الشارع المغاربي – كيف سيقضي اتفاق"أليكا" على القطاع الفلاحي الوطني ! بقلم : جمال الدين العويديدي

كيف سيقضي اتفاق”أليكا” على القطاع الفلاحي الوطني ! بقلم : جمال الدين العويديدي

3 مايو، 2019

الشارع المغاربي : في البداية نريد أن نترحم على أرواح مواطناتنا الكادحات في الأرياف التونسية من أجل لقمة العيش في سيدي بوزيد و في القصرين و في كل أنحاء الوطن و نتقدم بتعازينا لكل العائلات المنكوبة.

تحية منا و احتراما و تقديرا لكل هذه السواعد الكادحة من أجل تأمين الإنتاج الغذائي الفلاحي في الوطن ارتأينا في هذه المقدمة و نحن نخوض في موضوع “الأليكا” أن نذكر بهذه الأرقام المقتبسة و الخاصة بولاية سيدي بوزيد. حيث تعد المساحة السقوية في هذه الولاية تقريبا 19.500 هكتار توفر نسبيا من الإنتاج الوطني 18% من الخضروات و 14% من إنتاج الزيتون و 13 % من إنتاج اللوز و 10 % من الألبان و 10 % من اللحوم الحمراء و 30 % من أضاحي العيد و 6 % من إنتاج الفلاحة البيولوجية.

كل هذا العطاء الغزير في هذه المنطقة يتواصل سنويا رغم قلة العناية بالقطاع الفلاحي حيث لا يتحصل إلا على نسبة 2,2 % من القروض البنكية الممنوحة للقطاعات الاقتصادية حسب تقرير البنك المركزي المتعلق بسنة 2017 بينما يتحصل قطاع الخدمات بما فيها التجارة في التوريد على أكثر من 60 %. كل هذا العطاء تساهم في تأمين وصوله للمواطن بداية من بذره إلى جنيه سواعد نساء و رجال أيضا كادحين لا ينالهم إلا القليل من هذا الإنتاج الذي يتم استغلاله من طرف السماسرة و المضاربين في غياب سياسة تثمين هذا الإنتاج عبر تحويله صناعيا في نفس المنطقة لخلق مواطن الشغل و الاحتفاظ بجزء هام من القيمة المضافة داخل الولاية ثم يتم توزيعه في السوق المحلية الوطنية و تصديره إلى الخارج.

في وضع هش و اضعف ما يكون منذ الاستقلال تدفع أحزاب الأغلبية الحاكمة للتوقيع على اتفاق غير متكافئ.
إنه حقيقة لمن الغريب أنه في خضم هذه الأحداث الأليمة التي تعيشها بلادنا في علاقة بغياب السياسات الفلاحية و الصناعية الوطنية الفعالة و الناجعة و في علاقة بتدهور المرافق العمومية في الصحة و في التعليم و في النقل و في تفشي البطالة التي تطول كل فئات شبابنا من المؤهلين في التعليم العالي و من غير المؤهلين و في علاقة بتدهور كل المؤشرات الاقتصادية و الاجتماعية التي تشهدها البلاد أن تتواصل في نفس الوقت أي يوم الاثنين 29 أفريل الجولة الرابعة من المفاوضات المتعلقة بمشروع اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق “الأليكا” الذي يضغط الاتحاد الأوروبي للتوقيع عليه مع تونس في أقرب الآجال.

ووجه الاستغراب و الريبة يتلخص في أن دولة مثل تونس التي تمر بأزمة أخلاقية في علاقة بتفشي ظاهرة الفساد و أزمة سياسية و اقتصادية و اجتماعية سبق أن عرفت مثلها في القرن التاسع عشر و أدت إلى احتلال البلاد من طرف الاستعمار الفرنسي، أن تستعد اليوم للتوقيع على اتفاقية تبادل حر شامل و معمق سوف يشمل كل القطاعات بدون استثناء بما فيها القطاع الفلاحي و قطاع الخدمات مثل التجارة و الصحة و التعليم و غيرها من الخدمات للتنافس مع مجموعة من أغنى و أقوى الدول في العالم المتمكنة من العلوم و التكنولوجيا الحديثة و الإمكانيات المالية الغزيرة و التي لا مجال لمقارنتها مع الوضع الكارثي للاقتصاد التونسي خاصة في هذه الظروف الحالية.
كيف سيتم القضاء على القطاع الفلاحي الوطني ولمزيد التوضيح نُذكّر بالعناية الخاصة و الإستراتيجية التي يوليها الاتحاد الأوروبي لقطاع الفلاحة حيث يعتمد دعما لا مثيل له في العالم لقطاع الفلاحة عبر برنامج “السياسة الفلاحية المشتركة” “Politique Agricole Commune : PAC ” التي حُدّد له ثلاثة أهداف أساسية : وهي أولا تحقيق الأمن الغذائي للشعوب الأوروبية و ثانيا تثبيت الفلاحين في مناطقهم الزراعية لضمان استمرار الإنتاج عبر الأجيال و ثالثا تأمين مستوى من الدخل الفردي للفلاح الأوروبي لضمان العيش الكريم له و لعائلته.

من ذلك نذكر أن دعم الزراعات الكبرى يعد بنسبة 35 % في زراعة القمح و بنسبة 40 % في زراعة الشعير و بنسبة تتراوح بين 25 و 30 بالمائة في كل المنتوجات الفلاحية الأخرى مثل اللحوم البيضاء و اللحوم الحمراء و الألبان و غيرها. هذا التدقيق يعني أنه في حالة تفكيك المعاليم الديوانية على هذه المنتوجات بين تونس و الاتحاد الأوروبي تصبح المنتوجات الأوروبية أكثر قدرة تنافسية بمعدل نسبة 30 بالمائة مما سيقضي نهائيا على المنتجين التونسيين و يجرهم للإفلاس. ليُفتح المجال على مصراعيه للشركات الأوروبية الكبرى للاستثمار في الأراضي الفلاحية الوطنية عبر برامج إنتاج خاصة بها و تتكامل مع مصالحها الإستراتيجية الأوروبية مثل زراعة النبتات المتعلقة بإنتاج طاقة “الميتانول” “méthanol ” وهو ما بدأت تقوم به بعض الشركات الإيطالية و الفرنسية في منطقة الشمال الغربي بعد التفويت لها في أراضي بالجهة. وهي أيضا زراعات تستهلك المياه بكثافة مما سيضر بالثروات المائية الوطنية و الحال أن تونس تُصنف ضمن البلدان التي تعاني من شح المصادر المائية في العالم؟
أخطر من ذلك في الميدان الفلاحي حيث أن تمرير قانون الصحة و الصحة الفلاحية الأخير ” loi sur les normes sanitaires et phytosanitaires SPS” طبقا للمواصفات المُعتمدة من الطرف الأوروبي سوف يرتكز عليه المنتجون الأوروبيون لمنع تسويق محلي لأي إنتاج تونسي لا يتطابق مع هذه المواصفات لأسباب عدة منها عدم توفر الإحاطة العلمية و التكنولوجية و سوف يفتح المجال بغزو أسواقنا بالمنتوجات الأوروبية المستوردة بقوة القانون الصادر عن مجلس نواب الشعب التونسي؟

أما على مستوى الخدمات و لمزيد التوضيح أيضا نُذكّر أن تونس اتخذت إجراءات قانونية هامة في بداية الاستقلال لضمان القطع مع الاستعمار عبر تحقيق تونسة الإدارة و تونسة النشاطات الخدماتية و في مقدمتها النشاط التجاري. حيث طبقا للقانون الصادر في سنة 1962 أصبح النشاط التجاري حكرا على حاملي الجنسية التونسية دون غيرهم. و قد جاء هذا القانون ليس على أساس “شوفيني” كما ربما يعتقد البعض و لكنه جاء على أساس اقتصادي بحت. حيث أن النشاط التجاري المؤمن من طرف التونسيين لا يقوم بتحويل المرابيح المتأتية من هذا النشاط إلى الخارج و ذلك سعيا لتحصين التوازنات المالية الخارجية للبلاد و سعيا للتراكم رؤوس المال داخل البلاد لفسح المجال لاستثمارها في قطاعات عديدة اخرى منها قطاع الفلاحة و الصناعة سواء مباشرة أو عبر توظيف المرابيح في الادخار لدى البنوك و المؤسسات المالية.

غير أن ما جاء في بنود مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق و المتعلق بفتح المجال لكل الأشخاص و المؤسسات المتأتية من بلدان الاتحاد الأوروبي بانتصاب بكل حرية في كل النشاطات الخدماتية بما فيها التجارة مع حق تحويل كل المرابيح المتأتية من هذا النشاط إلى البلد الأم أي خارج البلاد التونسية. هذا زيادة على أن حق الانتصاب حسب هذه الاتفاقية مكفولا للأجانب بدون تأشيرة دخول للتراب التونسي في حين أن المعاملة بالمثل غير مكفولة للطرف التونسي حيث سيُبقي الاتحاد الأوروبي على فرض تأشيرة دخول لمواطنينا. هذه الاتفاقية سوف تلغي القانون الوطني السابق ذكره و الذي أكدنا أنه يكتسي صبغة اقتصادية محورية و هامة لصيانة السيادة الوطنية عبر المحافظة على التوازنات المالية الخارجية للبلاد و تشجيع الاستثمار الداخلي.

هذا طبعا علاوة على ما يجري حاليا و ما سيجري بعد التوقيع في قطاع الصحة و التعليم حيث خلافا لما يعتقد البعض لا ننتظر دخول أطباء أو مدرسين أوروبيين لتونس لأننا نعلم أنهم في حاجة لكفاءاتنا الطبية و الجامعية لسد الشغور لديهم. و لكن من سينتفع بهذا الاتفاق هو الشركات الأوروبية الكبرى و خاصة منها صناديق الاستثمار التي ستتمكن من مؤسساتنا الصحية و التعليمية الخاصة بأبخس الأثمان بالنظر لانهيار قيمة الدينار و تجعل منها موردا للربح الفاحش و الذي سيتم تحويله بالكامل إلى الخارج؟

و سعيا لمزيد التوضيح حول هذه المسألة الهامة و الخطيرة سوف نضرب مثالا لما سوف يحدث للاقتصاد الوطني لو يتم التوقيع على هذا الاتفاق الجائر. من ذلك فإنه بمقتضى قانون ممارسة النشاط التجاري لسنة 1962 و الذي خص به حاملي الجنسية التونسية أصبحت منذ ذلك اليوم نيابات علامات المنتوجات الخارجية حكرا للتونسيين لترويجها في السوق الوطنية مما يؤدي إلى الإبقاء على المرابيح المتأتية من هذا النشاط في البلاد التونسية.

غير أن هذا الاتفاق سيلغي تماما مفعول هذا القانون. من ذلك مثلا يمكن لكل شركة صناعية في قطاع السيارات سواء كانت فرنسية أو إيطالية أو ألمانية أن تمنح النيابة لطرف أوروبي شخصا ماديا أو مؤسسة و الذي سينتفع من هامش الربح لتسويق السيارة الموردة و كذلك من تسويق قطع الغيار التابعة لها و التي تُمثل تقريبا حسب دراسات عالمية ثلاثة أضعاف سعر السيارة عادة و كذلك من خدمات الصيانة التي توفرها هذه النيابة ثم يقوم هذا الطرف الأوروبي شخصا كان أو مؤسسة بتحويل كل هذه المرابيح إلى بلده الأم بدون قيد أو شرط و بدون أن تقوم الدولة التونسية بدراسة مُعمّقة حول خطر تعريض البلاد إلى هذا النزيف المنتظر من العملة الأجنبية و التي لم يتم إلى اليوم تحديد مصدرها. خاصة و أن الدراسة التي قام بها مكتب الدراسات الهولندي “إيكوريس” “Ecorys” بطلب و بتمويل من الاتحاد الأوروبي بيّن أن التوقيع على هذه الاتفاق يمكن أن يمكن من ارتفاع الصادرات التونسية بنسبة 20 % بالتوازي مع ارتفاع الواردات بنسبة 18% أي بإضافة طفيفة جدا ب2% لا يمكن أن تُخرج البلاد من العجز التجاري الهيكلي والخطير الذي تعاني منه البلاد اليوم.هذا بالطبع إذا صدقت تقديرات هذه الدراسة المنحازة للطرف الأوروبي بصفته الممول لها.

إذا ما أضفنا على كل ما يمكن أن يحصل للبلاد من جراء هذا الاتفاق غير المتكافئ و الخطير كما بيناه سابقا، الطريقة المريبة و غير السليمة التي تتفاوض بها الحكومات المتتالية حول هذا الموضوع المصيري لا يسعنا إلا أن نعبر عن تخوفنا الكبير على مصير البلاد و مصير أجيال تونس القادمة. للتعليل على هذا المُعطى الهام نُذكر أن الحكومات المتتالية قامت بتمرير كل البنود المطروحة في مشروع هذا الاتفاق عبر قوانين مسقطة قام نواب الأغلبية الحكومية بالتصويت عليها كلا على حدة نذكر من بينها:
– قانون الاستثمار الذي فتح المجال للمستثمر الأجنبي للاستثمار في كل القطاعات بما فيها الفلاحية و الخدماتية وهو بند من بنود “الأليكا”
– قانون الشراكة بين القطاع العام و القطاع الخاص
– قانون البنوك و المؤسسات المالية
– قانون البنك المركزي
– قانون الصحة و الصحة النباتية

دعوة إلى الحكومة لعدم تعريض البلاد لمخاطر هذا الاتفاق و على القوى الوطنية ضرورة التصدي بكل قوة
كل هذا التمشي لا يطمئن الشعب التونسي على مستقبل البلاد و بناء عليه نطالب كل القوى الوطنية و خاصة المنظمات الوطنية الفاعلة للتصدي لهذا الاتفاق الجائر و أن يدعو كل طرف منظوريه لعدم التصويت لأي جهة تتبنى التوقيع و المصادقة على هذا الاتفاق في الانتخابات التشريعية و الرئاسية القادمة. كما نريد بهذه المناسبة أن ننوه بموقف كلا من عمادة المحامين التونسيين و الاتحاد التونسي للفلاحة و الصيد البحري الذين عبرا على رفضهما لهذا الاتفاق كما دعت منظمة الفلاحين إلى إيقاف المفاوضات و عدم التوقيع على هذا الاتفاق.

صدر بالعدد الأخير من أسبوعية “الشارع المغاربي”.

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING