الشارع المغاربي – ليبيا تؤسس لإعادة الإعمار في غياب شبه تام لتونس ودبلوماسيتها / بقلم: معز زيّود

ليبيا تؤسس لإعادة الإعمار في غياب شبه تام لتونس ودبلوماسيتها / بقلم: معز زيّود

قسم الأخبار

27 فبراير، 2021

الشارع المغاربي: تتسارع الأحداث السياسيّة الفارقة في الجار الليبي هذه الأيّام بوتيرة غير مسبوقة. فقد نجح رأسا الحكم الجديدين في ليبيا محمد يونس المنفي (رئيس المجلس الرئاسي) وعبد الحميد دبيبه (رئيس الحكومة) في تحقيق خطوات مهمّة على درب المصالحة الوطنيّة الليبيّة. وبادر بالتحوّل إلى مقرّ قيادة الجيش في بنغازي واللقاء مع المشير خليفة حفتر، لاسيما أنّه سبق أن رحّب بنتائج ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي أدّى برعاية الأمم المتّحدة إلى انتخاب السلطة التنفيذيّة الجديدة في ليبيا، وصادق على خارطة الطريق التي حدّدت نهاية العام الجاري لتنظيم الانتخابات العامّة الرئاسيّة والتشريعيّة. وبعد هذه الخطوة التجميعيّة اللافتة التي أشاد بها جلّ الملاحظين دولا وخبراء ومؤسّسات، باستثناء جماعة الإخوان، انطلقت السلطة التنفيذيّة المؤقّتة في شقّ الطريق واستحثاث الخطى لرسم الأولويّات وبناء التحالفات الدوليّة والتمهيد لعقد الصفقات. وفي خضمّ هذا البرنامج الحافل شدّ رأسَا السلطة التنفيذيّة الرحال إلى القاهرة للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تأكيدا لأولويّة هذا التحالف، في حين لم يأت بعد دور تونس التي انهمكت قيادتها في خصوماتها الداخليّة، على حساب المصالح العليا للبلاد ودون وعي بتداعيات مثل هذا الإهدار المتعمّد لفرص استثماريّة كبرى، وكأنّ بلادنا ليست أجدر وأحقّ بها من غيرها…

في حضرة الغياب

على خلاف ما روّجته بعض الأبواق الإعلاميّة من أنباء زائفة بشأن تصريحات لرئيس الحكومة الليبيّة ينتقد فيها النظام المصري ولو ضمنيا، فإنّ رأسا السلطة التنفيذيّة الليبيّة كانت قد أشادا بالدعم المصري لليبيا وبالتجربة المصريّة في العديد من المجالات وبالرغبة في الاستفادة منها، وخاصّة في مجال الكهرباء والطاقة عموما. وذكرت بعض المواقع الإخباريّة أنّه من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة استئناف شركتي «بتروجت» و»إنبي» المصريّتين مشاريع كبرى سبق أن تعاقدت عليها في حقول النفط الليبيّة.

من المعلوم طبعا أنّ السلطة التنفيذيّة المؤقتة في ليبيا مدعوة اليوم إلى تنفيذ بنود خارطة الطريق المتّفق عليها في ملتقى الحوار السياسي الليبي، إلى حين تنظيم انتخابات 24 ديسمبر 2021. ومع ذلك جدّد رئيس المجلس الرئاسي الليبي الجديد محمد المنفي التأكيد على سلّم أولويّاته الملحّة، وفي مقدّمتها «توحيد المؤسّسة العسكريّة». ومن هنا نفهم دواعي أولويّة اللقاء بحفتر والسيسي وإرجاء المحطّة التونسيّة.

ولئن كان ذلك سيُتيح تدريجيّا تفكيك الميليشيات المسلّحة ومصادرة ترسانة أسلحتها الثقيلة والخفيفة، وتقوية عود السلطة المركزيّة للدولة الليبيّة ومؤسّساتها، فإنّه يعني أيضا أنّ هناك توجّها دوليّا إلى اعتماد المحاصصة في المناصب السياديّة العليا في الدولة، وذلك بناء على ما هو قائم على الأرض من توازنات القوى العسكريّة. كما يدلّ ذلك مجدّدا على أنّ الدولة التونسيّة لا تُشكّل طرفا دوليّا يُعتدّ به في التوازنات الداخليّة الليبيّة على خلاف دول الجوار الليبي الأخرى وبعض القوى الإقليميّة والدوليّة المعروفة بتدخّلها في الشأن الليبي مثل فرنسا وروسيا وإيطاليا والإمارات والجزائر وتركيا وقطر…

والمؤسف أنّ الدبلوماسيّة التونسيّة قد أدّت في سياستها حيال ليبيا دور الحياد السلبي بامتياز. وعلى امتداد السنوات العشر الأخيرة، كانت تونس تنوح بشعار رفض التدخّل في الشأن الليبي. وفي المحصّلة لم تحصد سوى الغياب والتهميش، بل لا تزال تونس إلى اليوم تتصارخ بصوت الضعفاء. في هذا المضمار مثلا يندرج تأكيد رئيس الجمهوريّة قيس سعيد، خلال الملتقى السياسي الليبي المنعقد بتونس في شهر نوفمبر 2020، على أنّ «الحلّ في ليبيا لن يكون إلّا ليبيًّا ليبيًّا، فليبيا قادرة بأبنائها على تجاوز الصعوبات، شريطة عدم تدخّل قوى خارجيّة». وها هي السلطات الليبيّة الجديدة تُسطّر أولى خطواتها عبر التحالف مع قوى خارجيّة لها وزنها على الأرض، في حين تفتقد تونس حتّى مقوّمات بعثة دبلوماسيّة في طرابلس.

كيف ننسى مثلا صفعة ألمانيا للدبلوماسيّة التونسيّة، في بداية عام 2020، حين استبعدت تونس من حضور «قمّة برلين حول ليبيا» بمنتهى الصلف والوقاحة؟!، متجاهلةً بذلك مختلف الاعتبارات الجغرافيّة والإستراتيجيّة واللوجستيّة التي توجب الحضور التونسي، لاسيما أنّ تونس تعدّ البلد الأكثر تأثرًا ببؤرة الصراع المسلّح في ليبيا. ومع أنّ مؤتمر برلين لم يحصد آنذاك سوى الفشل فإنّ التغييب الدولي المتعمّد لتونس والاستهانة بدورها لم يُفلح بعد في خلخلة بيروقراطيّة الماكينة الدبلوماسيّة التونسيّة إزاء الملفّ الليبي.

في هذا المضمار، أمسى من المعتاد أن تمرّ أسابيع وأشهر أحيانا دون أن نلحظ أدنى تحرّك أو موقف دبلوماسي تونسي إزاء الملف الليبي. وكأنّ تطوير العلاقات بين البلدين لا يحتاج أكثر من برقيّات تهنئة أو تعزية أو بيانات ترحيب من رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة ووزير الخارجيّة، حتّى باتت عبارة «علاقات إستراتيجيّة بين البلدين» بلا معنى حقيقي وعملي، على الرغم من أنّ ما يحدث في الساحة الليبيّة يعدّ شأنا تونسيّا بامتياز، والعكس صحيح.

خلفيّات التراجع

كانت تونس وستبقى البلد الأقرب إلى ليبيا والليبيين وعاصمتهم طرابلس، جغرافيا وتاريخيا واجتماعيّا. فأن يتلاصق البلدان عبر حدود بريّة يتجاوز طولها 450 كلم وأن تجمع بين الشعبين علاقات وثيقة ومتشابكة، من أخوّة ومصاهرة وتعاون، يعدّ أمرا عظيما ليس من حقّ أيّ كان أي يعبث به تحت أيّ مسمّى. ومن حقائق التاريخ، وليس من قبيل المنّة، أنّ تونس تحمّلت أكثر من غيرها تداعيات الصراع المسلّح في ليبيا وحربها الأهليّة وأعباء أزمة اللاجئين واحتضان آلاف الليبيّين الذين اضطرّوا للإقامة في تونس.

وقبل بركان عام 2011، بلغت علاقات التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين تونس وليبيا أوجها لاعتبارات سياسيّة وشخصيّة تجمع بين القذافي وبن علي. فالأمر لم يكن آنذاك يحتاج إلى دبلوماسيّة فاعلة بقدر ما كان مرتبطا بشبكة مصالح تربط الحاكمين الراحلين والدوائر المقرّبة منهما. أمّا بعد الثورة، فعلى الرغم من أنّ تونس كانت البلد الذي تحمّل أكثر من غيره أعباء الحرب وعدم الاستقرار في ليبيا، فإنّ ائتلافاتها الحاكمة فعلت كلّ شيء لضرب المصالح العليا للدولة والتورّط في تحالفات مشبوهة مع بعض أطراف النزاع لاعابارات أيديولوجيّة ومصلحيّة.

كما سيذكر التاريخ أنّ الماسكين بالحكم من عام 2011 إلى عام 2013، وأساسا حركة النهضة، يتحمّلون جانبا كبيرًا من مسؤوليّة نفور رؤوس الأموال الليبيّة ومغادرتهم تونس، بعد أن ورّط النظام التونسي الحاكم نفسه في مساومات وصفقات. ويكفي هنا الإشارة إلى مثالين، يتعلّق أحدهما بإطلاق سراح موقوفين ليبيّين من جماعات إسلاميّة تكفيريّة مورّطة في قضايا إرهابيّة، في حين يخصّ الآخر تسليم البغدادي المحمودي رئيس الوزراء الليبي الأسبق. وهو ما شكّل آنذاك فضيحة سياسيّة بامتياز، رغم أنّ حركة النهضة اعتبرته قرارا سياديّا واختلقت لتعويم القضيّة ما اشتهت من تبريرات واهية باسم إنفاذ القانون. والحال أنّ تلك الصفقة السياسيّة المحبوكة مع إخوان ليبيا قد عادت بالوبال على البلاد.

لا يخفى أيضا أنّ زمن الرئيس الباجي قائد السبسي لم يعرف بدوره تطوّرا إيجابيّا للفعل الدبلوماسي التونسي إزاء ليبيا الشقيقة. فقد بقي متأرجحا بين استعادة ذكريات منسيّة لصولات وزير خارجيّة أسبق واشتراطات دعم جماعة الإخوان وتشكيلات «فجر ليبيا» بضغوط من حليفه راشد الغنوشي أو ضغوط لوبيّات تونسيّة مرتزقة عُرفت بتعاملها مع جماعات تكفيريّة في ليبيا. وها هي البلاد اليوم، تواصل سياسة العمى الدبلوماسي ولا تفقه معنى الدبلوماسيّة الاقتصاديّة باستثناء مجرّد ترديده في الخطابات والمحاضرات.

ومع ذلك يكمن الأخطر اليوم في مواصلة مسايرة موقف إخوان ليبيا المعادي للمصالحة الليبيّة وعودة الحرارة مؤخّرًا إلى العلاقات بين الشرق والغرب، أيّ بين أصحاب السلطة والنفوذ في طرابلس وبنغازي ومصراتة التي ينحدر منها رئيس الحكومة الجديدة عبد الحميد دبيبه. نطرح ذلك بالنظر إلى ما عُرف عن قيادة حركة النهضة وأنصارها من اصطفاف آلي مع إخوان ليبيا، بدليل الصمت الراهن عن التطوّرات السياسيّة الأخيرة، ولاسيما بعد فشل رموز الإخوان في انتخابات السلطة التنفيذيّة المؤقّتة. يعني ذلك إذن عدم استيعاب ضرورة اندماج الحزب في الدولة المدنيّة، مقابل إيلاء الأهميّة الأكبر إلى التنظيم قبل الدولة.

وفي المحصّلة، من المرجّح أنّ ضمور قوّة جماعة الإخوان وميليشيّات الجماعات المتطرّفة قد أسهم في إرهاصات الحلّ للأزمة الليبيّة الخانقة واستعادة التأسيس للدولة المدنيّة. والمقصود بهذه الملاحظة أنّه من الصعوبة بمكان اليوم استعادة بريق الدبلوماسيّة التونسيّة إزاء ليبيا والفوز ولو بجانب بسيط من مشاريع التعاون وإعادة الإعمار، في ظلّ التدخّلات المتقاطعة في هذا الملف. وهو ما يكشف أنّ الغياب الدبلوماسي التونسي، بشتّى مكوّناته، عن التأثير في تفاعلات المشهد الليبي يبدو أقرب إلى نهج سياسي مقصود!.

نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 23 فيفري 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING