الشارع المغاربي : كلّما احتدم التجاذب السياسي واقتربنا أكثر من الاستحقاقات الانتخابيّة لأواخر 2019، إلّا وتعدّدت “السقطات” الخطابيّة لكبار الشخصيّات السياسيّة. رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي لم يحد، خلال الأسابيع الأخيرة، عن هذا المنوال. وآخرها دعوته للحكومة المقبلة إلى “تحرير البلاد” من “سلطة الفاسدين والمافيات”. وهو ما يطرح أكثر من استفهام بشأن خطاب الأولويّات المؤجّلة.
من الأهميّة بمكان أن نُميّز بين مجرّد زلّات اللسان لدى السياسيّين، رغم أهميّة ما قد تستبطنه أحيانا، والمراوغات الخطابيّة التي تعكس نهجا متناسقا للأداء السياسي. في هذا المضمار يتنزّل مضمون خطاب راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الذي ألقاه مؤخّرا أمام جمع من أنصار حزبه…
أجندة الأولويّات
حدّد زعيم حركة النهضة في كلمته أولويّات الحكومة المقبلة المنبثقة عن الانتخابات التشريعيّة، المزمع تنظيمها أواخر العام الجاري، المتمثّلة في مقاومة “سلطة الفاسدين والمافيات”، وكأنّها أولويات مؤجّلة تماما ولم تكن من ضمن أولويات الحكومة الحاليّة أو الحكومات المتعاقبة التي سبقتها. وقال تحديدا إنّه “على الحكومة القادمة أن تقوم بدورها الوطني بكثير من الشجاعة والثبات في ترجمة الثورة إلى ثروة تُوزَّعُ بالعدل بين جهات البلاد وفئاتها وفق مبدأ التمييز الإيجابي الذي أقرّه الدستور” ، وأضاف أنّه على تلك الحكومة أن “تُحرر البلاد من سلطة الفاسدين والمافيات التي تحتكر قوت الشعب وتمنع عنه حقّه في العيش الكريم”…
يبدو كلام الغنوشي للوهلة الأولى عاديّا ومنطقيّا، بالنظر إلى التخبّط الذي لا تزال تعيشه البلاد على مختلف الأصعدة، ولاسيما في علاقة بمعضلة التفاوت الجهوي وتعثّر العدالة الاجتماعيّة وتفاقم الفساد والفاسدين والمحتكرين والمهرّبين ومن إليهم… ورغم أنّ خطابه يُنبئ بتوجيه انتقادات ضمنيّة إلى الحكومة الحاليّة وتحميلها مسؤوليّة العجز عن حلحلة المشاكل الكثيرة القائمة في البلاد، فإنّه يعني أنّ اهتماماته مركّزة على حكومة ما بعد الانتخابات. وفي هذا التوصيف تضارب واضح باعتباره يتماوج بين دعم هذه الحكومة والتحالف معها من جهة وانتقادها بشدّة من جهة أخرى. فمن خلال الحديث عن ضرورة أن تقوم الحكومة القادمة بـ”دورها الوطني بكثير من الشجاعة والثبات في ترجمة الثورة”، وكأنّه يعني أنّ الحكومة الحاليّة أو حتّى سابقاتها لم تتّصف بهذه الأبعاد الضروريّة. والسؤال المطروح أنّه في حال كانت الحكومة الحاليّة كذلك لماذا يدعمها ويتحالف معها، إلاّ إذا كان لا يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق أجندة حزبيّة معيّنة من وراء دعمها غير المحدود…
الإشكال الثاني الأكثر خطورة يتمثّل في منطق ترتيب الأولويّات الحكوميّة الذي ساقه رئيس حركة النهضة في خطابه المذكور. فتخليص البلاد من “سلطة الفاسدين والمافيات” يُفترض ألّا يخضع إلى جدول زمني يتمّ إرجاؤه وتأجيله إلى ما بعد ثمانية أشهر تقريبا، أي إلى غاية تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات المقبلة في أواخر شهر ديسمبر 2019 أو أوائل شهر جانفي 2020، حسب التحالفات التي ستُنجز آنذاك. والحال أنّ مقاومة الفساد والفاسدين ينبغي أن تكون دائما في رأس قائمة الأولويّات لدى أيّة حكومة، لا أن تُؤجّل إلى ما بعد الانتخابات وإلى الحكومة القادمة…
ومع ذلك فإنّه بتبصّر دلالات ما تحدّث عنه نفهم بيُسر أنّ هذا الخطاب يرتبط كذلك بالجمهور المستهدف المتمثّل في قواعد حركة النهضة التي عليه طمأنتها قبل كلّ شيء بأنّ الحركة تُمسك بمقاليد اللعبة استعدادا للاستحقاقات الانتخابيّة المقبلة. وفي هذا الصدد تندرج أيضا تصريحاته، المنشورة في صحيفة “القدس العربي” القطريّة يوم الأحد الماضي، فقد أعربع الغنوشي عن ثقته في تكرار سيناريو الفوز الساحق لحركة النهضة في انتخابات 2011، قائلا حرفيًا بأنّ لديه “ثقة أنّ الشعب الذي أعطى الأغلبية للنهضة في 2011 ليس هناك مبرّر أن يتراجع عن هذا الأمر”. وهذا رغم أنّ ما ذكره لا يعكس الواقع بدقّة، باعتبار تراجع الزخم الانتخابي لحركة النهضة خلال المحطات الانتخابية اللاحقة في 2014 و2018.
لا شكّ إذن أنّ الغنوشي قد مضى، من خلال ما ذهب إليه، في سنّة اعتماد خطاب سياسوي مخاتل ليس غريبا عنه. والمقصود بذلك أنّه لا يلوك كلماته بسرعة أو بسطحيّة، ولا علاقة للأمر بزلّة لسان أو بتوصيف تلقائي غير مدروس، وإنّما بتجربة سياسيّ استطاع إدارة تنظيمه وحزبه لفترة تقارب خمسين عاما، ولا يجد أيّ حرج في إبداء مواقف سياسيّة تتناقض كليّا مع ما سبقها، وفق أجندته ومصالح حزبه قبل أيّ شيء آخر …
إشكاليّة المرجعيّات!
اعتبر الغنوشي، في الخطاب نفسه، أنّ “الانتخابات القادمة ستسجّل تونس كأوّل بلد ديمقراطي في العالم العربي”. وهي فعلا كذلك إذا اعتمدنا منهج المقارنة مع سائر الدول العربيّة البعيدة كلّها ودون استثناء إلى حدّ اليوم عن الديمقراطيّة، سواء بالنظر إلى طبيعة نظمها السياسيّة الوراثية أو العسكريّة أو آليات الديمقراطيّة وأوّلها الانتخابات الحرّة والشفافة والنزيهة أو كذلك قوانينها المبنيّة على التمييز الجنسي والاجتماعي والمدني. وفي المقابل فإنّنا لو تخلّينا عن منهج المقارنة فإنّنا نتبيّن أنّ تونس لم تتحوّل بدورها إلى ديمقراطيّة. فالبلد الذي تتعامل قوانينه المناقضة للدستور مع المرأة على أنّها مجرّد نصف، أي لا تنال إلّا نصف حقوق الذكر، لا يمكن إطلاقا أن يكون دولة ديمقراطيّة.
ومن دون السقوط في النفاق والانتهازيّة السياسيّين، يبدو من الضروري التصريح والمصارحة بأنّ الديمقراطيّة لا دين لها، ولا مجال للحديث مثلا عن ديمقراطيّة “متأسلمة” أو “مستهودة”… فالديمقراطية، رغم جذورها الإغريقيّة القديمة، تبقى مفهوما غربيّا حديثا مرتبطا بمقوّمات الدولة المدنيّة التي لا تستمدّ قوانينها قطعًا من التعاليم الدينيّة، وإن تقاطعت معها أحيانا مثلما تتقاطع مع أيّ أيديولوجيّات أخرى غير لاهوتيّة. ومن ثمّة فإنّ حديث زعيم حركة النهضة هذا عن الديمقراطيّة التونسيّة لا يعدو أن يكون سوى مجرّد إسقاط يُعطي للديمقراطيّة ثوبا إسلاميّا فيُفرغها من أهمّ معانيها.
ومع ذلك فإنّ دستور 27 جانفي 2014 كفيلٌ، رغم ما يستبطنه من تضارب في المفاهيم وتنازع في السلطات، بأن يجعل من تونس دولة ديمقراطيّة في حال تنزيله بروح انفتاحيّة وغير دغمائيّة، على غرار دساتير دول ديمقراطيّة تُشير إلى موروثها المسيحي. والإشكال المطروح يكمن في أنّ حركة النهضة، باعتبارها كانت تُمسك بمقاليد المجلس الوطني التأسيسي الذي سنّ الدستور الحالي، لا تعترف إلّا بقراءة متعصّبة واحدة وأحاديّة للدستور. وهي بذلك إنّما تجعل من تونس دولة دينيّة لا مدنيّة، ما دامت تُسبّق النصّ الديني على المنظومة الكونيّة للحقوق البشريّة وترفض الالتزام بالمقوّمات الأساسيّة لأيّ نظام ديمقراطي. ومن الطبيعي والمتعارف عليه إذن أنّ الدولة الدينيّة لا يُمكن بأيّ حال من الأحوال أن تكون دولة ديمقراطيّة. وهو ما يكشف بوضوح الأكذوبة السياسيّة التي ساقتها حركة النهضة للرأي العام التونسي والدولي، خلال مؤتمرها العاشر، بشأن فصل الدعوي عن الحزبي والسياسي، وذلك من خلال استخدام مفرغ وأجوف وبلا مضمون للمعجم الاصطلاحي للديمقراطيّة وحقوق الإنسان. وهو ما يُذكرنا بسياسة سحب البساط التي اعتمدها سابقا نظام بن علي الاستبدادي إزاء “المعارضة التقدّميّة” عبر استخدام المعجم الحقوقي دون أن يكون لذلك أيّ أثر في الواقع.
ولا ريب إذن أنّ التعامل مع المنطق الداخلي للنظام الديمقراطي بهذا المنظور، يؤدّي بالضرورة إلى التعاطي مع القضايا الحارقة الأخرى بالمنطق السياسوي الانتهازي ذاته. وبهذا المعنى يطرح راشد الغنوشي “الأولويّات” بالنظر إلى مصالحه السياسيّة والحزبيّة التعبويّة، لا بمنظور مصالح البلاد أولا…
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الأخير .