميرفي من أكثر السياسيّين الأمريكيّين انتقادا لقرارات الرئيس قيس سعيّد. وكان قد قال، في ندوة صحفية بتاريخ 24 أوت 2021، ‹›أشعر بخيبة أمل كبيرة لأنّه اليوم، بدلاً من تعيين رئيس وزراء جديد واستعادة الديمقراطيّة البرلمانيّة، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد عزمه على تمديد حالة الطوارئ لمدة 30 يومًا إلى أجل غير مسمى… إنّني أحثّ الرئيس سعيّد على إنهاء حالة الجمود السياسي في أقرب وقت ممكن، وإعادة البلاد إلى المسار الديمقراطي الذي تحتاجه للنجاح». وفي تقريره عن لقائه برئيس المهوريّة الذي نشره، نهاية الأسبوع المنقضي، أقرّ ميرفي بأنّ «معظم التونسيّين دعّموا قرار سعيّد بتعليق البرلمان بعد أن أمسى معطّلا كليّا»، واصفا لقاءه بالرئيس سعيّد بأنّه «تمرين للكشف عن نواياه» المقبلة. وهو ما يعكس، في الحقيقة، القلق السائد وطنيّا ودوليّا بشأن غياب الوضوح المطلوب في خطاب قيس سعيّد إزاء خياراته للمرحلة المقبلة، في ظلّ الظرفين الاقتصادي والاجتماعي الدقيقين اللذين تشهدهما البلاد والصعوبات التي تكابدها على كافّة الأصعدة الأخرى.

وبسبب الضبابيّة السائدة، أكّد السيناتور الأمريكي على ارتيابه حيال الطريق الذي ستتّبعه تونس مستقبلا، معتبرا أنّه «كان من المهمّ جدًا بالنسبة إلى الرئيس أن يحيط بوجهات نظرنا، وأن يعرف أنّ العلاقة الوثيقة للولايات المتّحدة بتونس ترتبط بالتزام تونس بالديمقراطيّة». وكانت السفارة الأمريكيّة بتونس ذكرت في بيان مقتضب عن زيارة وفد الكونغرس إلى تونس أنّ الوفد أكّد أنّ «الولايات المتحدة ستواصل دعم الديمقراطيّة التونسيّة التي تستجيب لاحتياجات الشعب التونسي وتحمي الحريّات المدنيّة وحقوق الإنسان».

يُعيدنا هذا الخطاب إذن إلى المربّع ذاته لمواقف القوى الغربيّة الكبرى التي تُدرك أنّ زمن البرلمان المجمّد قد ولّى وتولي أهميّة لتوجّهات الحراك الشعبي الرافض لفساد النخب الحاكمة السابقة. فهي لم تتخلّف يوما عن مناصرة الأقوى والأخذ بالتوازنات السائدة، كما اليوم، وخصوصا في ظلّ ما تشهده المنطقة من سقوط مدوّ لجماعات الإخوان والإسلام السياسي عموما. ومع ذلك فإنّها لا تتردّد كذلك في ممارسة ضغوطها المعلنة والمستبطنة من أجل ما يتطلبه المشهد من وضوح للرؤية وللحفاظ على مصالحها وعلى نموذج ديمقراطي لم تستطع تونس الأخذ بزمامه بعد..

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 14 سبتمبر 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING