الشارع المغاربي – كلمة السر ّلنجلاء بودن: لاستعادة الثقة، مكافحة الفساد أولا وآخرا/ بقلم: معز زيّود

كلمة السر ّلنجلاء بودن: لاستعادة الثقة، مكافحة الفساد أولا وآخرا/ بقلم: معز زيّود

قسم الأخبار

16 أكتوبر، 2021

الشارع المغاربي: اختزلت رئيسة الحكومة نجلاء بودن كلمتها، بمناسبة موكب أداء اليمين في قصر الرئاسة بقرطاج، في عبارةٍ واحدة كرّرتها مرارًا، وهي «استعادة الثقة» سواء في الدولة المستضعفة أو في المتعاملين معها في الداخل والخارج وخاصّة في التطبيق العادل للقانون ومقاومة الفساد. طرح مهمّ يحتاج للتشخيص…

«أولويّات هذه الحكومة ستكون استعادة الثّقة في الدّولة واستعادة ثقة الشباب في نفسه، وهي ثقة لا تتحقّق إلاّ بشعوره بأنّه مواطن كامل الحقوق، واستعادة ثقة المواطن في الإدارة وفي المرفق العمومي واستعادة ثقة الأطراف الأجنبيّة في تونس»… هذا ما أكّدته رئيسة الحكومة نجلاء بودن، يوم أمس، في أوّل كلمة لها بُثَّت بعض مضامينها للعموم ونَشرت وكالة الأنباء الرسميّة بقيّة فحواها أو ربّما ما سمح حارس البوّابة الإعلاميّة لقصر الرئاسة بنشره.

أوضحت بودن أنّ «الحكومة ستُركّز كذلك على استرجاع الثقة في المعاملات، وهي ثقة لن تتحقّق دون تطبيق القانون دون تمييز». كما أوضحت أنّ «هيكلة هذه الحكومة تهدف إلى ترتيب الأولويّات واسترجاع الثقة والأمل وضمان الأمل الاقتصادي والاجتماعي والصّحّي للمواطن وضمان الأمن بكلّ أبعاده»، مشدّدةً على أنّ أهمّ أهداف هذا الفريق الحكومي على الإطلاق هو مكافحة الفساد الذي «يزداد انتشارا يوما بعد يوما ويُقوّض الثقة في أيّ محاولة إصلاح جذري وحقيقي». لم تنس رئيس الحكومة طبعًا التعريج على صميم دور الحكومة في هذه المرحلة الانتقاليّة الجديدة المتمثّل في التركيز على الملف الاقتصادي، وما يدور في فلكه بشأن إصلاح الإدارة وتحقيق النجاعة في العمل الحكومي وفتح مجال المبادرة والاستثمار أمام كافّة الفئات ولخدمة جهود التنمية في جميع الجهات، وكلّ ذلك دون المسّ بالحقوق والحريّات…

بيت القصيد

لن نُسهب أكثر في استعراض سائر مضامين كلمة نجلاء بودن، فما سبق ذكره يُعبّر عن برنامجها المعلن. فقد عرفت كيف تختزل أفكارها بذكاء وتتجنّب الإفراط في الجُمل الاعتراضيّة والتفاسير الطويلة المملّة. السؤال المطروح إذن: هل أنّ رئيسة الحكومة هي التي أعدّت نصّ كلمتها تلك؟ تبدو الإجابة مبدئيّا بـ نعم. فمن الطبيعي والمنتظر أن تحمل كلمتها سمات خطاب رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد وتركّز على القضايا التي دأب دائما على طرحها، غير أنّ أسلوب خطابها وترتيبها للأفكار لم يكن هو ذاته ما تعودّنا على سماعه من رئيس الدولة ولا نزال. كما لا يمكنها، وإن ابتغت، أن تكون نسخة ولو مصغّرة من الرئيس قيس سعيّد. وربّما حسنا فعلت بأن اختارت أسلوبا يُميّزها وإلّا لسقطت في فخّ يصعب مغادرته.

وفي المحصّلة، أفلحت رئيسة الحكومة في اختيار نقطة القوّة لخطابها عبر التركيز على مسألة «استعادة الثقة في الدولة» وما يتّصل بذلك من أولويّة محاربة الفساد وتطبيق القانون على الجميع على قدم المساواة، مؤكّدة العزم على «تجسيد مبدأ المراقبة والمساءلة والمحاسبة واختيار الكفاءات الأقدر على إدارة الشأن العام وتنفيذ المشاريع والإصلاحات بمرونة وثبات». وكما جاء في كلمتها، فإنّها حرصت على الربط بين «استعادة الثقة» و»استرجاع الأمل» لدى التونسيّين في إصلاح الأوضاع المترهّلة لمختلف شؤون بلادهم.

معلوم طبعًا أنّ رئيسة الحكومة لم تخترع مجدّدا العجلة عبر التأكيد على أولويّة محاربة لوبيّات الفساد التي تمكّنت من أوصال البلاد كالأورام السرطانيّة. فقد سبقها الكثيرون في مضغ تلك المقولات التي سئمها عموم التونسيّين. ومع ذلك فإنّها وضعت الإصبع على الداء، وخاصّة بجعل مسألة استعادة الثقة بمثابة فلسفة للحكم وإدارة الشأن العام والإقرار بأنّ استهداف شبكات الفساد شرط أساسيّ ترتبط بنجاحه سائر المسارات…

هذه كلمة السرّ إذن، وهي كفيلة لا فقط بفتح الحواسيب والحسابات المغلقة، وإنّما كافّة الأبواب التي كانت عصيّة عن الفتح. ومع ذلك فإنّ الأمر لا يتوقّف على الشعارات والوعود. فقد سبق للعديد من كبار المسؤولين، وفي مقدّمتهم كافّة رؤساء الحكومات السابقة ورؤساء الجمهوريّة بعد الثورة دون استثناء، غير أنّ تلك الوعود بقيت كالحبر السري سريع التبخّر. فهل يخفى أنّ هذا الشعب قد ذاق ذرعا من استشراء الفساد، على الرغم من أنّ الكثير من التونسيّين قد انخرطوا في هذا الوباء حتّى بات جزءا من حياتهم اليوميّة؟!. ومن ثمّة، نلحظ كيف أمسى التونسيّون يتعلّقون ولو بقشّة كلّما تصارخ مسؤول كبير بأنّه «آن الآوان لمحاسبة الفاسدين وإنّه لفاعل»!. ألم نر كيف خرج الآلاف من التونسيّين يدعمون رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، ذات يوم من شهر ماي 2017، حين أعلن أنّه سيُوجّه كلّ الإمكانيّات لمكافحة الفساد وسارع بالزجّ بأحد رموزه في السجن. اتّضح بعد فترة قصيرة أنّ تلك العمليّة برمّتها لا صلة لها بمقاومة الفساد وإنّما بضرب خصوم رئيس الحكومة المذكور. ولذلك انحدرت شعبيّته إلى درجة غير متوقّعة رغم توظيف إمكانيّات الدولة في حملته الانتخابيّة السابقة لأوانها على امتداد فترة طويلة…

الإيفاء بالتعهّدات؟!

السؤال المطروح إذن هو هل أنّ نجلاء بودن قادرة حقّا على الإيفاء بتعهّداتها الجسيمة تلك؟! وهل سيسمح لها قصر رئاسة الجمهوريّة بأداء مهامها وممارسة صلاحيّاتها كما يفترض للأمر أن يكون. من المنتظر طبعًا أن يبذل خصوم الرئيس قيس سعيّد قصارى جهدهم ويحيكون شتّى مناوراتهم في الداخل والخارج بهدف تعطيل عمل الحكومة ووضع العراقيل أمامها، لا انتقامًا منها شخصيّا وإنّما استهدافًا لمن تسبّب في تقهقر منظومتهم ولا يزال مُصرّا على إقصائهم. وقد بات معلومًا لدى القاصي والداني أنّه لا أهميّة لمصالح تونس والتونسيّين أمام مصالح جماعة ارتهنت البلاد برمّتها، وصنعت من المؤسّسات السياديّة للدولة، وفي مقدّمتها البرلمان، غرفة لبثّ الفرقة وتعميق الصراع الفجّ واقتناص المصالح وآلة تدمير منهجي لكلّ المكتسبات.

ومع ذلك فإنّ المؤشرات الأوّليّة للحدود التي رسمها قصر الرئاسة لحريّة الحكومة واستقلاليّة قرارها تبعث على القلق والشكّ. فمنذ اللحظة الأولى، اقتطعت مصالح الاتّصال بقصر قرطاج الكلمة التي توجّهت بها رئيسة الحكومة إلى التونسيّين لا فقط إلى رئيس الدولة. فما تمّ بَثّه في صفحتيْ رئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة من كلمة نجلاء بودن على شبكة «فيسبوك» لا يتعدّى بضع جُمل، ولم يرد أهمّ ما جاء في كلمتها إلّا في سطور برقيّة وكالة تونس إفريقيا للأنباء، في حين بُثّت كلمة رئيس الجمهوريّة كاملة.

ينبغي التذكير هنا أيضا بأنّه في زمن النظام السابق للثورة كان لقصر الرئاسة بقرطاج، وتحديدا لزوجة الرئيس الراحل ليلى الطرابلسي وأعضادها، قنوات اتّصال مباشرة مع الحكومة بمختلف مكوّناتها ووزرائها. وكان ذلك يُعبّر لا فقط عن سوء تصرّف وإنّما عن البؤرة المركزيّة لفساد النظام برمّته. وفي حال حصل اليوم أنْ يُعيد ديوان رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد إنتاج الممارسات ذاتها، فإنّنا لن نخرج عن الدائرة الجهنّميّة نفسها. كما لا يخفى أنّ وزراء حكومة نجلاء بودن، باعتبار أنّهم ليسوا أصحاب تجارب وخبرات سياسيّة واسعة في معظمهم، قد يتعاملون بعقليّة الموظّف التابع الذي يُطبّق التعليمات العليا لبعض بطانة القصر بحذافيرها، خشيةَ غضبِ وليّ النعمة وإزاحته من منصبه «السامي»، كما لو أنّه كان يُكرّس فكر الجماعات الدينيّة التي تقوم بالأساس على فكرة «الطاعة» للمرشد ووليّ الأمر. تعمّدنا إذن استخدام حرف «قد» مع الفعل المضارع بما يفيد الشكّ واحتمال الوقوع. والمقصود بذلك أنّه لا ينبغي أن نرجم المستقبل وندّعي علم الغيب، رغم توافر المؤشرات المقلقة. والمهمّ هنا هو أنّه بمجرّد تعيين هؤلاء الوزراء وأدائهم القسم، فإنّ ولاءهم يفترض أن يُوجّه صوب الدولة لخدمة مصالحها وصون علمها المقدّس وليس لخدمة مصالح أشخاص عابرين، ولو تعلّق الأمر برئيس الجمهوريّة أو رئيسة ديوانه. وما على من يخضع لضغوط أيّة لوبيّات خارج الأطر القانونيّة إلّا أن يكون في مستوى اللحظة التاريخيّة والوطنيّة للفوز بنفسه وتقديم استقالته وكشف أسبابها.

أولويات المرحلة

من العوامل الإيجابيّة اليوم أنّه باستثناء المواقف المنتقدة والمحبطة لخصوم الرئيس قيس سعيّد، فإنّ هناك استبشارًا عامّا لدى جلّ التونسيّين ومنظماتهم الوطنيّة بتشكيل الحكومة وخاصّة بالهويّة التي تسعى رئيسة الحكومة إلى إعطائها لفريقها الوزاري. وما عليها اليوم إلّا المسارعة بفتح معظم الملفّات ذات الأولويّة، وخاصّة المتعلّقة بالبحث عن شتّى السبل لتمويل نفقات الدولة للفترة المقبلة من العام الحال في ظلّ شحّ الموارد التي تتهدّدها، والتعجيل بإعداد قانون الماليّة لسنة 2022. وفي الآن ذاته إنهاء حالة الشلل التي تكتنف مفاوضات الدولة التونسيّة مع صندوق النقد الدولي، باعتبارها محدّدا ومؤشّرا أساسيّا لتعامل المؤسّسات الماليّة الدوليّة المانحة مع بلادنا.

وفي المقابل، فإنّه من مصلحة مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة أن تنأى بنفسها عن كلّ ما من شأنه أن يُعيق عمل الحكومة. كما أنّ مصالح سائر التونسيّين ترتبط بانصلاح الأحوال عامّة وبنجاح الحكومة الجديدة في الإيفاء بتعهّداتها والتزاماتها المتناهية الصعوبة في هذا الظرف الدقيق.

لِنقُل بمنتهى الوضوح إنّ العديد من الإجراءات المتخذة خلال الشهرين الماضيين قد أظهرت فشلها وقصورها إلى حدّ اليوم، بل وعمّقت الحيرة والقلق في أنفس من استبشروا بالتغيير. كما أساءت للدولة ولمقامها أكثر من نفعها، على غرار فرض الإقامة الجبريّة والمنع من السفر والشيطنة والتخوين من دون حجج وأدلّة ثابتة. وهذا في حدّ ذاته لن يُسهّل مطلقا مهام الحكومة الجديدة. ومن ثمّة ينبغي الوعي، اليوم قبل الغد، بأنّ قوّة الخطاب رغم أهميّة تأثيرها في النفوس، تبقى أمرا ظرفيّا ومؤقّتا إذا لم تصطحب بقوّة الفعل وتنتقل من التنظير إلى التنفيذ. وفي حال لم تُفلح الحكومة في الحدّ من هيمنة لوبيّات الفساد والتهريب وتحدّ من اختلال كافّة الموازين بما يُسهم في استعادة الثقة المنشودة، فإنّ البلاد برمّتها ربّما تفوّت على نفسها فرصتها الأخيرة…

نشر بأسبوعيى “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 12 اكتوبر 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING