الشارع المغاربي – لطفي النجار : هل عدنا إلى المربّعات المقيتة للصنصرة والرقابة التي تحيلنا على مناخات عهدناها زمن الاستبداد واستتباعاتها من إلجام للأفواه وتزييف للحقائق وللوقائع وتوجيه ماكر للرأي العام؟ ما حدث في برنامج “كلام الناس” على قناة الحوار التونسي من حذف لقرابة نصف ساعة من كلام النائب بمجلس نوّاب الشعب منذر بالحاج علي هو “صنصرة ” سياسية واضحة ولا يمكن أن يمرّ الفعل المشين دون دقّ كل نواقيس الخطر حول مآلات حرية التعبير والإعلام، خاصة وأنّ الجزء “المصنصر” تعلّق بانتقادات لحركة النهضة وبـ“الأعباء المالية الإضافية على الميزانية التي كانت لصالحها” زمن الترويكا حسب ما وضّح لاحقا بالحاج علي.
في تدوينة على صفحته بالفايسبوك كشف منذر بالحاج علي عن تعرّضه للصنصرة إثر استضافته في برنامج “كلام الناس” من خلال حذف حوالي ثلاثون دقيقة من كلامه تضمّن ما تكبّدته تونس كعبء مالي إضافي على الميزانية لصالح حركة النهضة. وبيّن أنّه بعد الانتهاء من تصوير الحصّة لم يعلمه مقدّم البرنامج أو فريق الإعداد بحذف أيّ جزء من مشاركته لكنّه تفاجأ بعملية الحذف، وأضاف أنّه حاول الاتصال عديد المرّات بمقدّم الحصّة إلياس الغربي ومحلّلي البرنامج من أجل معرفة أسباب الصنصرة، لكن دون أن يتلقّى إجابة من أي طرف. يوم واحد فقط بعد تدوينة بالحاج علي، تأكّدت “فضيحة” الصنصرة على إثر استقالة إلياس الغربي من قناة الحوار التونسي الذي أقرّ بوضوح كامل على صفحته بالفايسبوك بالفعل واستنكره بشجاعة مستحسنة قائلا:” تمّت صنصرة جزء من حلقة كلام النّاس دون علم منّي ومن ورائي وأرفض قطعيا العمل تحت الصنصرة ولا أتحمّل مسؤولية ممارسات لا دخل لي فيها“.
صنصرة سياسية…
نتمنّى بدءا أن تكون هذه الصنصرة حادثا عرضيا وليست سياسة ممنهجة رغم أنّ العديد من المؤشرات التي بدأت تلوح في المشهد الإعلامي تبيّن أنّ الأمر غير ذلك ممّا يستوجب الانتباه والتيقّظ كما أشارت نقابة الصحفيين التي دعت في بيانها معلّقة على هذا الحدث إلى ضرورة “المضي قدما في تنفيذ الخطّة الاستراتيجية لهياكل القطاع في مكافحة الفساد في وسائل الإعلام الخاصّة ومنعها من التحوّل إلى مزارع خاصّة في إفلات تام من كلّ المعايير المهنية والأخلاقية والتعديلية” كسبيل وحيد “لإيقاف مثل هذه الممارسات“.
إنّ ما يدعو فعلا إلى الحذر في حالة الصنصرة المقترفة في حقّ منذر بالحاج علي هو أنّها صنصرة سياسية واضحة، إذ تعلّق الجزء المحذوف “ومن عجائب الصدف” كما يقول بالحاج علي “بما تكبّدته بلادنا ماليا كعبء مالي إضافي على الميزانية لصالح حركة النهضة وما تكبّدته الميزانيات المتتالية: تصرّف تجاه الدولة الغنيمة“. ويكشف النائب بمجلس نوّاب الشعب أنّ المقطع “المصنصر” تضمّن ” أرقام ومراجع قانونية“، مضيفا في شكل سؤال“هذا ما قلته ببساطة ولكنّه يمثّل أوّل تقييم مرقّم لما قبضته النهضة من الدولة التونسية…فلماذا تخاف النهضة النهضة الحقيقة وتفقد أعصابها بهذا الشكل لكي تلجأ للمقصّ وتعتدي بصفة سافرة على حرية التعبير…؟“.
صمت “الحوار التونسي“
لم يقف الأمر لدى إدارة قناة الحوار عند حدّ “الصنصرة” وحذف مقطع تعرّض بالنقد إلى حزب حاكم في برنامج حواري يحظى بنسب مشاهدة مرتفعة ومتابعة من شرائح متنوّعة من التونسيين نظرا لتعدّد مشارب الضيوف ولكفاءة المقدّم المستقيل، بل تعدّى الأمر إلى الصمت المطبق وعدم التعليق أو التوضيح للرأي العام لحقيقة ما حدث وكأنّ الحدث هيّن أو هو “شغل مونتاج” ليس إلّا رغم التدوينة الغاضبة للضيف ورغم استقالة إلياس الغربي التي أقرّ صاحبها بالصنصرة دون علمه ومن ورائه ورغم بيان النقابة ورغم امتعاض جلّ المتابعين من نخب سياسية وثقافية وفكرية وإعلامية محترمة.
تجدر الإشارة إلى أن عمليّة الصنصرة الأخيرة في برنامج “كلام النّاس” لم تكن هي الأولى في رصيد قناة الحوار التونسي إذ سبق أن صنصرت جزءا من كلام لزهر العكرمي بصفته ضيفا في أحد برامجها وتدخّل حينها “المقصّ الرقابي” كما تدخّل في مرّات أخرى مع شخصيات سياسية معروفة في عالم السياسة والإعلام. حدث هذا بالتزامن المستمر مع سكوت القناة وصمتها دون اعتذار أو اعتراف بالذنب المقترف في حق الضيف وفي حق نزاهة الإعلام وأخلاقيته.
لقد أخطأت إدارة قناة الحوار التونسي مرّات ومرّات وكعادة كلّ خطأ أو هفوة كبرى من هفواتها تأتي دائما مضعّفة: مرّة أولى هذه المرّة لمّا حذف المشرفون على برنامج “كلام الناس” مقطعا ذا مضمون سياسي واضح وتورّطوا في صنصرة مكشوفة دون علم المقدّم ومن ورائه ودون إعلام الضيف أو استشارته، ومرّة ثانية لمّا اختاروا الصمت دون أن تكلّف إدارة القناة نفسها عناء الشرح والتوضيح والاعتذار.
سكوت قناة الحوار التونسي على الصنصرة وعلى استقالة مقدّم في برنامج من برامجها الرئيسية اتهمها صراحة بهذا الفعل المخلّ بأبسط قواعد المهنية والأخلاقية للعمل الإعلامي يدعو فعلا إلى التنبّه من خطر التطبيع مع سلوكيات مماثلة يمكن أن تكون مطيّة مثلى للعودة إلى الاستبداد…نتمنّى من القلب هذه المرّة أن نكون قد أخطأنا التقدير…